°°~دُمية مُطرزة بالحُب~°°
"الفـصل السابع والتـسعون" - الجُـزء الثـالث -"نحنُ لا نرغب في مرارة الواقع، نحنُ نحتاج للحُلم وإن كان لا يدوم."
_________________________________________
ضجت صرخة خرجت من أعماق جوفها، جعلت الجدران وكأنها تهتز من حوله بعنفٍ وقوة. صرخة أنبأت بوقوع نائبةٍ مفجعة، دفعته ليهرع بسرعةٍ غير مسبوقة، كي يصل لغرفتها القابعة بالأعلى. انتفض قلبهِ، وسرت رجفة عنيفة في أعصابه - التي لم يعد قادر على التحكم فيها -، حتى بلغ الغرفة وفتح بابها على مصرعيه، ورآها بعينيهِ المفزوغتين وهي تتوسط الفراش بإنزواء، والفزع متملكًا من حواسها تملكًا. ركض صوبها وسؤالهِ المرتعب يصدر من فمه :
- في إيــه اللي حـصل يامـلك، بتصرخي كـده لـيه مـالـك؟!.
تشبثت بيديهِ والرعشة المرعبة تسري بأطرافها، ولم تستطع التماسك أمام اصطكاك أسنانها، كأن البرد قد تسلط على بدنها المرتجف، الذي ينتفض بين يديه بشكل ملحوظ جعلهُ يُشفق عليها أضعافًا مضاعفة. شملت نظراته المضطربة حالها المسكين، فـ وخزهُ قلبه مُعيدًا عليها السؤال بصوتٍ أكثر تلهفًا :
- أهـدي طيب وفهميني، إيه اللي حصل لكل ده؟.
لم تكن في حالٍ يسمح لها التفوه بكلمة، فـ اختطفها بين ذراعيهِ وضمّها بقوةٍ، وهمس أثناء ذلك ليبث الطمأنينة في نفسها المرعوبة :
- خـلاص أهدي، أنا هنا جمبك مش هروح في حته، بس أهدي.
لم يكن الأمر يسيرًا عليه، انتشالها من هذه الحالة أو على الأقل التهدئة من روعها كان أمر في غاية الصعوبة؛ لكنه لم ييأس، وظلت محاولاته تتأرجح يمينًا ويسارًا حتى تسللت بوادر السكون لنفسها، وبدأت تستجيب رويدًا رويدًا بعد مجهودٍ مضنِ منه. أخيرًا عاودت النوم من جديد على صدرهِ، فـ لم يحرك "يونس" ساكنًا، وظل هاجدًا الليل بجوارها، يؤنسها ويستأنس بها، إلى أن عادت الأوضاع لسابقتها في النهاية.
****************************************
- كانت بتحلم، بس حلم تقيل أوي.
تركت "كاريمان" قهوتها الساخنة، وقطبت جبينها في ذهولٍ وهي تسأل :
- بتحلم! ، الحالة اللي وصلت لها دي بسبب حلم!.
أمال "يونس" رأسه لليمين وهو يدلك تلك المنطقة المتألمة من عنقهِ، وأجاب حينئذ :
- آه، الحمد لله إنه طلع حلم، أنا منمتش طول الليل من الخضة اللي أخدتها.
ونظر لساعة الحائط وهو يستعد للنهوض من مكانه :
- أنا هطلع أصحيها وأطمن عليها.
مع صوت حركة مقبض الباب انفتحت عيناها الحمراوتين عن آخرهما، وتأهب جسدها لأن ينتفض مفزوعًا، لولا إنها رأتهُ أمامها، فتخدرت حواسها وبقيت مكانها في الفراش، فقط عيناها تتجولان برعب ملحوظ. اقترب منها بخطى حذرة قارئًا لغة جسدها المرتعب، وبالقرب منها جلس بهدوءٍ ليقول :
- صباح الخير ياملاكي، عاملة إيه النهاردة!.
قبضت أصابعها على تلك الدُمية التي تتمسك بها، وأجابت بخفوت لم يخلو من نبرة الحزن المنكسر :
- كويسة.
امتدت ذراعه نحوها، لتمسح أصابعه على بشرتها برقة ناعمة :
- مش باين.. أنا مش عايزك تتأثري بمجرد حلم شوفتيه ياملك.
هزت رأسها نافية، وهي تعتدل في جلستها أمامه :
- مش حلم، ده ألعن كابوس شوفته في حياتي.. عارف يعني إيه تحس إن حياتك كلها كذبة !.. كل اللي عيشته وحتى الفرحة كانت كذب ، لما تحس إنك رجعت لنقطة الصفر وكل اللي شوفته كان مجرد محطة عديت عليها وخلاص هتسيبها وتمشي.
أطبقت أصابعه على يديها بحزمٍ مقصود، وأكد لها بصدقٍ :
- كل ده مش صح، أنتي دلوقتي عايشة الحقيقة الوحيدة اللي كنتي تستحقيها من زمان.
أحس بكونها مازالت متأثرة بما رأته، حتى إنها قد تكون غير مصدقة ما يسردهُ عليها، فـ انتقلت يداه لوجهها، واحتواه متعمدًا النظر المتعمق إليها قائلًا :
- أنا جمبك وانتي معايا، أنتي دلوقـتي مـراتي يامـلك، فاهـمة ده ولا لأ؟.. وقريب أوي هتصدقي الحقيقة دي.
أطبقت جفنيها المرهقين، واستمالت عليه برأسها تضعها على كتفهِ، كافحت لقتل كل تلك الهواجس الكاذبة في رأسها، لتوءدها وأدًا لا يقبل التفكير فيها مرة أخرى، ولكن ما عاشته من مآسٍ لم تكن هيِّنة عليها، فـ احتاج الأمر منها مجهودًا مضاعفًا لتتجاوز تلك الأزمة التي هجمت على حياتها بين ليلةٍ وضحاها.
**************************************
تأمل بتركيزٍ شديد، ونظراتهِ الشاردة قد سبحت في السماء التي حطت عليها الغيوم. تروس تفكيره لم تتوقف عن العمل، وقد شغل عقله تلك الحادثة المُريبة. أغلق "مدحت" زجاج النافذة وعاد ينظر إلى مكتبه الذي يحمل أوراق تلك القضية، وإلى تقارير الطب الشرعي التي أتتهُ منذ قليل. ترأس المكتب وسمح للطارق على الباب بالدخول :
- أتفضل.
دلف معاون المباحث متسائلًا :
- ها، وصلنا لحاجه جديدة.
تناول "مدحت" قداحتهِ وهو يشير بطرفهِ إلى الملف، وأجاب :
- الست دي ماتت مدبوحة بقالها أكتر من ١٠ سنين، تقرير الطب الشرعي بيقول كده.. بعت أجيب كل المحاضر اللي تخص الفترة دي عشان نطلع عليها ونقارن المواصفات وأقوال الشهود.
تناول معاون المباحث الملف أثناء وضعه لتخمين منطقي :
- يعني المسألة فيها قاتل راجل!.
- تقريبًا.
قالها "مدحت" مصحوبة بتنهيدة قوية وتابع :
- لسه تحليل الـ DNA كمان هيوضحلنا كل حاجه.. أنا بس عايز الموضوع يكون في سرية تامة لحد ما نكتشف دي مين، مش محتاجين شوشرة ولفت إنتباه.
- متقلقش من ده، بسيطة.
زفر "مدحت" أول دخان من سيجارته، وتمسكت شفتيه بها وهو يردف من بين أسنانه :
- طبعًا القاتل كان فاكرها أرض بور وبعيدة وعمر ما حد هيكتشف الجريمة اللي عملها، ميعرفش إننا هنوصل لحالة إعمار وزحف على الأراضي الصحراوية عشان نقدر نكفي على تعداد السكان وبالتالي جريمته هتتكشف.
انفلتت من "مدحت" ضحكة ساخرة، أعقبها بتصريحهِ الخطير والصادم :
- المفاجأة إن الست دي كانت حامل لما اتقتلت، وده ممكن يسهل علينا الوصول لهويتها.
******************************************
ترك خلفه كل ما شغل باله من مهام متأخرة، وانساق بكامل حواسه وراء المحامِ الذي أتى لإبلاغه بمستجدات القضية. التفت "يزيد" حول مكتبه ليكون مقابلًا للمحامِ، وتسائل بشئ من اللهفة :
- يعني تقريبًا الموضوع هياخد قد إيه عشان يتحكم عليه؟.
نزع المحامِ نظارته، وتطلعت نظراته الثاقبة في "يزيد" وهو يصرح له :
- شوية وقت، وطبعًا متنساش إنك هتكون الشاهد الرئيسي في القضية.. أنت كمان اتصابت بنفس نوع الرصاصة وده هيأكد ويدعم موقفنا في القضية.
بدأ ظل إبتسامة منتصرة يلوح على ثغره، وأبدى موافقته الشديدة للإدلاء بشهادتهِ التي ستفيد في مصير القضية :
- أشهد طبعًا، أشهد أوي.. المهم معتصم ميشوفش نور الشمس تاني.
أصدر هاتفه إهتزازت صامتة لفتت إنتباهه، فـ تناول هاتفه وأجاب على الفور :
- أيوة يايونس، لأ في المكتب مع المحامي، آه نغم موجودة.. في حاجه ولا إيه!
أصغى إليه جيدًا، وخلال لحظات كان العبوس يغطي كثيرًا من قسماتهِ، ثم أردف :
- حاضر جايلك، سلام.
ثم التفت للمحامِ من جديد :
- كنا بنقول إيه؟.
-على جانب آخر-
تآوهت "نغم" شاعرة بآلام طفيفة في مؤخرة ظهرها نتيجة الوقت الطويل الذي أهدرتهُ في العمل على الحاسوب، وتمايلت بجسدها يمينًا ويسارًا كي تفكك هذا التيبس قليلًا. تركت نظارتها على المكتب وغادرته مبتغية عمل فنجانين من القهوة الساخنة، حتمًا كلاهما يحتاج إلى ذلك بعد مجهود طويل على مدار اليوم.
من حين لآخر كانت تبتسم بوداعةٍ، كأنها تصنع قهوة مغموسة برائحة الحُب الذي إتشع في روحها. ذمّت على شفتيها مستعيدة كلماته الناعمة في الصباح، بدأت تعتاد على روحٍ جديدة سكنت حياتها، وكل أمنيتها ألا تتركها الآمال وحيدة في منتصف طريقها. أمسكت بفنجان القهوة خاصته بحذرٍ شديد، وسارت متهادية نحو غرفة مكتبه، وقفت لحظتين قبل أن تطرق الباب، فـ كانتا كفيلتين بأن تستمع لتلك الجملة التي رجت كيانها وزعزعتهُ :
- حق رغدة لازم يرجع، أي حاجه تاني مش مهمة، أنا عايزه يفني عمره بين حيطان السجون عشان عملته السودا في حقها، ولو جه إعدام يبقى ريح واستريح وانا كمان أستريح معاه.
وبدا صوته متأثرًا أكثر وهو يتابع بنبرةٍ غلفها الندم :
- هي خسرت حياتها عشاني، على الأقل لازم أجيبلها حقها.
وكأن نارًا أُضرمت في صدرها، واتقدت مشاعرها الغيورة تجاه تلك الميتة التي سلبتها إياه حتى وهي أسفل الثرى. ارتجفت يداها وكادت تُسقط قهوته، وتفشّى الحزن في روحها المهزومة. ابتعدت عن المكتب بخطواتٍ هزمها الإنكسار، لماذا مازالت تخسر معاركها؟. لماذا أهداها الأمل، بينما في قلبه عاشت روحًا ظنتّها قد غابت عن حياتهم؟. على ما يبدو إنها خاضت حربًا لم يكن مقسومًا لها الفوز بها، ومع أولى الضربات خرّت مُعلنة الهزيمة، وأصدرت فرمانًا بضرورة الإنسحـاب.
*****************************************
لُطـفًا من الجميع التفاعل.. ❤️🔥#دُمية_مُطرزة_بالحُب
#كل_منّا_بداخل_قلبهِ_مقبرة
#عالم_الكاتبة_ياسمين_عادل
#الجـزء_الثالث
أنت تقرأ
~دُمية مطرزة بالحُب~
Romance°°ماذا لو كنت دُمية؟.. دُمية حيِّة تتنفس.. بداخلها روح، ولكنها تحترق.. ولديها قلب، لكنه قلب يحمل بداخله مقبرة.°°