الفصل الثالث عشر

4.1K 106 5
                                    

الفصل الثالث عشر

أسود

تلاشت الغرفة تماما من حولها ... ما عادت ترى سوى عينيه السوداوين وهو يراقبها .. بنظرة عارفة ....
وقفت الجدة مستندة إلى عصاها وهي تقول بقلق :- ما الأمر فارديا ؟ ..ما الذي حدث ؟
وقفت غروب بدورها ... وأخذت تنظر إلى نديم الواقف عند الباب وكأنه ينتظر شيئا معينا ... بينما توترت أحلام وكوثر وهما تستشعران غرابة الوضع ..
لم تكن فارديا مدركة لكل هذا ..... الصخب كان يضج في أذنيها طاغيا على خفقات قلبها العنيفة .... ألم .. ألم كبير لا يحتمل كان يجثم فوق صدرها ... يمنعها من التنفس ... همست من بين أنفاسها العنيفة :- لقد كنت تعرف ..
لقد كان يعرف ... صمته كان إجابة واضحة ... بينما كان عقلها يصرخ بفكرة واحدة مازالت عاجزة عن تصديقها .. لقد مات والدها ... والدها ... مات ... دون أن تكون إلى جانبه ... لقد فقدته إلى الأبد ... إلى الأبد ..
حثتها غريزتها على ذرف الدموع ... عل شيئا من الضغط يخف عن روحها المكلومة ... إلى أنها ماكانت لتفعلها أمامه .. أرادت أن تهرب .. أن تتخطاه لتصعد إلى غرفتها ... أن تنزوي بنفسها كالفأر في حجره تلعق جراحها ... إلا أنها ما كانت لتهرب ..
ضاعت ... عاجزة بين قهرها وألمها الحارق ... بين حاجتها للصراخ ... للبكاء .. للجري نحوه وغرز أظافرها في وجهه ... وبين رضوخها لكبرياءها ... كبرياءها الذي كان أقوى مما احتاجت في هذه اللحظة ... كبرياءها التي استحالت إلى ثقل أسود من الغضب .. أطبق على رئتيها وأحاط بعينيها حاجبا عنهما الرؤية ... شهقت مذعورة عندما أدركت بأنها تختنق ... سمعت صرخة .. لم تعرف إن كانت صادرة عن أحد الموجودين في الغرفة ... أم عنها هي ... قبل أن تغيب تماما عن الوعي

صرخت الجدة مذعورة ... بينما أسرعت غروب في ردة فعل غزيرية تدور حول الأريكة لتتجه نحوالفتاة المكومة على الأرض .. غير أن نديم كان قد وصل إلى هناك أولا ... ركع على إحدى ركبتيه .. وجهه الأسمر محتفظ بصلابته رغم شحوبه الجزئي .. جس نبضها بأصابع خبيرة .. قبل أن يرفعها بسهولة بين ذراعيه قائلا بصوت مكتوم :- اتصلوا بالطبيب ..
راقبته النساء باضطراب وهو يغادر الغرفة .. الشخص الوحيد الذي بدا متماسكا كان غروب .. التي انحنت تتناول هاتفها الذي لم يتحطم بمعجزة عندما سقط من يد فارديا على الأرض ... ثم رفعته تطلب رقما مألوفا قبل أن تقول بجدية :- دكتور حمزة !!

حدقت أسما في قعر فنجان القهوة الذي أنهته منذ فترة طويلة .. غير مبالية بنظرات باقي الرواد الذين تناوبوا في احتلال الموائد المحيطة بها ... يقضون حوائجهم باحتساء قدح من القهوة .. أو تناول لقمة خفيفة قبل متابعة رحلاتهم المجهولة ... زوج عاشق انزوى في البعيد ... بدا منعزلا تماما عن الآخرين الذين بادلوهم نفس التجاهل في وجود فتاة وحيدة في مكان نائي كهذا تثير مزيدا من الفضول ..
كانت حائرة .. ضائعة .. متعبة ... تتوق إلى لحظة واحدة من الراحة العاطفية ... غير أن مآلها كان بعيدا جدا عنها ... كل ما أرادته يوما هو أن تشعر بأنها أهل للحب ... أن تشعر بانها ذات قيمة ... وطوال حياتها لم تصل يوما إلى أي مدى قريب من هذا الاحساس .. هذا الخذلان من الماضي والخوف من المستقبل .. لم تكن أسما من النوع المغامر .. لطالما فضلت اتباع الطريق الأسهل .. في طفولتها كانت دائما مطيعة وطفلة هادئة لطيفة ... في المدرسة كانت التلميذة المجتهدة دون نجاح يذكر .. مع طيبة وبراءة لطالما ميزتها ... في نضوجها أحبت ابن عمها حتى قبل أن تبدأ أمها بتوجيهها ... آه ... وطبعا كانت دائما الابنة الخنوع الخاضعة لوالدتها
إلا هذه المرة ..... أنا آسفة أمي .. لا أستطيع فعل ما تريدين هذه المرة ...
ما زالت غير مصدقة لأن أمها قد أمرتها فعليا بعد مغادرتهما مكتب نديم بأن تقبل بالخطوبة لأن ساري أسود .. شقيق العمة أحلام .. كان عريس لقطة تتمناه أفضل وأجمل البنات
:- إنه وسيم ومميز الشخصية .... حتى أنه يفوق ابن أخته جاذبية ... إنه ثري .. فلطالما تحدثت أحلام عن استثماراته الناجحة لميراثه في الخارج بعد أن أنهى دراسته ... كما أنه يفكر بإنشاء عمل هنا في الوطن كي تزداد زياراته وربما كي يستقر في مرحلة ما ... لقد سمعت بأن شقته في المدينة تتضمن أربع غرف نوم ... وسيارته ... لقد رأيتها ... إنها تحفة ...
قلبت أسما فنجانها ليحط على فمه فوق الطبق الصغير وهي تتذكر كلمات والدتها :- أنت ستذهبين إلى نديم الآن ... وتعلنين موافقتك على الزواج من الرجل .. رباه .. لا أكاد أطيق صبرا لرؤية وجه أحلام .. ما الذي فعلته بالضبط وأطاح الرجل عن قدميه ؟؟؟ لقد كنا معا في منزل الشاطيء .. لم ألحظ اهتمامه بك ... أيتها الخبيثة ...
أغمضت أسما عينيها شاعرة بالغضب هي لم تفعل شيئا ... هي لا تريد أي علاقة بالرجل .. وقطعا ترفض الزواج منه ... إنها لا تطيقه ... لا تطيقه
رأت يدا رجولية تحمل الفنجان المقلوب فاعتدلت كي تتيح للنادل رفعه بسهولة ... فوجئت به يجلس على المقعد المقابل لها دون أن يترك الفنجان ... لتفتح فمها مذهولة وهي تميزس هوية الرجل الذي اقتحم خلوتها ..
قالت بانزعاج :- ما الذي تفعله هنا ؟
:- ألحق بك بالطبع ... ظننت هذا بديهيا .. أخبرتني والدتك بأنك قد خرجت من المنزل غاضبة فخرجت وراءك .. ثم رأيت سيارتك مرصوفة خارج المقهى .. وها أنا هنا
كان يرتدي قميصا قطنيا أبيض اللون ... تعارض لونه مع سمرة بشرته الداكنة ... رفع أكمامه حتى مرفقيه ليكشف عن ساعديه القويين .. لتنتهي نظراته عند الفنجان المقلوب ...
لم تنظر حتى الآن إلى وجهه .. رافضة أن ترى الانتصار في عينيه الداكنتين .. قالت بجفاف :- ما الذي تريده مني ؟
لم يقل شيئا ... راقبته حائرة وهو يعيد قلب فنجانها .. والذي تلطخ طبقه كما جدرانه ببقايا القهوة التركية التي كانت تعشقها .. رفعت رأسها أخيرا لتنظر إليه وهو يتأمل قعر الفنجان بدقة واهتمام .. فسألته بتوتر :- ما الذي تفعله ؟
:- مممممم ... فنجانك مثير جدا للاهتمام
:- فنجاني !!!
:- ألم يسبق لأحدهم أن قرأ لك فنجانك ؟؟؟ والدتي كانت تقوم بها كهواية .. وأنا كنت أجاريها فأتعلم منها ... أنا ماهر جدا في قراءة الفنجان في الحقيقة .. أترغبين بأن أقرأ فنجانك ؟
نظر إلى عينيها بخبث فهزها لون عينيه الداكن ... لون الشوكولا .. وهاقد دمر متعة جديدة من متعها القليلة جدا في الحياة ... لن تأكل الشوكولا مجددا دون أن تفكر بعينيه ... شكرا
فهم صمتها كموافقة على ما يبدو إذ أنه عاد يركز في فنجانها الفارغ وهو يقول :- مممم .... حياة طويلة ... مملة وعادية ... أستطيع أن أرى هذا في ذاك الخط المستقيم ... لحظة .. إنه ليس كامل الاستقامة .. هناك بعض الشوائب ... أظن حياتك لن تكون مملة تماما في النهاية
:- لماذا طلبت يدي من نديم ؟
رفع عينيه إليها يسكنهما الغموض وهو يقول :- ولماذا يتقدم رجل لخطبة امرأة عادة ؟؟؟
قالت بعصبية :- كي يتزوج منها ... وأنت لا تريد أن تتزوج بي ... أنت حتى لا تريد أن تتزوج إطلاقا .. لطالما تحدثت العمة أحلام عن إضرابك هذا عن الزواج .. وأنا لن أصدق حتى لو أقسمت لي على أنني أنا من غير نظرتك إلى الزواج
شع بريق خافت في عينيه وهو يقول :- ذكية ... هذا يسهل علي ما سأقوله أسما ..
قالت بشيء من الانفعال حيث أحست بأنها على وشك الانهيار إرهاقا :- فقط أجب عن سؤالي ... لماذا طلبت يدي من نديم ؟
:- لأنني أريدك
لم يدرك أحدهما ارتفاع صوتيهما حتى عم الهدوء في المكان .. والتفتت الأنظار تحدق فيهما بفضول جعل ساري يخفض صوته قائلا :- أنا اريدك أسما ... وأنا أحصل عادة على ما أريده
قالت من بين أسنانها :- حتى لواضطرك هذا لفعل شيء يخالف مبادئك ؟؟
:- آه .. لا ... لقد قلتها بنفسك أسما .. أنا لن أتزوج أبدا .. وقطعا لن أتزوج بك ... إلا أنني قد أفعل في النهاية إن تقطعت بي السبل وكانت هذه وسيلتي الوحيدة لنيلك ... الطلاق ليس بالشيء الغريب عن المجتمع هذه الفترة ...
احست بالغضب يطبق على أنفاسها وهي تقول ضاغطة على الحروف :- أنا لن أتزوج بك أبدا ساري أسود .. ولو كنت آخر رجل متوفر على الأرض
هز كتفيه قائلا :- ليس هذا ما تقوله والدتك ... لقد تحدثنا قليلا بعد رحيلك ... وقد أخبرتني بأن رفضك هذا مجرد رد فعل بسبب تعلقك الغبي بنضال ... بأن كل ما تحتاجينه هو قضاء بعض الوقت معي كي تعتادي على صحبتي .. وهي على العكس منك ... تجدني عريسا لا يفوت لابنتها الكبرى
مد يده يلامس أصابعها قائلا بتهكم :- أكاد لا أطيق صبرا لقضاء الوقت معك حبيبتي
سحبت يدها قائلة بشراسة :- ستغير رأيها فور أن أخبرها بالحقيقة ... هي ونديم ... عندما يعرفان سيطردانك من البيت شر طردة ..
:- لم لا تفعلي .... أنتظر بشوق سماعك وأنت تخبرين أمك بأنني لا أرغب بالزواج منك لأنك لست جيدة بما يكفي ... بأنك لست جميلة بما يكفي لإرضاءي كزوجة ... وأن ما أريده منك هو اللهو لبعض الوقت .. لأنه ما خلقت لأجله .. ألن يغير هذا نظرة العائلة كلها إليك
اصفر وجهها وكلماته تصفعها في الصميم ... هذا الرجل ... هذا الرجل عرف أعمق وأظلم مخاوفها .. هذا الرجل فهمها وأدرك أكثر ما يؤلمها دون أن يمضي الكثير من الوقت برفقة العائلة .. تناولت حقيبة يدها ووقفت مندفعة إلى خارج المقهى
لحق بها ساري بسهولة .. أوقفها أمام باب سيارتها الأمامي مانعا إياها عن فتحه ... أمسك بمعصمها وأدارها نحوه قائلا بصرامة :- انظري إلي أسما ... أنت ستخطبين إلي .. لأن لا أحد على الإطلاق سيصدق أن خطبتنا مجرد وسيلة أتبعها لنيلك ... وفي النهاية ستتزوجين مني ... أنا مستعد للمضي قدما حتى النهاية لأجل أن انال هذا الجسد الفاتن ... وسأفعل ... ليلة زفافنا .. سأحرص على أن أفعل به كل ما أريد .. بحيث أتركك تتألمين شوقا للذة التي أنوي تعليمك إياها ... حين أقرر أن أرحل
رغم شحوب وجهها ... كان جسدها يرتعش تأثرا بكلماته الوقحة والجريئة ... همست بضعف :- هذا لن يحصل .. أتفهمني ؟؟؟ لن نصل أبدا إلى الزفاف
:- هذا متوقف عليك أنت أسما ..
رمشت بعينيها وهي تنظر إليه ضائعة ... كان وجهه مظلما وتعابيره جامدة .. إنما كانت عيناه الداكنتان تلمعان بعنف جعلها ترتعد :- سأتركك في حالك ... وارحل دون عودة ... إن منحتني ما أريد ..
تلاحقت أنفاسها وهي تستوعب ما يطالبها به .. وقالت هامسة :- لا ... لا أستطيع ... أنت مجنون .. كيف تطلب مني أن ... لا أستطيع ...
التوت فمه بابتسامة ساخرة وهو يقول :- تخشين على براءتك الغالية ... على عذريتك الثمينة التي ستضمن لك العريس المناسب .. صحيح ؟؟ أمازلت خدعة العذرية سارية المفعول على رجال هذا العصر ؟؟؟ انظري إلي حبيبتي ... عذريتك بأمان معي ..أنا لن أمسها بسوء مادمت تمنحينني كل شيء آخر
أخذت ترتجف خوفا وذعرا من جرأة كلماته ... لم يكن مدركا لتجاوزه كل الحدود معها ... بأنه يسطو على جزء محمي تماما من براءتها ... عندما لاحظ ارتعادة جسدها .. قال ساخرا :- ما الأمر عزيزتي ؟ ألم تفعليها من قبل ... ولا حتى مع نضال ؟؟؟ .. عندما كنت تتسللين ليلا إلى غرفته المظلمة بعيدا عن أنظار العائلة ؟؟
هتفت بعنف وهي تسد أذنيها :- لا .. لااااا
أمسك بمعصميها ... وأبعدهما عن أذنيها قائلا :- هناك دائما مرة أولى ... وأنا أتوق لأن أكون اول من يعلمك ... ستكونين لي أسما ... شئت أم أبيت .. قاومي .. إلا أن مقاومتك لن تزيدني إلى إصرارا وتشبثا بك
دفعته عنها فتراجع بسهولة تاركا إياها تستقل سيارتها ... وتنطلق بها مسرعة وكأن الشياطين تلاحقها ... استل علبة سجائره ليشعل واحدة ... فأدرك بأن أصابعه ترتجف .. وكأن تأثير كلماته قد أصابه في الصميم قبل أن يجرح براءتها

زهرة في غابة الأرواح(الجزء الثالث من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن