الفصل التاسع عشر

4.5K 132 7
                                    

الفصل التاسع عشر

تحت المطر

ضربات الأمطار كانت تزداد حدة شيئا فشيئا مع مرور الوقت .... الصمت التام .. الذي تخلله إيقاع الطبيعة ... ممزوجا بضربات قلبه التي لم تتوقف عن الهدر داخل صدره مذ تركها هناك ..
على بعد أمتار منها ... عشرين مترا بالضبط ... بحيث لا يراها .. لا تراه .. إنما قادر على سماع أي ضجيج يصدر عنها .. إنما لم يكن هناك من ضجيج ... فقط السكون ... السكون الذي شمل الغابة ليلة غابت فيها أماني .. لم يسمع أحدهم صراخا ... لم ير أحدهم أي علامة على أن حياة شخص ما ستنتهي عقليا على الأقل تلك الليلة ..
بحركة عفوية لا فائدة لها ... مسح المياه الغزيرة التي أغرقت شعره القصير وبللت وجهه .. يتذكر اللحظات التي سبقت عودته إلى الغابة .. عندما خرج ليجد جدته هناك ... محمية من غزارة الأمطار بالسقف المعلق الذي حمى المنطقة المحيطة بالباب الخلفي للمنزل ... بعيدة بالكاد عن مرمى البلل . جالسة مكانها ... تطرق بعصاها الأرض .. دون أن تتوقف عن التحديق في الغابة الحالكة الظلمة ... مقيدة بعجزها ... بروحها حبيسة محيط المنزل .. وإلا ما كانت ترددت لحظة في اختراق المجهول لأجل إعادة الفتاة
:- من الأفضل أن تدخلي جدتي ... ستصابين بالبرد
نبرته الهادئة لم تنجح حتى في دفعها للنظر إليه غمغمت :- وماذا عنها ؟؟؟ ألا تهتم ولو قليلا بما يصيبها هناك ؟
خطا حتى وقف إلى جانبها ... ينظر بدوره إلى ظلمة الغابة ... يصارع ألما لا يذكر أنه قد فارقه لحظة واحدة لسنوات ... لا ... لقد فارقه قبل أسبوعين ... بعد وفاة عمته بأيام .. لساعات قليلة .. هو كان شخصا مختلفا عن ذاك الرجل المشبع بالغضب والكراهية .. قال بوجوم :- أهتم جدتي ... أهتم
قالت بلوعة :- لماذا لا تذهب وتحضرها إذن ... ألا يكفي ما فعلته بها حتى الآن ؟؟ إنها هناك منذ ساعات نديم ... ساعات ... إن أصابها مكروه .. لن أسامحك أبدا .. أتفهمني ؟؟
قال بهدوء :- لن يصيبها مكروه ..
:- أتظن حبلا يقيدها يمنعها من إيذاء نفسها كما فعلت عمتك ؟؟؟ الأذى لا يأخذ شكلا واحدا دائما نديم ... الله وحده يعلم ما يحدث الآن هناك في الأحراش .. إنها لا تمتلك حتى حق منع نفسها من النظر .. كما فعلت أماني
قال بشيء من الحدة التي تخللها التوتر :- لن يحدث شيء جدتي ... هي أقوى من أماني .. هي آمنة من نفسها .. لقد حرصت على أن تكون كذلك
هتفت بقهر :- لماذا تفعل بها هذا إذن ؟ لماذا تعذبها بهذا الشكل .. لماذا تدمرها ؟؟
صمت لدقيقة كاملة تخللتها ضربات المطر الرتيبة والصاخبة قبل أن يقول بصوت مكتوم .. وعلى وجهه الوسيم والصلب ترتسم معالم المرارة :- لأنها تمثل كل جميل لن أحظى به جدتي
في عمق الغابة التي يحفظها عن ظهر قلب كباطن كفه .... فكر بمرارة ... أيستطيع هدم ما تراكم عبر السنين الطويلة بنفخة هواء ؟...أيستطيع إحياء شيء مات منذ دهور ... وما الفائدة .. إن كان إحياءه متبوعا دائما بموته ألما ؟؟؟
سألته جدته قبل أن يتركها بصوت مهزوز :- أتكرهها إلى هذا الحد ؟؟ أم أنك تخافها لا أكثر ؟
أيكرهها ... أم يخافها ... أحس بالرغبة في الضحك مرارة ... لأن الإجابة على كلي السؤالين كان النفي .. هو لا يكرهها ... هو لا يخافها ... هي فقط يضخها في قلبه مع مجرى دماءه ... هو فقط .. مسموم بها .. يخشى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في النهاية باسمها ... لم يكن هذا ما خطط له .. لم يكن هذا ما أراده ... أن يرغب فارديا ربيعي أمر طبيعي ... كما يرغب الإنسان بالهواء والماء كي يعيش .. أم أن ترغبه هي ... أن تريده هي .. فهي غلطة لا تغتفر ... غلطة ارتكبتها قبل أسبوعين .. غلطة يجب أن تدفع ثمنها .. لأنه لن سمح لنفسه أبدا بأي سبيل يعيده إلى الوراء ... إلى الكائن الضعيف الذي كانه يوما .. عندما توهم الحب فيمن حوله فخذلوه ... كلمات مضحكة من رجل أتم الخامسة والثلاثين من عمره .. إلا أنها ليست كذلك عندما يعاني طوال هذه السنوات من الهجر .. والغدر .. والفقدان ... لقد اكتفى .. ما من سبيل لهزيمة أخرى ...
استمر المطر في الهطول الغزير ... يزداد ضراوة شيئا فشيئا ... فرفع رأسه مغمضا عينيه ... يفكر بها في هذه اللحظة .. يشعر بكل قطرة مطر تداعبها بلؤم مذكرة إياها برفاهية دفء لا تمتلكه ... أعليه ان يذهب إليها .. أن يخلصها من عذابها ... أن يضمها إليه فيغمرها بدفءه ... ولكن ... ماذا عن عذابه هو ؟؟ ما الذي سيقوله لها ؟؟ ... لقد انتصرت مجددا فارديا ربيعي ... لقد خسرتُ الرهان ... وثقلت كفة عبوديتي لك مكيالا آخر ؟؟
قبل أن يتعمق اكثر في معاركه النفسية ..... شقت الهواء صرخة بدت وكأنها قادمة من أعمق زوايا الجحيم ... في حين أنها كانت قادمة من منتصف الغابة .. حيث ترك نديم فارديا بالضبط


زهرة في غابة الأرواح(الجزء الثالث من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن