الفصل الخامس والعشرون

4.8K 136 7
                                    

الفصل الخامس والعشرين

بائعة الأزهار

تحت إصرار صلاح .. خُصِصَت سيارة بسائق خاص لأخذ لوتس إلى الجامعة وقد بدأ العام الدراسي الجديد .. كان من المفترض بها أن تتخرج هذا العام .. إلا أنها وبسبب الظروف الصعبة في نهاية العام الماضي .. لم تتمكن من ذلك ... والآن وهي تراقب المدينة من وراء نافذة السيارة الفارهة ... كانت تشعر بتوترها وقلقها يتعاظمان كلما اقتربت من الحرم الجامعي ... كيف ستواجه زملاءها بعد الفضيحة التي طالتها العام الماضي ... كيف ستنظر في عيني نضال إن قابلته ... كيف ستحتمل سخرية راما وتهكمها منها على الملأ ؟؟ رباه ... هل عليها أن تحتمل كلها فقط لأن ثلاث مواد تقف في وجه تخرجها ؟؟؟
لحسن حظها أنها لن تضطر للدوام بشكل يومي الآن ... بضع محاضرات أسبوعيا لن تقتلها ... إن رؤية فارديا والطريقة التي كانت تتخطى فيها مصابها كفيل بمنحها ما يكفي من الشجاعة كي تفعل المثل .. فارديا التي بدت قوية وصلبة ...متماسكة رغم تشوش الذهن والشرود اللذين أخذاها بعيدا كلما ظنت أن أحدا لا يراقبها ... رغم مرور عشرة أيام تقريبا على خروجها من منزل آل فهمي .. إلا أنها أحيانا تبدو وكأنها ما تزال هناك ... مازالت ذكرى هذا الصباح تثير لدى لوتس القشعريرة في أنحاء جسدها ... أرادت عندما استيقظت باكرا أن ترى شقيقتها قبل أن تغادر إلى الجامعة ... فوقفت عند الباب المفتوح للغرفة التي خصصها صلاح لفارديا ... لتسمعها تتحدث إلى محمود الصغير ... ابن صلاح البالغ من العمر أربع سنوات لا أكثر .. سمعته يقول :- أي إسم هو فارديا ؟؟ لم أسمع به من قبل ...
:- إنه اختصار لبوفارديا ... وهي زهرة جميلة سأريك صورتها في يوم ما
قال بفخر :- أستطيع البحث عنها بنفسي ... أبي يسمح لي باستخدام حاسوبه كلما أردت .. ماما تقول بأن الوقت مبكر على هذا .. إلا أن أبي يصر على أن تعلم استخدام الحاسوب أهم بكثير من تعلم القراءة والكتابة ..
ابتسمت لوتس حنانا وفخرا بابن أخيها الصغير الشديد الفصاحة نسبة لعمره اليافع .. ثم سمعته يقول :- من المفترض بالعمات أن تجدن سرد الحكايات .. صحيح ؟؟ العمة جودي تحكي قصصا ممتعة إنما غير مناسبة للصبيان مثلي .. تصر جنا ومايا دائما على سماع قصص الأميرات المملة ... يعععععع
قالت فارديا بصوت متفكه :- وما القصص التي تحبها ؟؟؟
قال بلهفة :- القصص المخيفة .... لقد حاولت العمة لوتس أن تحكي لي واحدة .. إلا أنها فاشلة تماما ..
القرد الصغير ... كبتت لوتس ضحكتها وهي تستمع بجذل إلى ضحكة فارديا التي قالت :- أطمئنك إذن بأنني بااااااارعة جدا في حكاية القصص
:- احك لي واحدة ... أرجوك عمة فارديا
:- ممممم ... حسنا ... يحكى أن بائعة زهور صغيرة ...ممم ... لنسميها زهرة
قال بتذمر :- فتاة أيضا !!!
:- كن صبورا ... الحكاية لم تبدأ بعد... كانت زهرة فتاة يتيمة .. لا تمتلك في حياتها سوى شقيقة صغرى .. وأزهارها التي كانت تزرعها بعناية كي تبيعها كل صباح في القرية ... في يوم من الأيام ... بينما كانت تحمل سلة الأزهار البديعة .. تمشي في الطرقات مرددة بصوتها الشجي ألحانا جميلة .. مغرية المارة بشراء أزهارها ذات اللون الأحمر القاني دون أن تجد من يستجيب لها ... أوقفتها امرأة عجوز ... كانت مجعدة الوجه واليدين ... تمتلك عينين ثاقبتين للغاية ... قالت لها ( لن تجدي مطلبك هنا ... اذهبي إلى ذلك المنزل الكبير المشيد أعلى التلة في نهاية الطريق ... هناك ... ستجدين من يأخذ عنك أزهارك . ويقدرها حق قدرها ) .. كانت زهرة تعرف ذلك المنزل ... الناس في القرية كانوا دائما يتحدثون عنه ... منزل قديم مظلم ... يعود عمره لمئات السنوات ... لا يجرؤ أحد على طرق بابه ... إذ أن أصواتا غريبة كانت تأتي من الغابة الممتدة وراءه .. والمتصلة به ... لم ترغب زهرة بالذهاب .. إلا أنها فعلت رغبة منها في بيع أزهارها ... والعودة إلى شقيقتها الصغرى محملة بالمال الكافي لشراء الطعام ... سارت إلى هناك ... حتى وقفت أمام الباب المرتفع المخيف ... قبل أن تقرع الجرس ... فتح الباب وحده وكأنه ينتظرها كي تدخل ...
حبست لوتس أنفاسها وهي تستمع إلى القصة ... ارادت أن تقطعها ... أن تمنع فارديا من الاسترسال .. إلا أن الفضول تملكها ... فتركت نفسها تستمع إلى الحكاية
:- عندما دخلت زهرة إلى المنزل .... وجدت المكان خاليا تماما .... لا وجود لأحد داخله .... سارت في أنحاءه وهي تصيح( يا سكان المنزل ... أما من أحد هنا ؟؟؟ ) ... وإذ بصوت بعيد كان يهتز مع الرياح القادمة من الخارج .... ينادي من بعيد ( زهرة .... زززهررررة ) .... خافت ... وأرادت أن تركض هاربة ... إلا أن فضولها كان كبيرا .... استجابت للنداء... وسارت نحو مصدر الصوت القادم من الغابة المعروفة بسحرها ... كان الصوت يزداد ارتفاعا وضجيجا كلما اقتربت ... ( ززززهرررة .... ززززاااااااهرة ) ... خافت زهرة ... وقررت أن تعود أدراجها ... إلا أنها كانت قد تاهت فعجزت عن إيجاد سبيل العودة ... أخذت تركض وتركض ... والأصوات تناديها وتناديها ... حتى وجدت تلك المرأة
هتف محمود بصوت مبهور وقد تلاحقت أنفاسه :- أي امرأة ؟؟؟
:- امرأة غريبة ... جلست فوق مقعد خشبي قديم ... تدير ظهرها لزهرة التي أخذت تبكي وهي تقول ( ساعديني يا خالة ... أنا عالقة ... أخرجيني من الغابة ) ... وإذ بالمرأة تقول بصوت كالفحيح ....
لم تستطع لوتس الاحتمال ... فتحت الباب على الفور قائلة بصوت حمل شيئا من توترها :- صباح الخير ... لم أعرف أنك مستيقظة فارديا
قالت فارديا بهدوء بينما لاحظت لوتس شحوب وجهها :- منذ متى أتأخر في الاستيقاظ لوتس ..
قال محمود متذمرا :- لقد قطعت حكاية العمة فارديا ... أنت مزعجة عمة لوتس ...
قلت بغيظ وهي تداعب رأسه :- وأنت تزعج العمة فارديا وقد أوصتك أمك ألا تفعل ...لن تكون مسرورة إن عرفت بإيقاظك لها في هذا الوقت المبكر ..
قال بعناد وهو يعقد ساعديه امام صدره :- أنا لست خائفا فأنا لم أوقظها ... لقد كانت صاحية عندما طرقت الباب
رغم ثقته المحببة بنفسه ... تراجع بذكاء أمام ذكر غضب والدته ... وانطلق تاركا إياهما وحدهما ... قالت لوتس بابتسامة متوترة :- أنت تعرفين بأنه لن يتركك في حالك حتى تنهي الحكاية فارديا
قالت فارديا بجمود :- لا تقلقي ... سأجد لها نهاية مناسبة ...
ساد الصمت للحظات بينهما قبل أن تقول لوتس بخفوت :- فارديا ..... هل أنت بخير ؟؟؟
تنهدت فارديا وهي تضم ركبتيها إلى صدرها جالسة فوق السرير قائلة :- سأكون بخير فور ان نعود إلى منزل والدنا ...
قالت لوتس بقلق وهي تجس إلى جانبها على حافة السرير :- أمازلت لا تحبين صلاح ؟؟؟
صمتت فارديا للحظات قبل أن تقول بهدوء :- ليس الأمر كذلك .. أنا ممتنة لما فعله صلاح لأجلي .. إلا أنني لن أجد نفسي حقا حتى أعود إلى منزلي ... منزلنا لوتس .. منزل والدنا ... منزل آل ربيعي ...
كانت لوتس تتفهم حاجة فارديا للعودة إلى منزل العائلة ... إذ بطريقة ما كان وجودها في منزل آل نجار يبقيها عالقة في لعنة آل فهمي كما كانت تسميها منذ عودتها ... لم تحك الكثير عما عانته هناك ... ما فاجأ لوتس وصدمها أنها لم تتحدث بسوء عن أحد أفراد تلك العائلة قط ... حتى عن نديم فهمي ... الاسم الذي يبقي شقيقتها مستيقظة طوال الليل ظانة أن أحدا لا يشعر بها .... الاسم الذي يوقظها من نومها مذعورة .. صارخة به .. ظانة أن أحدا لا يسمعها ..
قالت فارديا فجأة :- أريد الذهاب لرؤية بوفارديا
ظلل الذنب وجه لوتس وهي تهمس :- فارديا .. أنا ...
قاطعتها فارديا قائلة بحسم :- لا تعتذري ... أنت لاتدينين لي بشيء .. يكفيك ما عانيت منه بسببي
كانت لوتس قد حكت لها باقتضاب واختصار عن شجارها مع جمال ...لم تتحدث عن راما .. أومعرفته بفضيحتها ... تعللت بغضبه لرفضها الاستجابة لطلبه بالذهاب مباشرة إلى صلاح .... بينما لم تطلب فارديا المزيد من التفسير لرحيل جمال ... فسرت لوتس بأنها ما تزال تشعر بالذنب لما لاقاه بسببها عندما حاول مساعدتها ...
توقفت السيارة أمام بوابة الجامعة الرئيسية فارتجفت لوتس خوفا قبل أن تحمل نفسها حملا على مغاردة السيارة ... قال السائق بتهذيب :- سأنتظرك هنا آنستي ... أوامر السيد صلاح تقضي بهذا ...
مازالت غريزة صلاح الحمائية تثير لدى لوتس تلك الفرحة المشوهة بالذنب كلما تذكرت تحفظ فارديا اتجاهها ... تمالكت كل ما لديها من قوة وشجاعة .... وسارت نحو الكلية ..
بعد ساعات ... كانت تجلس فوق أحد الأدراج البعيدة ... حائرة في حالها ... نهارها الأول في الجامعة ... مر - وياللدهشة - على ما يرام ... لم يبد على أحد من زميلاتها اللاتي رحبن بها بشكل طبيعي أنهن تذكرن شيئا عن قصتها مع نضال .. هل ذاكرة البشر قصيرة إلى هذا الحد ؟؟؟ أم أن فضيحة أخرى قد غطت على حكايتها المخجلة ؟؟؟ لا يمكن لراما أن تترك الأمر يمر بهذه السهولة ... لن تكون راما إن فعلت ... كانت لتحرص على ترك الأمر متداولا بين جميع الزملاء لأشهر بين أروقة الكلية ...
ربما هي إشارة ... حافز لها كي تتوقف عن الخوف ... عن التأرجح في سيرها خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الخلف ... يجب أن تتخطى مشاكلها كما فعلت فارديا ... إنها ابنة أمها مثلها بالضبط .. أي أنها يجب أن تواجه مخاوفها بشجاعة وإقدام ...
ابتداءا من هذه اللحظة ...
اتسعت عيناها وهي ترى نضال خارجا من إحدى الغرف الإدارية برفقة أحد الموظفين وهو يتحدث إليه بجدية ... شحب وجهها وتخبطت معدتها اضطرابا وهي تقف بنية الهرب من أمام ناظريه .. الاختفاء قبل أن يراها .. إلا أن الأوان كان قد فات عندما أدار عينيه نحوها ناظرا إليها مباشرة ...
كان بإمكانها أن تهرب ... أن تستدير بدون مقدمات وترحل موفرة على نفسها بشاعة الموقف ... إلا أنها جبنت حتى عن اتخاذ هذا الموقف ... جمدت مكانها وهي تستجمع شجاعتها المفقودة .. مذكرة نفسها بأنه هو الشخص السيء في حكايتهما لا هي .. هو من كان مؤذيا ... لا هي ... هو السافل .. وهي ....... كانت فتاة غبية لا أكثر .. إذ أنها وهي ترى وسامة نضال السطحية إلى جانب عمق شخصية جمال .. تتساءل عما أوقعها في شراكه ...
اعتذر من مرافقه ... ثم اتجه نحوها بخطوات مصممة جعلتها تتراجع خطوتين مذعورة ... ما الذي يريده مني ؟؟؟ .. سرعان ما أصبح واقفا أمامها مباشرة ... مجفلا إياها بالنظرة المرتبكة في عينيه ... وكأنه هو نفسه عاجز عن مواجهتها ... سألها بهدوء :- كيف حالك لوتس ؟؟
قالت بفظاظة :- ما الذي تريده ؟؟
ابتسم بحزن قائلا :- لا ألومك على كراهيتك لي لوتس ... أنا لا أريد سوى الاعتذار فقط على ما فعلته بك .. على الأذى الذي سببته لعائلتك ..
قالت باقتضاب :- لن يجدي اعتذارك نفعا ... ما حدث قد حدث .. والعطب الذي أصاب شقيقتي بسببك وبسبب ابن عمك لن يزول أبدا .. أنا لن أسامحك أبدا نضال فهمي ..
من الغريب أنها وبعد أن نطقت بهذه الكلمات قد أحست وكأن حملا ثقيلا قد انزاح عن ظهرها ... وكأن هوية لوتس ربيعي قد اتضحت أخيرا بعد أن أخذت بثأرها .. ورمت باعتذار نضال فهمي في وجهه ...
رفعت رأسها متحدية إياه بكبر .. ثم استدارت مبتعدة .. ناداها قائلا :- لوتس ... انتظري ...
في اللحظة التي لامست بها أصابعه مرفقها تعالى صوت خشن يقول :- ارفع يدك عنها ..
التفت الاثنان نحو الشاب الذي بدا في تلك اللحظة ... بالغضب الهادر المطل من عينيه ومن ملامحه الخشنة .. قادرا على قتل إنسان ... همست وقلبها يخفق بدوي صاخب :- جمال ...
بينما قدر نضال على الفور أهمية الشاب في حياة لوتس ... وأدرك أيضا من نظرته السوداء .. أنه يعرف بالضبط دوره القصير في حياتها ... نقل نظره بينهما قبل أن يقول بتوتر :- لوتس ..
قاطعه جمال بجفاف :- هل أنت نضال فهمي ؟؟
قال نضال فهمي ببرود مواجها إياه :- هو بعينه ..
بالكاد أنهى العبارة ... وكانت قبضة جمال قد طارت بلمح البصر لتضرب فكه السفلي بعنف دفعه ليسقط أرضا على مرأى من جميع الموجودين حولهم ... تعالت الشهقات والصيحات .. وتزاحم الطلاب حولهم في اللحظة التي أمسك فيها جمال بيد لوتس قائلا بغلظة :- لنذهب من هنا
لم تجرؤ على الاعتراض ... تركت نفسها تسحب وراءه بينما هي تنظر من فوق كتفها إلى نضال الذي نهض ببطء وهو يدلك فكه ... وعينيه اللامعتين تراقبان كل من لوتس وجمال وهما يختفيان عبر الأروقة خروجا من الكلية
:- أستاذ نضال ... هل أنت بخير ؟؟
:- من الأفضل أن تقدم شكوى ضد ذلك الشاب ... سيطرد من الجامعة بلمح البصر نتيجة فعلته
:- هل تحتاج لرؤية الطبيب ؟؟ المشفى الجامعي ليس بعيـ ...
قاطع نضال سيل التساؤلات وهو يقول بصوت مرتفع أدهش الجميع بهدوءه :- أنا بخير يا جماعة ... الأمر لا يتعدى سوء فهم بسيط ... رجاءا ... فليذهب كل منكم في حاله ...
انفضت الجموع دون أن يتوقف الهمس حول الأمر .. عرف نضال بأنهم لن يتوقفون عن تداول الحادث قبل فترة طويلة .. فارتسمت ابتسامة لا إرادية على وجهه ... ابتسامة متهكمة وهو يجمع أوراقه المبعثرة على الأرض هامسا :- كما تدين تدان ...

زهرة في غابة الأرواح(الجزء الثالث من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن