هل تعلم...
تم تطهير ٨٠٪ من غابات الأرض الأصلية، أو تدميرها.
______________
ازدادت الأيام كآبة، وازداد اشتياق روان لعائلتها
التي لم تتواصل معهم منذ أشهر، حتى الرسائل
التي تستقبلها خالتها لم تعد تراها، لا تلبث أن تفكر أن شيء سيء قد حدث، ربما نال الأشرار منهم، ربما وربما...!لم تعد تحسن النوم كذلك، صارت تخاف أن تغلق عينيها فترى أشباح والديها، كوابيس مريعة تلاحق أجفانها، ولا تجد من يطبطب على ظهرها.
المدرسة التي ظنت أنها ستحبها كانت كالجحيم، حين عرف طلاب فصلها أنها ابنة المزارعة المجنونة لم يلبثوا حتى أطلقوا عليها لقب (آنسة نبتة) وكانت المزحة تنص على أن خالتها قامت بزراعتها ومعاملتها كبشرية، حتى تحولت بالفعل كذلك!
رغم أنها كانت مجرد مزحة؛ إلا أن البعض أخذها بجدية، ولم يعودوا ينادونها باسمها، وصار من الطبيعي أن يلتفوا حولها ويطلبوا منها أن تتحول إلى شجرة أو أي نبتة أخرى لدافع الضحك والسخرية، وكان اسم خالتها يتداول حولهم كاسم مشعوذة، لم تملك القدرة عن الدفاع عن نفسها حتى تدافع عن خالتها.
الشيء الوحيد الذي أحبته بالمدرسة كانت المعلمة دلال، تلك المرأة المستقيمة بفخر، والتي تفرض على جميع رواد المدرسة احترامها، إن الجميع مولع بها، إناثًا وذكورًا، الصفوف العليا والصفوف الابتدائية، اكتشفت روان أنها تريد أن تكون مثلها، متألقة وقوية، لا تخشَ رجلاً ثائرًا مثل الوحش الغاضب، إنها تتحدث بثقة ولا تنهار، متماسكة وأنيقة حتى في غضبها، وحين نظرت روان للفرق الكبير بينهما، ازداد إحباطها، وقلّت ثقتها بنفسها حتى وصلت القاع، صرخت حينها لنفسها: «لن تصبحي مثلها، أنتِ جبانة لتصبحي مثلها، لن تصيري مثلها أبدًا.»
في أحد الليالي التي غيرت مصيرها للأبد، انتهت دروسها مبكرًا قبل أن تنتهي حصص وليد رفيق الطريق، فانتظرته طويلاً بالخارج حتى صار إزعاج الطلاب لها غير محتمل، سارت إلى الفصول العليا تبحث عنه، ولحسن حظها أن الأبواب مفتوحة فالحرارة لا تحتمل، وحين وجدته كانت المرة الأولى التي تراه غير منشغل بهاتفه، بل يخربش على دفتره، وعندما رآها؛ لوحت له بيمناها.
لم تشعر روان أثناء سيرهم للمنزل أن أمرًا سيئًا ينتظرها، لقد كانت تفكر أن وليد هو الطالب الوحيد الذي يناديها باسمها، عدا أنه يضيف كلمة 'الصغيرة' قبل أن يقول روان، ولم تكن تمانع ذلك، فلقب آنسة نبتة يسبب الرعب لها، الرعب من أنها ستبقى هنا في منزل خالتها حتى تنغرس في التربة وتتحول إلى نبتة.
—«إنها خالتك.»
أبعد وليد هاتفه عن بصره، وراح يحدق باستغراب في وجه الخالة ميساء الممتقع. وقفت بلا حراك على الرصيف خارج حديقة المنزل، وقفت في ظل شجرة صفصاف بابلي مصفرة وشبه جافة، مثل وجه الخالة بالضبط.
— «لقد رحلوا.»
لقد رأت ذلك بوضوح، رأت الرسالة في يدها اليسرى، وعرفت ما تعنيه جملة لقد رحلوا، كلا، لقد عرفت ذلك قبل أن تنطق بحرف واحد، عرفته من شجرة الصفصاف البائسة التي تصفر لحنًا ودائعيًا حزينًا.
✦✦✦
حين كانت في السابعة من عمرها، وقفت روان في انتظار والدتها كي تقلها إلى المنزل، انتظرت وانتظرت، حتى اختفت الشمس خلف المباني الطويلة، واصفرت السماء وامتزجت بالأحمر، بقيت روان تجلس وتنتظر والدتها حين أغلق الحارس المدرسة وظل يتذمر من بقاء أحد الأطفال الذي سيجبره للبقاء أيضًا. عندما أظلمت السماء فكرت روان أن أمها تخلت عنها لأنها لم تكن طفلة صالحة تستجيب للأوامر، فقد نامت البارحة قبل أن تفرش أسنانها، والأسبوع الماضي حطمت كوبها المفضل، كانت دومًا تسبب المشكلات، وهنالك دوافع كثيرة لتتركها أخيرًا.
وقفت عن كرسيها تمسح الدموع التي تغرق عينيها بأكمامها الطويلة، وقد اصطبغ لون خديها بالوردي، وعندما نظرت للأمام وجدتها أمامها، تركض باتجهها، ثم تنزع سترتها وتلقيها عليها، ها هي ذي تضع كفيها الباردين على وجهها، ثم تحملها على كتفها كما اعتادت رغم أنها صارت أكبر من أن تفعل ذلك.
— «يا صغيرتي المسكينة! أنتِ متجمدة، تبًا لزحمة السير!»
—«لا تتأخري مجددًا، في المرة القادمة لن أنتظر من أجل حضرتك.» صرخ الحارس بالخلف غاضبًا.
— «هل تريدين حليب بالشوكولاة الساخنة؟»
—«وكعك العسل أيضًا.»
— «لكِ ذلك.»
تعرف جيدًا أنها لم تكن لتتخلى عنها، لم تكن لتفعل ذلك، في أعماقها تعرف، تعرف أنها في مكان ما تنادي باسمها، ربما تبحث عنها، يستحيل أن تختفي هكذا ببساطة، عندما قررت إرسالها إلى خالتها قالت لها سنعود لأخذك، لكنها شعرت أنهم يتخلون عنها، وكان ذلك مجرد شعور قد يراود أي طفلة في ذات موقفها، تعرف من أعماقها أن العائلة لا تتخلى عن أبناءها، أن والديها لن يرحلا ويتركانها وحيدة في مكان لا تحبه ولا تنتمي إليه، لن يتركانها هكذا ببساطة.
كل نبتة شعرت بها تأن بحزن، تلقي لحنًا من الألم والبؤس. في تلك الليلة احتشدت الغيوم في السماء، غيوم سوداء مرعبة، ثم أمطرت مطرًا جائشًا منذ مدة طويلة، كانت البلدة تلبس المطر كما تلبس الثكلى ثياب الحداد. في غرفتها المظلمة لا تسمع سوى ضربات المطر العنيفة على النافذة، وتحارب ذلك الشعور المقيت، شعور فقدان من أحبت، وأنها أصبحت وحيدة، وأن العالم كله قد تخلى عنها.
في الظلام؛ ارتدت حذاءها، وخرجت تغتسل بالمطر، ألقت نظرة أخيرة على زهراء شبه الغارقة في الوحل، وإلى كلبها الذي رفض أن يخطو خطوة خارج البيت في المطر، ثم انطلقت وهي تعد نفسها أن لا تعود.
أنت تقرأ
آنسة نبتة
ChickLitعندما مضت إلى الممر وأمسكت بمقبض باب حجرتها، سمعت خالتها وهي تهمس لزهورها: «لا تخافوا لن يأكلكم أحد، لقد انتهت الحرب العالمية منذ زمن طويل!» أغلقت الباب، واستلقت على سريرها في الظلام، ثم بكت أسفل وسادتها. _____