استيقظتُ من نومي بسبب كابوسٍ ما، لأفركَ وجهي منزعجًا وأدخل للحمّامِ، أتبعتُ ذلك بكوبِ قهوةٍ، ثمَّ بدأتْ الفقرة الصّباحيّةُ المعتادةُ، تأمّلُ السّماءِ لدقائقٍ ثمّ تصفّحُ هاتفي، وبذكرِ الأخير فأين وضعته؟
وضعتُ كوبي جانبًا وبدأتُ رحلة البحث عنه. سقطتْ عُلبة القهوةِ على الأرضِ وانكسرت، زفرتُ بانزعاجٍ، ما بالُ صباحي؟
على كلٍّ بالنّظرِ للغرفةِ فهي تحتاجُ تنظيفًا في الأصلِ، لذلكَ اتَّصلتُ بخدمةِ الغرفِ لتأتي، وخلال دقيقتين كانَ أحدهم يطرقُ البابَ، فذهبتُ لفتحه، لكنّ قبل استيعاب أيّ شيء سطع ذلك النّور القويّ فرمشت متفاجئًا وإذا بي في غرفةٍ أخرى! أنا لم أغمض عينيّ حتّى هذه المرّة! كان ذلك مؤلمًا!
عضضتُ شفتيّ بغيظٍ، لمَ تمّ أخذي بملابسِ النّوم مرّةً أخرى كذلك؟
وسط بحثي عن ملابسٍ في الغرفةِ الجديد انتبهتُ من خلال الشّرفةِ أنَّ حديقةَ الفندقِ مليئةٌ بأشجارِ السّاكورا، لحظةً! اليابان؟ هبطتُ سريعًا بملابسِ نومي؛ لأنّني لم أجد شيئًا، تسلّلت لأنفي رائحتها الزّكية منتشرةً في كلِّ مكانٍ، قهقهتُ بسعادةٍ ولم أضعْ الفرصةَ بالطّبعِ، فتجوّلتُ هنا وهناك وقد تلاشى غضبي وكلّ استيائي.
وجدتُ نفسي بعد مدّة عند مكتبةٍ عتيقةٍ ذات طراز كلاسيكيّ تبدو عليها الفخامةُ، توجد منحوتات منتشرة على جدرانها من الخارج أحاطتْ بالبابِ، وبالنّظرِ من خلال زجاج الواجهة خُيّل لي للحظاتٍ أنَّ الكتبَ تطيرُ! ضحكتُ وأنا أفتحُ الباب وأدخل لتصحّ ظنوني، لقد جننتُ من البوابة ولا شيء يتحرّك عدا رؤوس روّادِ المكتبةِ الذين يناظرون صاحبَ ملابسِ النّومِ.
تحمحمتُ بثقةٍ زائفةٍ واتّجهتُ لصاحبِ المكتبةِ السيّد كيمورا كما تمليه بطاقة الاسم المعلّقة على ثيابه القديمة، أجيد اليابانيّة الآن! كانَ رجلًا شيخًا ذو عينين صغيرتين، وقد تشبّعَ وجهه بالتّجاعيدِ وبان طعونه في السنِّ، فاستلهمني سؤالٌ لأطلقه: «كيف بدأ الأدبُ هنا؟»
أشاح الرجل بنظره وابتسم قبل أن يشير لي بأنْ أتبعه وهو يدخل للباب خلفه. دخلتُ من بعده وهبطتُ السّلالمَ أتبعُ فضولي قبل أن أتبع الشيخ، لأين نحن ذاهبان يا ترى؟ ابتسامته تلك مريبة بحقّ. توقّفنا في الأشبه بغرفة مستديرة ذات جدران خشبيّة لا أبواب ولا نوافذ ولا أثاث فيها والطّاعن في السنّ يترقّب حدوث شيء ما، فملت عليه هامسًا مستغربًا تصرّفه: «لك علاقة بالبوابة صحيح؟»
تجاهلني كليًّا، إذًا ما الذي يريده منّي في هذا المكان؟ انقضت بضع ثوانٍ بعد سؤالي العابس الذي وجّهته لنفسي فإذا بنور ساطع ينبثق فجأةً، نور أعرفه جيّدًا! شعرت به يسحبني من يدي وحين حدّقت حولي وجدتنا في شارعٍ يبدو عليه القدم ونحن نمشي بين طرقاته، قال كيمورا بابتسامةٍ خفيفة: «مرحبًا بك في القرن السّابع الميلادي يا فتى، ودعني أخبرك أنَّ أقدمَ أثر في هذا الشّأن هو «مقتطفات العشرة آلاف ورقة» التي جُمعتْ عام سبعمائة وستين ميلاديَّة، واشتملتْ على أربعةِ آلاف قصيدةٍ نظّمها شعراء من القرنين السّابع والثّامن، وابتداءً مِن منتصفِ القرن العاشر قفز الأدب الياباني قفزةً كبيرةً.» كانت معالم المكان تتغيّر حولنا وهو يتابعُ حديثه متبوعة بومضات نور خفيفة، بمعنى أدقّ ننتقلُ بالأزمنةِ وتظهر صور من كلِّ زمانٍ لترينا ما حدث.
أنت تقرأ
الرحالة
Non-Fictionحَملْنَا دفترًا كان قد وقعَ علينَا، كُتب فيه تاريخ الأدب من بلدانٍ عدّة، كُتّاب وثقافَاتٌ جديدة، هل قرأتم قليلًا من الأدب الروسي؟ أو اليابانيّ! ولربمَا يكون المغربيّ أبهى! في كتَاب الرحّالة ضع خريطةً أمامك لترى إلى أي أدبٍ سيقودك.