استيقظتُ بحماسٍ هذا اليوم، رغم التّعب الذي ألمّ بي إلّا أنّ المغامرة الماضية أبهجتني. أخذت حمّامًا منعشًا واستعددْتُ للخروج لتناول الفطور في أحد المطاعم.
أخذت صورة والديّ ودسستها مع المذكّرة في الحقيبة على عجلٍ، فقد كنتُ متشوّقًا لتذوّق المأكولات هناك. اتجهتُ نحو الباب لأغادر، وما أن فتحته وجدته قد تحوّل لبوّابةٍ سحريّة: «يبدو أنّ المغامرة ستبدأ الآن!» قلتُها في نفسي مبتسمًا ثمّ عبرت من خلالها.
بعد لحظاتٍ وجدتُ نفسي جانب بناءٍ ذي طابعٍ مميّز، ليس وحده فكلّ الأبنية هنا ذات أشكالٍ وهندسةٍ فريدة، لكنّه يبدو كقصرِ لأحد الأمراء. أعتقد أنّني رأيتُه في التّلفاز كأحد الآثار! وعلى العكس من ذلك كان النّاس يرتدون عباءاتٍ بسيطةٍ وعمامات وتبدو على ملامحهم الطّيبة.
أخرجتُ صورة والديّ من الكيس الجلديّ الذي كان حقيبةً قبل دقائق، قبّلتها ثم قلتُ بسعادةٍ: «يبدو أنّني في الأندلس في غرناطة!»
انطلقتُ أتجوّل بين العمران مستمتعًا بها، إلى أن لمحتُ مجموعةً من الفتيان يتناقشون بحماس وجديّة حول شيء ما، توجّهت نحوهم متسائلًا لأسمع أحدهم يقول: «شرحُ ابن الأفليلي لديوان المتنبّي أفضل من شرح ابن سِيدة.» ليجيب الآخر قائلا: «بل لكلٍّ منهما خصائص ومميّزات، فابن الأفليلي شرحه بينما ابن سِيدة شرحه وعقّب عليه وأضاف عليه مآخذ.»
أخرجتُ مذكّرتي وسجّلت فيها: «إذن، فالنّقد في هذا العصر اتخذ قالب شروح وتعقيبات، وتكمن فكرته في شرح الدّيوان أو الكتاب ثم تسجيل ملاحظات حوله أو تصويبات كعنصرٍ منفرد تحت عنوان (المآخذ).»
توقّفتُ قليلًا متذكّرًا شيئًا قرأتهُ عن الشّعر والنّقد في هذا العصر ثمّ أسرعتُ بتسجيله: «كان الشّعراء والنقّاد يذهبون في تذوّق الشّعر مذهب القدماء، من جزالة اللفظ ومتانة الأسلوب وصحّة المعنى وشرفه. فمثلًا وليد بن عيسى الطبيخيّ كان أثناء شرحه للأشعار يرجّح بين المعاني المرويّة أو الممكنة وأحيانًا لأوجه البلاغة.
أمّا عبد الكريم النّهشليّ فرجّح سبق النّثر على الشعر فأصاب في التّرجيح وأخطأ في تعليل ذلك. وجعل الشّعر أربعة أنواع، المديح والهجاء والحكمة واللهو. وعرض لمكانة اللفظ والمعنى في جودة الشّعر، ووصل بين جودة الشّعر والأخلاق.»
وفجأة وجدت أنّ أعين الجميع متّجهة نحوي بتساؤلٍ حتى كادوا يهجمون عليّ بسبب تدويني لكلماتهم دون إذن، فهربتُ مبتعدًا إلى أن وجدتُ نفسي جانب بيوت الأندلسيين، ومن أحدها ينبعث صوت غناء وموسيقى، طرقتُ الباب واستأذنتُ بالدّخول لأجد رجلًا يحمل آلة موسيقيّة وترية ينشد على لحنها شعرًا.
وبعد أن قدّم لنا الضّيافة سألتُه عن ما يقوم به فأجاب أنه ينظّم نوعًا من الشّعر يسمى بالموشّحات، طوّره الأندلسيون على إيقاع الآلة الوتريّة. فقلتُ في نفسي: «إذن هذا زرياب!» استغللت اندماجه مع موسيقاه وسجّلت في مذكرتي ما مفاده: «كان الأندلسيون مولعين بالشّعر المشرقيّ، فكتبوا له شروحًا ومآخذًا، فتدارسوه وحفظوه وقلّدوه، ثم خالفوه وابتكروا الموشّحات وزنها هو اللّحن الموسيقي. وهذا شكلٌ من أشكال النّقد ساعد على ابتكار نوعٍ جديد في الشّعر الأندلسي.»
أنت تقرأ
الرحالة
Nonfiksiحَملْنَا دفترًا كان قد وقعَ علينَا، كُتب فيه تاريخ الأدب من بلدانٍ عدّة، كُتّاب وثقافَاتٌ جديدة، هل قرأتم قليلًا من الأدب الروسي؟ أو اليابانيّ! ولربمَا يكون المغربيّ أبهى! في كتَاب الرحّالة ضع خريطةً أمامك لترى إلى أي أدبٍ سيقودك.