الرقصة التاسعة عشر
رقصة باريز*
*رقصة الحرب التقليدية في منطقة "بالي" في اندونيسيافتذكر، رغم أني قد ارتكبت افعال سوء، بأنني لا أزال أرى العالم برمته فوق وجهك –مولانا جلال الدين الرومي
-صخر....
همست في أذنه برقة ...
رفرفت عيناه بتثاقل.. وتمتم: زنبق
- إنهض
حين فتح عينيه اخيراً... أطلت أمامه عيناها الربيعيتان .... تملئهما دموع حولتهما الى مرايا عاكسة كانت دوماً نقطة ضعفه...... قطب بحيرة من منظر دموعها التي تضاربت بشدة مع ابتسامتها المفعمة بالفرح....
نهض من مكانه وسألها بقلق: لماذا تبكين حبيبتي؟
وضعت رأسها على كتفه ... الدموع التي حفرت طريقها على خدها تساقطت على قميصه... فتخللت قطراتها مسامه بحرارة موجعة....
- تعلم بأنني احببتك
التفت برأسه قليلاً ليلثم جبهتها المشتعلة كأنها مصابة بحمى وأجاب: وتعلمين بأنني أحبك
ثم أكمل بقلق: زنبق.. حرارتك مرتفعة.. علينا ان نذهب الى الطبيب
همّ بالتحرك لكنها لم تسمح له وهي تتمسك بذراعه بيدها... وقالت متجاهلة جملته الأخيرة
-كلا صخر... لا أعلم... لا أعلم ان كنت تحبني.... انت لم تقلها لي يوماً
قال بمرارة: لقد احببتك زنبق...في كل مرة... حتى في المرة التي كرهتك فيها.. أحببتك
افلتت يدها من ذراعه... شعر بشئ ساخن يترك اثره حيث موضع لمستها... نظر الى الأسفل فوجد ذراعه ملطخة بأثار دماء ، رفع وجهه اليها مصدوماً والرعب يطل منه... لكن وجهها لم يتغير... ما زالت شفتاها ضاحكتان وعيناها باكيتان....
قال بخوف: زنبق... ما بك؟
دون ان تجيب... امتد كفاها نحوه... شلّه الرعب حين رأى اصابعها تقطر دمائاً... وقبل ان ينطق كانت قد احاطت وجهه ... وقبلّته....... طار رعبه في خضم حلاوة قبلتها..... بدا وكأن العالم كان مختلاً وعاد الى نظامه.... وكأن كل الاشياء سقطت في مكانها الصحيح مثلما سقطت شفتيها بين شفتيه....
لسنوات كان يهرب منها... رافضاً ان يعترف انه ما كرهها الا لأنه احبها... وان كل غضبه وحقده وجنونه كان نابعاً من هذه الحقيقة
-صخر..
همست من بين شفتيه
تأوه بشوق موجوع كردة فعل لصوتها المتردد البطئ....
اكملت ببطئ: أكرهك
انتفض فجأة... وارتد عن شفتيها بصدمة..... فنهضت هي...
وقفت أمامه وبدت لحظتها كأنها اغتسلت ببحر من الدماء التي كانت تقطر من خصلات شعرها واطراف اصابعها وثيابها فتكونت عند قدميها بركة حمراء
صاح مفزوعاً: زنبق...
دون ان تتوقف دموعها قالت بنشيج مختنق: لقد قتلتني صخر...
نهض من مكانه بسرعة يحاول ان يمسك بها وهو يصيح...
-زنبق .. زنبق
ثم حصل كل شئ بسرعة بطيئة وببطئ سريع.... دوى صوت انفجار قوي... ثم اندلعت السنة لهب من كل مكان تحيط بها... وراقب جسدها الضوئي النحيل الذي احب كل ذرة فيه يتحول الى أشلاء... انفجرت مثل جرم سماوي يتشظى لمئات النجوم .... بينما غسلت الدماء الناتجة عن اشلائها وجهه.....
هكذا وبلمح البصر... تحولت المرأة التي أحبها أكثر من أي شئ الى مجرد قطع محترقة...وبسببه هو!
هبّ صخر صارخاً: زنــــــبــــــــــق
نظر حوله بتشوش... الظلام كان يلفه... ملمس السلم الحجري البارد ما زال يضرب عضلاته ... رأسه الذي كان يستند الى الحائط الملطخ بالغبار وبقايا الانفجار طرق بقوة...
كان الوطن كله بحالة حداد..... ثلاثمئة انسان فقدوا حياتهم في لحظة واحدة حين انفجرت سيارة مفخخة في أكثر مناطق بغداد ازدحاماً قبل بضع ايام فقط من عيد الفطر... الخرابة التي يجلس فيها الان معتكفاً كانت قبل اسبوع واحد فقط مركزاً تجارياً يضج بالحياة... اما الان فقد تحولت الى مقبرة جماعية.... هو احد ضحاياها....
هذا هو الموت، يأتي فجأة كالحب تماماً... يقبل بين عيني ضحاياه ويهدهدهم ويهمس في اذن كل واحد منهم "نم قليلاً كي تستريح"....ثم يمسك بأيديهم.. يشير اليهم نحو الله ويمضي بهم كما يمضي حبيب بحبيبه نحو حديقة سرية ليسرق قبلة... والحال انه جاء يسرق عمرهم.. فيدخلون ضوء عتمتهم، حجرتهم الترابية الصغيرة... ويقابلون الله متشحين بأبيضهم... ويتركون خلفهم احبائهم.. يدخلون في عتمة ضوئهم... دنياهم البلورية الواسعة... يقابلون فيها شياطين البشر وهم متشحين بأسودهم ... ومع هذا فأن الأحياء يبكون الأموات.. أليس من الأولى ان يبكوا انفسهم... فالميت سيد البياض.. أما الأحياء فهم عبيد الأسود.... عبيد الحزن... عبيد الفقد.... عبيد الفراغ الذي يتركه كل احبائهم.... عبيد الوجع والألم......
اتشح العراق بالسواد ... جاء العيد ثقيلاً.... حزيناً مثل كل الامهات الثكلى.... جاء بشعاً مثل منظر الدماء.... خانساً مثل صمت الموت .....
لم يحتفل احد.... تحولت مساحات الانفجار الى مسجد كبير لا تُقام فيه صلوات العيد بل صلاة الجنازة....... بينما تحولت الجدران المهدمة الملطخة بالموت واثار الانفجار... الى لوحات سوداء تنعى شهداء العيد..... كان للموت في بغداد مراسم .... اوقد مئات العراقيين شموعاً نشروها في مكان الانفجار... تضئ أرواح الذين ذهبوا دون ذنب......... كان الوطن يومها يعاني.. وينزف...
لكنه هو ... الرجل الذي لم يعرف الوطن كثيراً... لم يكن يعي فاجعة الوطن... حيث ان فاجعته الشخصية كانت اكبر من مساحة الحزن على شئ آخر.... لسبعة ايام متواصلة بحث مثل المجانين بين الركام عن بقايا زنبق.... لم تثر فزعه بقايا الاجساد المتناثرة التي يراها لأول مرة.... دخل وسط كل هذا الموت ... وكل هذه البشاعة وبحث عن بارقة حياة للمرأة التي احب..... جنون حزنه ولوعته لم يبدو شاذاً .. فقد كان الجميع مجنوناً وملتاعاً... صوت العويل... صوت ضربات اللطم ... صوت الصراخ ... صوت القرآن ... اختلطت لترسم لوحة حزن بمساحات لا نهائية......
لم يعد يعرف كم من الجثث تفقد بحثاً عنها ولا كم من الأشلاء امسك ليتعرف على ملمسها.... كان يعرف في قرارة نفسه انه سيتعرف على بقاياها حتى لو تفحمت.... فأي رجل لا يعرف ملمس امرأته؟
منذ اسبوع وهو ينام هنا... في هذا الركام... بينما فشل الرجل الذي كان يتبع زنبق في ايجاد اسمها في اي من المستشفيات التي تفقدها.... كما انه لم يتعرف على شكلها بين الناجين القابعين على الاسرة.... اليوم صباحاً فقد الامل نهائياً في نجاتها.... لم يبقَ مكانٌ لم يبحث فيه... لم يبقى مستوصف او مستشفى لم يسأل فيه....
اختنق صدره بعبرة .... ازاح ياقة تيشيرته القطني بضيق وكأنه يمنعه من التنفس.... ثم نهض من على السلم.... ومشى وسط بقايا الشموع التي جاء بعض الشباب واوقدوها في المساء... هبط السلم المتهالك بتثاقل... واتجه نحو الشارع... دار بعينيه ... ينظر من خلال الظلام الى اللافتات السوداء وعلم العراق الذي امتد على مساحة واسعة من انقاض المركز التجاري المهدم...... ثم رفع وجهه الى السماء وصرخ.... صرخ ... صرخ ... صرخ... حتى كادت ان تنشق رئتاه من صراخه.... كان الآلم الذي يعتريه خارج حدود اللغة على الوصف.....
شقت صرخاته سكون الليل.... كانت صرخات رجل احب حتى اخر قطرة في دمه ... حتى اخر نبضة في قلبه.... حتى اخر خلية في جسده..... صرخات رجل طُعن في اكثر الأماكن رقة وقسوة في تكوينه: قلبه........... صرخات رجل جاء محملاً بالحب وبالمسامحة وبالأحلام الوردية... فصفعه القدر بالموت والفجيعة والكوابيس المعتمة.....
كان يصرخ المه... يصرخ حبه... يصرخ ذاته... يصرخ زنبق.......
عند مرور اسمه في عقلها..... انهار راكعاً على الأرض... ووسط الخراب... بكى ....
صاح من بين دموعه "ياااارب..... خذني اليها يارب"......
انتحب حتى اهتز كتفاه بشدة ... ثم ارخى رأسه ليسقط على صدره بضعف...... لقد ماتت زنبق.... ماتت !
أنت تقرأ
رقصة سما(الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة بلقيس علي(مشتاقة) الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي