الرقصة الأخيرة
رقصة سما*
*رقصة روحية يؤديها الدراويش
ممتلئ بك، جلداً، وعظاماً، وعقلاً وروحاً، لا مكان لنقص رجاء، أو للرجاء، ليس بهذا الوجود إلاك – مولانا جلال الدين الرومي.
وقفت تنظر الى نفسها في المرآة... كان صخر قد غادر منذ قليل ليستعد لحفل زفاف وليد وتينا ... تأملت الفستان الأحمر... وقلبها يرتجف... لم ترتدي الأحمر منذ تلك الليلة المشؤومة.... وحين اقتنت هذا الفستان قبل عدة أيام كان هدفها ان تكسر اخر حاجز لها مع الماضي... وان تواجهه.... فهروبها من الألوان والاشياء والاشخاص لم يغير شيئاً..... جرت عيناها على وجهها الممتلئ بالحياة ووضعت يدها على صدرها تستمع لنبض قلبها وشعرت كأنه يدق للمرة الأولى منذ اربع سنوات......... إبتسمت لإنعكاسها في المرآة ... ها هي أخيراً تصير زنبق جديدة... لا تشبه الزنبقتين اللتين عرفتهما قبل وبعد صخر... إنها امرأة جديدة تماماً...
همست لإنعكاسها: مرحباً زنبق......
هذه الزنبق ليست الزنبق التي دفنت نفسها داخل كفنٍ من الذنوب والأحزان ومزقته لتخلق "نور" الفتاة التي هربت من كل شئ بجبن دون مواجهة.. وتلّبست حياةً أخرى رافضة ان تواجه اوجاع الخسائر التي تكبدتها في ما مضى .... تلك الزنبق التي اخذت من حياة الدروايش استسلامهم الطوعي للقدر... وميلهم الشديد للوم الذات قبل الاخرين... ورقصتهم ... وأبيضهم ... وحاولت ان تنفي عنها ذنوبها واوجاعها بقراءة كتب تعزز روحانيتها.... لكنها اكتشفت حين دخل صخر الى حياتها... ان هذه الزنبق مزيفة... ففي اعماقها هي لم تستسلم بعد للقدر.. كان داخلها دائما احساس بالغضب والظلم ... كأن القدر لم ينصفها...
وهذا ما خلق زنبق الثانية... تلك الحاقدة .. الغاضبة.. التي وعدت الرجل الذي تحب بالانتقام... ونفذت وعودها..... غير انها كذلك لم تكن حقيقية.... كانت تلك طريقة اخرى لمواجهة الألم الذي شعرت به حين تزوج صخر.......
والان ... زنبق هذه هي مزيج متعادل من الاثنين..... عودتها لصخر كان رمانة الميزان في المرأتين اللتين تعيشان داخلها..... الان لن تشعر بالذنب لأنها ترتدي الأحمر... لكنها ايضا لن تشعر بالغضب... لقد اختارت ان تكون عاشقة بما تحمل كلمة العشق من غفران وحقد .. من روح وجسد.. من هدوء وغضب.. من سعادة وحزن... من ابيض واسود....
ابتسمت وتمتمت وهي تسير بيدها على فستانها: واحمر
استدارت عن المرآة لتواجه السرير الذي شهد حبها لصخر... اتجهت نحوه بخطى بطيئة ثم جرت يدها على وسادة صخر... حملتها بين يديها وتنشقت عطره ... حين استيقظت هذا الصباح لم تكن تتخيل ان هذا اليوم سيكون اهم أيام حياتها وانها ستعود بعد اربع سنوات طويلة الى ذراعي الرجل الذي ما احبت احداً بقدر حبها له.....
جلست على السرير محتضنةً وسادته وفكرت في حبهما.....
لربما لم يكونا عاشقين مثاليين... ولم يكن حبهما مثالياً... كان حبهما مثل طفل سئ الأخلاق... يعيث فساداً في كل شئ بتسرع وعجلة... كان يمسك بعلبة كبريت ويجدح شرارة عود الثقاب دون قصد مضرماً حريقاً في المكان..... او يمسك بلعبته المفضلة وينتابه الفضول حولها فيقلبها بين يديه بعبثية فيسكرها ثم ينفجر باكياً عليها........
هذا الحب- الطفل نضج ببطئ وكان نضوجه محفوفاً بالخسائر.. بالفجائع.. بالكره !... لكنه حين نضج أخيراً.. بدا لعينيها رائعاً......
لربما لم يكتب لها ان تعيش حباً كحب أميرات الرسوم المتحركة .. سهلاً وبسيطاً وطيباً...... لكن كتب لها ان تعيش حباً يختصر كل المشاعر بدئاً من الحنان والرقة مروراً بالسعادة والأحلام الكبيرة وانتهائاً بالحزن والانكسار والكوابيس........ وهي ليست نادمة ... لأنها في كل الضياع الذي عاشته مع صخر.. وجدت نفسها اخيراً... معه ايضاً...............
ان اكتشاف الانسان لنفسه ليست عملية سهلة او بسيطة... انها رحلة شاقة ينكسر فيها القلب الاف المرات قبل ان يكوّن هويته الحقيقية ..... لقد اكتشفت نفسها في رحلتها مع صخر... اكتشفت انها تملك قدرتين متساويتين على الحب.. احدهما طيبة ضعيفة والاخرى متطرفة وعاصفة....... وكان بينهما صراع عظيم ... حتى عاد اليها صخر اليوم.... لينهي رحلتها... ويجعلها تكتشف ذاتها بين ذراعيه.... انها المرأة الضعيفة والمتطرفة في آن واحد... وعليها ان تجد موازنة بينهما... انها المرأة الجيدة والسيئة وهذا حقها البشري.... ان تكون مزيجاً من الأبيض والأسود هو امر طبيعي لكل انسان... فلماذا كست روحها بالابيض الناصع؟ ثم عكست الآية وكستها بالاسود الحالك؟...... كان عليها ان تدرك منذ البداية... ان بين الأبيض والأسود عشرات الدرجات من الرمادي... وان عليها ان عيش كل الدرجات لتكون انسانة عادية...
لربما ستواجه مع صخر ذكريات صعبة ... لربما ماضيهما سيقف دوماً كسكين في خاصرة سعادتهما.... لربما حبهما الان لن يمحي اثار حربهما السابقة..... لكنها راضية بالمجازفة..... ستدخل الحب هذه المرة باللون الرمادي!....
قاطعها صوت هاتفها... نهضت لتلقط الهاتف من على منضدة الزينة وابتسمت حين قرأت اسم انجل... اجابت على الاتصال وهي تقول:
-اعلم انني تأخرت
لم تخفى نبرة القلق في صوت انجل عليها وهي تسأل
-هل كل شئ على ما يرام؟
ابتسمت:
-ان كنتِ تقصدين صخر.. فقد حولته الى تراب
ارتاح صوت انجل:
-ازرعي فيه ورود الزنبق
ازدادت ابتسامتها اتساعاً وشعت عيناها بتعبير ملئ بالحنان تجاه هذه المرأة التي ضمتها الى عائلتها حين لفظها الجميع
-شكراً أنجل
صمتت انجل للحظة ثم قالت:
-بل شكراً لكِ زنبق.... لقد كنت بحاجة جداً لأن اقتنع من جديد... ان الحب يغلب الحرب ... بكل انواعها
وقبل ان تجيبها كانت تسترسل قائلة: هيا لقد فوتي نصف الاحتفال..
********************
-أقسم أنني لم ارَ أمرأة بعنادكِ يا رأس الجزرة
جلست سماء على الكرسي المزين ظهره بقماش ابيض مثبت في وسطه وردة كبيرة من الشيفون البنفسجي
-كم تحب ان تتذمر ايها الهمجي.. ألم يكفي انك لم ترتدي بذلة رسمية؟
جلس الى جانبها وقال متهكماً: وهل ارتديتها في عرسي لأرتديها في عرس ابن خالتي
-على رأيك... الفلاح يبقى فلاح
-استغفرك يا رب.... (تنهد وقال بصبر كمن يحدث طفلاً) .. هل تناولتِ دوائك؟
نظرت اليه سماء بحنق: أتعرف كم مرة سألتني هذا السؤال منذ مجيئنا؟ ثلاثة عشر مرة... وفي كل مرة اجيبك بنعم...
قطب حاجبيه: هل هذا جزائي لقلقي عليكِ... لم يكن علينا ان نحضر .. ما زلتِ تتعالجين..
هتفت: انا لست مصابة بالشلل... استطيع ان امشي كما تعلم.... كما انني اتماثل بالشفاء.. لكنك مصاب بالارتياب .. ماذا افعل
-اتعلمين حبيبتي... أظنني سأموت بالضغط وفي سن مبكر
-انتظر حبيبي دعني انجب منك اولاً ثم سأكرمك... ضغط، سكر، قلب.......
ضرب كفاً بكف: انتِ مثال الزوجة الصالحة التي تخاف على زوجها
-زوجي يستخدم خدع نسائية "مهروسة" ليسمع مني كلاماً جميلاً
اشاح بوجهه عنها وهو يتمتم بحنق: عديمة احساس
قاطع ضحكتها صوت والدتها وهو تقول: سماء
بالطبع كانت سماء متأكدة من حضور والدتها.... لكن مع هذا فإن سماع صوتها جعل قلبها يرتجف... التفت في تلك اللحظة الياس بوجه متجهم... ونهض من فوره في حركة حمائية بينما يلتقط يدها من الطاولة ممسكاً بها بكفه الخشنة... ارتفعت عيناها اليه بإمتنان... وشعرت مرة اخرى انه لطالما كان الياس معها فإنها بإمان ولا شئ في العالم بقادر على اذيتها
لذلك نهضت هي الاخرى لتواجه والدتها قائلة بصوت عادي: امي
كان وجه والدتها مرتبكاً... فاقداً للكثير من تعاليه المعتاد.... ورغم كل شئ شعرت سماء بالاشتياق الغامر نحوها
قالت والدتها بصوت بدا غير واثق:
-هل ستستمرين بمقاطعتي؟
ضغطت اصابع الياس على يدها يبثها دعمه بصمت.... وفجأة بدا لها انها قادرة ربما في يوم ما على المسامحة.... لكن ليس الان ... ليس وجرحها ينزف داخل روحها
قالت صادقة: لا أعلم أمي... احتاج لبعض الوقت... حين أشعر أنني قادرة على ان انظر اليكِ دون ان اتوجع لما فعلتيه بي.... سأزوركِ
رفعت والدتها رأسها وقد ارتدت تعاليها المعتاد.. كأن كلماتها قد اهانتها.... وضعت حقيبتها الصغيرة تحت ابطها وقالت بتكبر:
-سأنتظر ذلك اليوم... لكن حاولي اليوم ان لا تظهري مقاطعتكِ لي... لا اريد ان يتحدث الناس عنا... بالكاد استطعت ان اقنع الجميع انني لم احضر عرسكِ لأنني كنت مريضة جدا ورفضت تأجيلكما العرس بسببي
ابتسمت سماء ابتسامة ساخرة .. وشعرت بأن الياس على وشك قول شئ غاضب فأوقفته بنظرتها... اخذ نفساً عميقاً وعيناه الغاضبتين تبرقان بحدة......
نظرت سماء الى والدتها... وادركت انها لن تتغير ابداً... وانها في يوم ما عليها ان تتقبل هذه الحقيقة... لكن ليس الآن
لذلك فقد اجابتها بهدوء: حسناً.... ثم عادت تجلس وهي تشعر بوالدتها تنسحب...
جلس الياس الى جانبها وسألها بقلق: هل أنتِ بخير؟ اذا كنتِ متضايقة يمكننا ان نغـ.....
قاطعته وهي تضع اطراف اصابعها على فمه تسكته وهي تهمس: ششششششش....
ثم نظرت الى عينيه وابتسمت: أردت كلاماً جميلاً قبل قليل... حسناً دعني أقول لك.... انت يا الياس الشيخ.. عائلتي الوحيدة... رجلي الوحيد... انت أبي وابني ... صديقي واخي وعدوي حتى.... انت كل هذا العالم.... وانا (اقتربت لتضع خدها على خده المكسو بلحيته) احبك... احبك كثيراً...... (ابتعدت مرة اخرى لتنظر اليه) ولهذا انا اشكرك لأنك احببتني... شكراً حبيبي الهمجي
ابتسم إلياس لها بحنان غامر... واحاط كتفيها بيده ليستقر رأسها على كتفه....
لقد حاربت سماء الياس طوال حياتها... مارست عليه الالعاب والحماقات.. دون أن تعلم ان الياس الذي كان حربها هو في ذات الوقت، حبها !......
قبل الياس جبهتها بحب....... لقد كانت حربه طويلة مع روح تائهة مثل روح سماء.... لكنه سعيد بهذه النهاية..... لقد كان حبه لها... حربه...............
همست له: أحبك
فقال بصوت اجش وهو يقبل جبينها مرة اخرى: وانا كذلك.....
ثم راوده احساس عميق ورائع بالانتصار......
*******************
-كايل، ماذا تفعل؟
هتفت أرورا معترضة حين سحبها كايل بتهور مخالف لصورته الرزينة بينما كانت تتحدث الى احد الضيوف في العرس....
قال لها كايل دون ان يتوقف عن سحبها:
-لدي مفاجأة
اعترضت
-اين ذهب الرجل الهادئ الصارم الذي كنت اراه في الحفلات؟
التفت اليها ووسط كل المدعوين الذين يراقبون عودة الثنائي بمشاعر تراوحت بين السعادة والحسد.. سحبها اليه بحركة مفاجأة لتشهق غير ان نصف شهقتها اختفت حين ضغطت شفتاه على شفتيها بقبلة سريعة جعلت الهمهمات ترتفع من حولهم.. ودون اهتمام لملامح الصدمة على وجهها عاد يسحبها خلفه....
حين استقرا اخيراً داخل سيارته كانت تلهث وقلبها يكاد يخرج من صدرها.. من كان يصدق ان الرجل الثلجي البارد يقدم على افعال كهذه وامام الناس وفي عرس اخيه؟!..... نظرت اليه وهو يشغل محرك السيارة وارتسمت ابتسامة على وجهها...... ها هي اجمل احلامها تتحقق... ها هو حبيب الصبا يبادلها الحب كما حلمت يوماً.... وشكرت حظها ووالدها الذي خيرها بين الكسندر نايتلي وكايل .... ولم تستطع الا ان تختاره رغم معرفتها بأمر تارا فألكسندر نايتلي كان حبيب اختها السابق...
وجدت نفسها تهمس دون وعي:
-أحبك
كان قد قاد السيارة لمسافة بضعة امتار فقط فما كان منه الا ان ضغط على مكابح السيارة لتتوقف في مكانها فمالت ارورا الى الامام قليلاً..... وقبل ان تأتي بأي ردة فعل... كان يأخذها بين ذراعيه مقبلاً اياها بشغف أذابها حتى تأوهت بإسمه.....
بعد دقائق سحب شفتيه من شفتيها وصوت انفاسه تزيد نبضاتها جنوناً.... استقر ذقنها على كتفه بينما ذراعاه تحيطان خصرها بحنان غامر... سقطت عيناها في تلك اللحظة على الدمية الصغيرة طويلة الشعر المتدلية من مفاتيح سيارته ...
سألته: ما علّاقة المفاتيح الغريبة هذه
ابعدها عن ذراعيه وعاد يستقر في مقعده وقال ضاحكاً:
-اوه هذه... حسناً انها تذكرني بكِ...
ارتفع حاجبها: ماذا؟
لاعبت اصابعه الدمية الصغيرة ومر بشعرها الطويل واجاب:
وجدتها في محل الالعاب ذلك النهار حين خرجنا انا وانتِ واطفال جوزيف وانجل.. وذكرتني بكِ.. ووجدتني من دون تردد اشتريها.... بعد رحيلكِ وطلاقنا.. علقتها في مفاتيحي مدعياً انها هدية من مايا.....
فاضت عيناها في تلك اللحظة حناناً ممتزجاً بعاطفة سكنتها منذ الأزل....
-ما كنت اعرف انك يا كايل ميلر رومانسي الى هذه الدرجة
-انا لم اكن اعرف ذلك ايضاً..... أظنكِ احرقتِ الثلج يا أميرتي..... هذه المرة الأميرة هي التي انقذت الأمير وحررته من سجنه لا العكس...
وضعت يدها على فخذه وهي تقول بحب:
-أميري الرائع .. لم انقذك.. بل انقذت قلبي الذي لديك.....
بعد ذلك بنصف ساعه كانت أرورا تقف امام قاعة الاحتفال التي تزوجت بها...
سألته باستغراب: لماذا نحن هنا؟
فتح صندوق السيارة ليخرج علبة كرتونية كبيرة.... واخذ يدها ومشى نحو الداخل وهو يقول:
-سترين الان..
حين دخلا كانت القاعة مزينة كأن عرساً يقام فيها
اقترب عامل يرتدي بذلة رسمية واستلم منه العلبة بينما اعطى كايل تعليماته بأن توضع العلبة في غرفة الاستعداد...
تمتمت أرورا: انا لا افهم..
وضح لها كايل:
-في هذه القاعة تزوجتكِ... غير انني لم اكن احبك أرورا... ليس لأنك لا تستحقين الحب بل لأنني كنت احمق.... كنت ارفضك فقط لأنك اختيار أبي..... حين تعرفت على تارا رفضها أبي بشدة لأنها متزوجة .. وهذا ما جعلني اتشبث بها حتى وان كان سراً......... لقد عشت طوال حياتي احاول ان ابلغ مكانة الابن الذي يفتخر به ابي... لذلك نفذت كل ما اراده مني حتى تحولت الى قالب الثلج الذي عرفته دائما.... لكن جزءاً مني اراد التمرد ... وكانت تارا وسيلتي للتمرد .. وحين دخلتِ حياتي.. دخلتها كمصلحة ... كجزء من صفقة... كإمتداد لأوامر ابي... فرفضتكِ بشدة.... وحين فات الأوان اكتشفت انني احبكِ... وأن والدي قد منحني ما سعيت طوال عمري لأحققه... منحني الكمال والرضا..... بكِ اكتملت أرورا... وبكِ رضيت بحكم ابي وأرضيت قلبي..... انها المرة الأولى التي افعل فيها شيئاً يفخر فيه ابي ويرتضيه قلبي في نفس الوقت........ لذلك علي ان اعتذر لكِ... وأن أقدم لكِ عرساً يليق بكِ..... عرس لا يحضره سواكِ.... لأنكِ المعنية الوحيدة به.. لأنني أريد ان اسعدكِ انتِ... هذا العرس اعتذار شخصي مني لكِ....
كانت عينا ارورا مغرورقتان بالدموع وهي تستمتع لكايل يصارحها بكل ما شعر به.. ثم يسعى لتلافي كل ما سببه لها من ألم... احتضنته بين ذراعيها دون ان تنطق بكلمة... قلبها الذي كان ملاصقاً لقلبه قال كل ما ارادت ان تخبره اياه...
همس بعد قليل:
-ألن تذهبي لترتدي فستانكِ؟
ابتعدت عنه وهي تقول بصوت متأثر: بالطبع سأذهب
وتركته واقفاً هناك ... يراقبها بشعرها الممتد مثل حلم تبتعد عنه......... وضع يده بجيبه يتحسس العلبة المخملية التي استقر بها خاتم الزواج الماسي..... وفكر... لقد حارب طويلاً ليخرج عن قالبه المثالي الذي بناه لنفسه ليثير اعجاب والده ويلغي عقدة النقص التي انتابته بعد رحيل والدته... لكنه لم يكن يعرف ان حربه هذه كانت بلا طائل.... فكل ما تمرد ضده وحاربه كان ذاته هو الذي منحه الحب......
بعد نصف ساعة خرجت من غرفة الاستعداد ترتدي ذات الفستان الذي كانت ترتديه في عرسها... غير انها بدت مشعة وسعيدة اكثر من اي وقت مضى.... خفق قلبه بين اضلعه بجنون وهي تتقدم نحوه..... هذه المرأة هي حبه الحقيقي ... والوحيد ............
قبل يدها بحرارة... ثم هبط راكعاً على ركبة واحدة مخرجاً العلبة المخملية من جيبه ... وقال لها:
-تزوجيني أرورا..... أريد ان اقيم لكِ عرساً ثالث... يحضره الجميع.... اريد ان يقرأ كل من حضر عرسنا الأول ملامح الحب التي ترتسم على وجهي.... اريد ان احبكِ أمامهم... اريد ان اعيش معكِ حتى آخر العمر.....
همست بكل ما تحمل في قلبها من حب:
-بالتأكيد سأتزوجك... في النهاية علينا ان ننهي حكاية الأمير والأميرة بعبارة "وعاشا بسعادة الى الأبد"
***********************
نظر ماتيو للمرة الخامسة الى ساعته مقطب الجبين .... لقد تأخرت كيرا.... أتراها جبنت عن مواجهة "المجتمع البلاستيكي" كما تحب ان تدعوه.... هل استسلمت لظنونها الحمقاء بانها قد تقوم بحركة خاطئة او تصرف غير لائق مما يجعله يخجل منها.... هذه الصغيرة المتهورة من كان يظن انها على القدر من التردد والجبن؟
حالما رفع وجهه عن ساعته اتجهت عيناه فوراً الى مدخل القاعة... سقط فكه ليفغر فمه ببلاهة...... كانت كيرا تقف هناك مرتدية فستانا بلون اسود اقل ما يقال عنه انه مثير!...... الفستان عبارة عن تخريمات غطت بجمال فائق كتفيها وصدرها... ثم هناك مساحة من بطنها ظاهرة لينساب بعدها الفستان على شكل قماش اسود معتم كالليل ملتصق بفخذيها ليتسع قليلاً في نهايته معطياً اياها شكل حورية ... شعرها كان حراً ومصففاً بطريقة انيقة.. ترتدي قرطاً جميلاً وتضع زينة وجه فاتنة.... اقترب منها مثل رجل تحت تأثير التنويم المغناطيسي.... كانت جميلة بشكل قاتل.... انثى بكل ما في هذه الكلمة من دلال واناقة واغواء....
عيناها المكحلتان كانتا مرتبكتين قليلاً وهي تبحث عنه .. حتى وجدته فأطل الارتياح من ملامحها....
وقف امامها مذهولاً... لم تكن هذه المرة الاولى التي يصادف بها امرأة تزين وجهها او ترتدي فستاناً مغوياً... لكن الفرق ان هذه المرأة هي كيرا.... الصبية التي يحبها اكثر من اي شئ والتي تفتقد الى كل حس بالاناقة....
-ها؟ هل اذهلتك؟
رمش وهو يتأملها بعشق:
-في الحقيقة، نعم وبشدة
تأملت الحشد خلفه وقالت بقلق:
-هل تظن أنني سأنجح؟ لا اريد ان اثير فضيحة
رفع حاجبه وقال بمكر:
-اذا ابقيتي يدك بعيدة عن الكيك وبعيدة عن بذلتي .. لربما سننجو دون فضائح
نظرت اليه بحنق:
-انت تحب بذلاتك اكثر مني.... بالمناسبة ما ماركتها؟
-فيرزاتشي
عبرت عيناها على قامته المكتسية ببذلة سوداء انيقة وفاض التقدير منهما
-في الحقيقة تناسبك تماماً... تبدو وسيماً جداً
قال ممازحاً
-انتظري وشاهديني من دون ملابس... ابدو اكثر وسامة صدقيني
اتسعت عيناها بإستنكار ثم ضاقتا وهي تجيب:
-هل هذا ما لديكَ لتقوله... اليس هناك تعليق على مظهري؟
اعترض:
-لقد قلت لتوي انك اذهلتني
قطبت:
-أهذا فقط ما لديك لتقوله؟
-حسناً تبدين فاتنة بشكل قاتل... كل ما افكر به الان هو ان اقبل شفتيك وان المس بشرة خصرك الظاهر بوقاحة كدعوة صريحة للإغواء
ارتبك وجهها وقالت بصوت اجش:
-حسناً... هذا يكفي على ما اعتقد
لكن ماتيو لم يكتفي بذلك... اقترب منها خطوتين وثبت يديه على المنطقة الظاهرة من خصرها على كلتا الجهتين ... ثم سحبها اليه واخفض وجهه اليها وقال:
-بالحديث عن الفضائح.. احذرك... سأفتعل فضيحة هذه اللحظة
وقبل ان تعترض كان يقبلها امام انظار كل النساء اللواتي احترقن حسداً لأن ماتيو ميلر... العازب الأشهر في وسطهم... يعلن حبه لهذه المرأة وعلى الملأ....
لم يكن ماتيو مهتماً ولا واعياً للأعين المراقبة .. فقد كان غارقاً في قبلتها... كانت شفتاها مثل كل مرة... ناعمتان... جميلتان.... مغويتان وطفوليتان.....
لقد حارب طوال حياته ليدفع قائمة ذنوبه الطويلة.... وعلى شفتيها فقط سدد اخر ديونه.... وربح حربه بالحب ....
***************************
كانت تضحك ... راقبها من حيث يقف.... ترتدي فستاناً أبيض بتخريمات بيضاء على شكل ورود تصطف على جانبي جذعها بجمال اخاذ... ثم يهبط فستانها الابيض البسيط ملتصقاً بقامتها القصيرة المغوية .... لم تكن ترتدي طرحة او تزين شعرها بشئ... تركته حراً وبسيطاً يعكس شخصيتها الجميلة والعفوية.... فتاته الذهبية كانت تشع سعادة....... وكأنها شعرت بعيناه عليها فإلتفتت اليه والتقت نظراتهما.....
تقدم نحوها كأن سحراً ما يشده اليها... فإستأذنت من المجموعة التي كانت تقف معها وتقدمت نحوه هي الاخرى .. تتمايل بدلال طبيعي وبرقي متوارث.....
-ألم تكتفي من الاحتفال؟
ضحكت:
-لم العجلة؟
امسك بيدها ولامس خاتمه المثبت في اصبعها
-لربما لأنني اكاد افقد السيطرة على نفسي وانقض عليكِ
رمشت بإرتباك .. ثم قالت
-اعتقد ان علينا الذهاب اذن
-تين..
-ويل؟
-هل أخبرتكِ اليوم بأنكِ تبدين ذهبية اكثر من اي وقتٍ مضى؟
ابتسمت لوجهه فشعت الشمس من ابتسامتها
-لربما قلتها داخلك.. لكنني سمعتها
خرج بها من قاعة الفندق الفخمة محاولاً قدر الامكان عدم جذب الانتباه اليهما.. واتجه بها فوراً الى المصعد ليستقلاه نحو الجناح الملكي الذي حجزاه لليلة واحدة قبل الذهاب في رحلة شهر العسل....
فتح باب الجناح... وحملها بين يديه... كان قلبه يخفق بعنف ....
انزلها لتقف على قدميها وسط جناح عابق بالورد والشموع المعطرة ....
-لا اعلم تينا كم مرة حلمت فيها منذ احببتك بأن تقفي أمامي هكذا بأبيضك.... وان اخذكِ بين ذراعي وان أمنحك الحماية والأمان والملجأ من كل اشباح الماضي..
ابتسم وجهها بينما فاضت عيناها شجناً
-لقد حاربنا اشباحنا كثيراً... وحان الوقت لننتصر
اخذت يده بين كفيها وقالت له بلطف:
-وليد.. هناك ما علي ان اخبرك به
-قولي حبيبتي
زحف الاحمرار لوجنتيها الجميلتين وظهر الارتباك في عينيها وابعدت نظراتها عنه لتدور في الغرفة ثم عادتا وحطتها عليه كأنها لم تطق ان تبتعد عنه.... اخذت نفساً عميقاً وقالت
-اخبرتك سابقاً بأنني سأعوضك لأنك قبلتني كما انا... لأنك الغيت عقليتك الشرقية وتجاهلت ما قد اكون فعلته في الماضي لأنك تحبني..... يجب ان أقول لك.... أنا ما زلت.... تعلم.... ما زلت
تلعثمت بينما زحف الادراك على وجهه واتسعت عيناه بدهشة:
-حقاً؟
شرحت له وهي تضغط يده بين كفيها برفق:
-لقد ولدت في عائلة مفككة... حين وعيت على الحياة كانت امي تعاني من تبعات علاقة والدي الغير شرعية.... ورغم انني ممتنة للقدر لأنه منحني جوزيف كأخ لي... لكنه كذلك عانى من هذه العلاقة ... لقد جاء الى عائلة لا تحبه... اخوته لا يحبونه... والمجتمع بأجمعه حكم عليه غير انه تحدى الجميع وكسب احترامهم بالرغم عن انوفهم.... ثم جائت علاقة ماتيو غير الشرعية... لا اريد ان اخوض بتفاصيلها.... لكنني ادركت من جديد كم ان هذه العلاقات مدمرة... كما انني تربيت تقريباً على يدي جوزيف... جوزيف يرفض هذا النوع من العلاقات تماماً.... لربما لأن له دماء عربية او لربما لأنه رجل مستقيم ... يكره الاخطاء بكل انواعها... لذلك لم امنح نفسي لأحد.....
كاد قلب وليد ان يخرج من مكانه.... في اللحظة التي اقنع نفسه فيها ان حبه لتينا يفوق كل الحدود وان حبه هذا كفيل بأن يتخطى عقليته الشرقية وان انسانيتهما المشتركة كافية جائت الان لتطلق الرصاص على اخر اشباحه .....
امسك وجهه بين يديها وقال بصوت اجش:
-يا الهي تينا لم اكن اتخيل انني سأحبكِ أكثر... لكنني أحبك الان اكثر.... ليس لأنكِ ما زلتِ عذراء ... ليس لأجل عقليتي الشرقية... ليس لأجل كل شئ عدا حقيقة أنني سأكون الرجل الأول الذي يحترق بهذه البشرة الذهبية... وينصهر تحت انفاسك الحارة..... ويعلمك الحب ...
حملها بين ذراعيه.... واحنى وجهه يقبلها ... وهو يهمس بين قبلة اخرى:
-أحبك...... أحبك....... أحبك
همست قرب أذنه:
-علمني الحب... يا رجلي الأول والأخير
وهكذا فعل ...........
**********************
وقفت انجل في الزاوية تنظر مبتسمة لكل ما يجري حولها... اقترب منها جوزيف متأملاً كم بدت ضئيلة وجميلة بثوبها الأبيض المصنوع من قماش الشيفون... التفتت تنظر اليه.. فطالعته عينا الغزال اللتان صوبتا قلبه بسهام حقدهما ثم حبهما طوال سنوات....
-انجل.... لماذا تقفين في "الكواليس"
اقتربت منه وتعلقت بذراعه بتملك وهي تضع رأسها على كتفه...
-الا ترى .. انهم جميعاً عاشقين مثلنا... كنت كلما نظرت الى احد اخوتك ارى حربه مع ذاته .... حربنا انا وانت كانت ضد وطن وموت اما حربهم فكانت ضد انفسهم... وكم يسعدني انهم خرجوا من هذه الحرب كما خرجنا نحن ...... بالحب...
رفعت وجهها تنظر اليه.... في تلك اللحظة اختفى العالم.. وكانا يقفان وحدهما في وجود صنعاه معاً... وجود يسمح لهما ان يحبا بعضهما .. رغم الهوية ورغم الوطن
احتضنها ... امتزجت روحها بروحه ... وشعرت مرة اخرى بروعة ان تكون واقعة في حب رجل على شكل وطن.. ووطن على شكل رجل
همست: احبك وطني,, أحبك
************************************
كان صخر يتعلق بيد زنبق بقوة.. ويسير بها بين الحضور وسط دهشتهم... فالجميع يعرف ان زنبق هي زوجة وليد السابقة والتي انتهى زواجه منها بسرعة قياسية..... لكن صخر لم يكن يهتم لشئ... كان يعيش عالمه الخاص.......
لأربع سنوات طويلة تعذب... بين حبه وحقده والامه ... لكنه اخيراً وجد الراحة والعلاج..... لربما لن يستطيع ان يتلافى مع زنبق اخطاء الماضي... لكنهما يملكان المستقبل... وكما حطمهما الحب يوماً فهو كفيل ببنائهما من جديد.....
لم يكن وليد حاضراً اذ يبدو انه تسلل باكراً ولم تسنح لهما فرصة اللقاء والتهنئة لكسر اخر حاجز بينهما....
تذمرت زنبق:
-لقد تأخرنا كثيراً
ابتسم بمرارة: تأخرنا .. تأخرنا كثيراً... لكنني سعيد بأننا أتينا اخيراً
نظرت اليه بعينيها الربيعيتين وعلم بأنها فهمت قصده فإبتسمت له: وانا سعيدة كذلك.....
لمحا جوزيف يحتضن انجل في زاوية القاعة ...
علقت زنبق:
-كنت سأستغرب لو لم اجدهما متعانقين
ضحك صخر:
-الى هذه الدرجة
بادلته الضحك:
-عليك ان تعيش معهم في نفس البيت وستفهم قصدي... انهما يشعان حباً
سألها وقد شاهد البعض يرقص:
-هل تراقصيني؟
نظرت الى الراقصين ثم اليه وبدت وكأنها تفكر للحظة... ثم اخذته من يده الى الخارج
سألها: الى اين نذهب؟
-سأفعل شيئاً لم افعله منذ اشهر طويلة
في الحديقة الخلفية للفندق الفخم .... راقب صخر بدهشة زنبق تخلع حذائها ... وتقف على بعد امتار منه ....
قالت له: منذ ان تزوجت صوفيا.. لم ارقص رقصة سما..... هذه رقصة الدراويش... كلما رقصتها شعرت بالراحة والسلام ... كانت تلك احدى الاشياء التي افعلها حين اتألم ... بعد زواجك كنت غاضبة جداً... ولم اكن اريد ان اشعر بالسلام بل اردت ان اتذكر في كل لحظة المي لأستطيع ان انتقم منك......... الان وانا انظر اليك... اشعر بأنني اريد ان ارقص...
فتحت ذراعيها بشكل افقي .. ورفعت كفاً نحو السماء واخرى نحو الأرض .. واخذت تدور ببطئ...
وقالت: تدور حول نفسك .. تغمض عينيك .. وتنسى نفسك... تدور وتدور .. ترفع كفك للسماء تتلقى حب الله.. ثم بكفك الاخرى المتجهة نحو الارض توزع ما تأخذه من حب الى كل العالم....
بدأت سرعة دورانها تزداد... لكنها لم تغمض عينيها.... بل راحت تنظر اليه وهي تدور آخذة انفاسه من صدره وهو يراقب بقلب خافق الجمال الروحاني الذي تجسد فيها....
ثم فجأة وضعت كفها الذي كان يتجه الى الأرض نحو قلبها والكف المرتفعة للسماء اشارت بها نحوه وواصلت رقصها ....
قالت وهي تدور:
-أنا أحبك صخر.. كما الصوفي الذي يحب ربه... أحبك مطلقاً كما يحبه مطلقاً... أحبك دون ماضي ودون خوف ودون شروط..... غير أنني لا اشبه الصوفي... فحين ارقص لك.... سأمد كفاً نحو قلبك.... وامد الكف الأخرى نحو قلبي فما اخذه منك من حب لا اريد ان اوزعه على احد سوى قلبي....... انها انانية لا تليق برقصة سما..... لكنني احبك هكذا..... هكذا
وراحت تدور وتدور ... ودون ان يشعر وجد نفسه يضع يداً على قلبه واخرى يمدها نحوها ويبدأ بالدوران هو الآخر......
كانا يرقصان معاً.... متحدين ببعضهما.. ياخذان الحب من قلبيهما ليعطياه لقلبيهما..... كانا في تلك اللحظة... رجل وامرأة على حب !قراءة ممتعة..
يتبع مع الخاتمة...
أنت تقرأ
رقصة سما(الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملة
Storie d'amoreرواية بقلم المبدعة بلقيس علي(مشتاقة) الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي