الرقصة الخامسة
الباسا دوبلي*
*وهي رقصة مستمدة من الأصول الإسبانية ومنبثقة من موسيقى الفلامنكو، ومن الرقصات الغجرية في جنوب إسبانيا ومستوحاة من تقليد مهاجمة الثيران، وتسمى برقصة الانتصار. الرجل يمثل فيها المصارع والسيدة تجسد الرداء الأحمر. كان الرجل يعتقد أن المرأة سهلة المنال ولكن العكس هو الصحيح
إن لحقك الاضطراب وأنت مفتوح العينين، اعلم أنك أغلقت عين القلب فافتحها - مولانا جلال الدين الرومي
تينا..
رفعت نظرها اليه تتطلع الى عينين بسواد الليل .. ابتسمت له بهيام : نعم حبيبي
-دعينا نذهب الى مكان اكثر خصوصية .. اريد ان اضمك بعيداً عن اعين المارة ..
-لقد اتفقنا منذ البداية ان آقضي معك يومين دون ان يعني هذا انني سأتخطى الخطوط الحمراء
عبس بوجهها : اي خطوط حمراء تينا.. نحن في اي عصر؟ انتِ متزمتة جداً ..
اتسعت ابتسامتها : هل تتذمر؟
انفرد عبوسه وهو يقول : وهل يمكنني؟
هزت رأسها بالنفي .. لتتعلق بذراعه وهما يواصلان المشي على الساحل .. بعد دقيقة من الصمت .. رأته يتحسس جيبه مقطباً كأنه يبحث عن شئ ما .. سألته : ما الامر؟
اجابها وهو ما يزال يتفحص جيوبه : أظنني نسيت دخاني في السيارة ..
-هذا افضل .. لا احب ان تدخن فتضر صحتك
-اوه ليس محاضرة الصحة من جديد حبيبتي .. دعينا نذهب الى السيارة لأحضرها
دون اعتراض مشت معه بخفة شاعرة بنفسها تطير فوق السحاب .. صبية في اول عمرها بكامل تهورها وبرائتها وحبها للحب .. تتعلق بذراع رجل ضخم مفتول العضلات .. اشقر الشعر كأنه سرق من الشمس ضوئها .. اسود العينين كأنه سرق من الليل ظلمته .. كانا يتمشيان بهدوء .. حين وصلا الى السيارة قال لها : "ألن تأتي معي الى البيت؟" .. ابتسمت ثانية لعدم استسلامه وهي تقول "لا حبيبي" .. فجأة اصبحت عيناه اكثر ظلمة .. وتحجر وجهه كأنه قد من صخر الجبال الشاهقة .. ونضح الحقد من نظرته وهو يقول "انتِ من اخترتي" .. ولم تشعر به الا وهو يتقدم نحوها مخرجا قطعة قماش من جيب بنطاله القصير مكمما فمها وانفها بها .. للحظة لم تستوعب ما يحصل لكن جسدها قاوم بشكل لا ارادي .. كانت ترفس بقوة .. لكنها بعد ثواني معدودة غابت عن الادراك غارقة في لجة الجهل المظلم لمصيرها المفجع .. حين استيقظت كانت يديها مقيدتين خلف ظهر كرسي خشبي قديم .. وفمها محاط بشريط لاصق لم يمنعها من اطلاق صرخة مكبوتة .. وقف هو امامها .. خالعاً عن وجهه قناع الدفئ الذي كان يرتديه .. مظهراً قبح الحقد ولذة الانتصار المريض .. قال لها بسخرية "هل حقاً ظننتي أن دمية شقراء مثلك قد تجذبني؟" ... طفرت الدموع من عينيها .. كان قلبها يتحطم مع روحها ومعنوياتها .. من هو؟ ماذا يريد منها؟ لماذا خطفها؟... طافت الاسئلة في عقلها كلسعات سوط لا يرحم .. وكل اسئلتها اجيبت حين لوح بيده امام وجهها بهاتفها وهو يقول : والان .. ستنفذين ما اقوله لكِ بالحرف .. والا ... ثم استل من خلف ظهره مسدساً وجهه الى جبهتها .. اتسعت عيناها رعباً وهي تذرف دموعها وتصرخ دون ان يخرج صوتها حقاً .. اكمل "ستتصلين بملاك .. ستطلبين منها ان تأتي .. وحدها .. مفهوم؟" .. كاد قلبها ان يتوقف .. انجل! .. ما الذي يربط هذا الرجل بها .. من هو ولماذا يريد زوجة اخيها .. رفع حاجبه "انا مايسون .. وزوجة اخيك كادت تقتلني .. ولكن يا للعجب .. لم يزيدني هذا الا عشقاً لها" !.... أنّت تينا كأن أحدهم اقتطع من جسدها عضواً دون مخدر .. كان الوجع قاتلاً .. أن تعرف انها مجرد وسيلة للوصول الى انجل .. أن تعرف ان الرجل الذي احبته مجرد وهم خلقه حاقد مثل مايسون .. ان تعرف انها بحماقتها ستكلف انجل وجو خسائر كبرى كل هذا كان فوق طاقة احتمالها .. تلوت بقهر محدثةً ضجيجاً خفيفاً .. لكن الرصاصة التي انطلقت من فوهة المسدس لتمر بجانبها تماماً جعلتها تتسمر رعباً .. حذرها "المرة القادمة لن اخطأ هدفي.." ثم مد يده بالهاتف قائلاً "لقد وجدت اسمها في قائمة الاسماء سأزيل عنكِ الشريط اللاصق .. ثم سأتصل .. وستفعلين ما امرتك به والا فأنني سأقتلك تينا .. وسأقتل اخاكِ" خفق قلبها حتى كاد يخرج من صدرها رعباً حين جاء على ذكر جو .. هزت رأسها بهلع .. ازال عن فمها الشريط فندت عنها صرخة نالت عليها صفعة موجعه اطلقت الدموع اكثر من عينيها .. صاح بها "لا اريدها ان تشك بشئ فهمتي؟".. تلوت مرة اخرى تدير رأسها رافضة فكرة الايقاع بأنجل رغم كل شئ .. فأمسكت يده المتعلقة بهاتفها وجهها .. ضاغطاً معدن الهاتف فوق خدها بقسوة وهو يقول من بين اسنانه "حياتكِ وحياة اخيكِ مقابل رفضكِ" .. التهديد بحياة جو جعلها ترتعش من جديد .. فانصاعت مجبرة لأوامره ... لا تذكر حقاً ماذا قالت لأنجل .. فقد كان قلبها يتمزق .. متخيلة اسوأ التخيلات حول ما سيحصل لهما معاً .. اعاد وضع اللاصق حالما انهت المكالمة .. قبل شفتيها عبر اللاصق فشعرت بقشعريرة تقزز وخوف ضحك بسماجة وخبث "ارى ان تأثيري ما زال قائماً " اهتاجت وهي تتحرك بقوة في مكانها رافضة.. لكنه لم يبالي .. بل تركها ووقف يتأمل الخارج عبر نافذة متسخة وسمعته يقول بهوس مرضي "كانت جميلة .. نقية كالماء .. وعيناها شجيتان جداً.. خاشعتان في صلاة دامعة .. ترتدي شالها الاسود الشفاف .. تخفض رأسها بتضرع .. كانت خلابة .. منذ تلك اللحظة وهي تسري كالمرض في جسدي .. حين تذوقت شفتيها ... (اطلق تنهيدة اثارت رغبتها في التقيأ) شفتان عذراوان .. لم يمسهما مخلوق .. ما اجمل الاشياء التي لم تمس ولم تدنس .. كم كانت مقدسة .. انها هالة القدسية حولها ما اغراني بها .. واليوم سأحصل عليها .. لقد فعلت الكثير لأحصل عليها .. " استدار نحوها بينما كانت تنظر اليه برعب وهي تستوعب مدى الهوس المرضي الناضح من كل حرف قاله .. ابتسم بخبث واتجه نحو جرار لمنضدة خشبية متهالكة .. اخرج منه لفة قماش سوداء قائلاً" لكنني سألهو معها قليلاً " .. افترش القطعة على سطح المنضدة فاهتاجت متلوية بقوة وهي تطالع امامها صفاً طويلا من شفرات التشريح وحين تأكد انها رأتها عاد يلفها بعناية محتفظاً بها فوق المنضدة.. ماذا سيفعل بأنجل.. صرخت وصرخت وصرخت وصرخاتها كانت تضيع سدى في مسامات الشريط اللاصق .. تخبطت يمينا وشمالا تقاوم قيدها .. فأنتهى بها الامر ساقطة على الارض ... تقدم نحوها ببطئ واعاد الكرسي الخشبي الى مكانه ناظراً الى وجهها المرعوب الباكي والى جسدها المنتفض اتسعت ابتسامته "لا تخافي يا دميتي الشقراء .. لن اقتلها" .. كانت ما تزال تتلوى حين انفتح الباب ببطئ وصوت تعرفه جيداً كان ينادي "تينا.. تينا" .. تحجرت عينا تينا .. انها انجل .. لقد جاءت .. التفتت بسرعة نحو اللفافة التي تحوي شفرات التشريح مانحة صورة متوحشة لما سيحدث .. كانت انجل تخطو الى الداخل .. بينما تحاول هي بشتى الطرق ان تفك اسر نفسها ..و الجثة الضخمة المريضة كانت تقف الى جانبها .. راقبت بقهر انجل وهي تشهق .. وقد ظهر الرعب جلياً على وجهها وهي تستوعب المنظر .. اتسعت عيناها وشحب وجهها وكأنها رات شبحاً .. قال هو بصوت بارد بابتسامة انتصار "اهلا بكِ" .. تراجعت انجل خطوة الى الوراء وهي تهمس برعب "كيف لم تمت؟" .. بينما كانت هي ما تزال تتلوى بعجز ودموعها تشوش مجال رؤيتها .. لقد ساقت انجل الى حتفها .. عادت تنظر الى اللفافة السوداء برعب لتنتفض من جديد .. ارتفعت يد مايسون الى قلبه مجيبا أنجل "لقد اخطأتي التصويب".. ثم اخد يتقدم نحو انجل بينما كانت هي مقيدة الى الكرسي عاجزة تماماً .. مقهورة تماماً .. تشعر بفداحة فعلتها في كل خطوة يتقدمها مايسون نحو انجل لتزداد شحوباً وهلعاً رغم انها لم تتحرك .. وقف امام انجل .. صرخت مزحزحة الكرسي .. يا رب لا تدعه يؤذيها .. يا الهي انها انجل .. صديقتها وزوجة اخيها .. انها الفتاة التي منحت بيتهم البارد روحاً جديدة .. انها قطعة من قلب جو .. جو الذي عانى من ماتيو ولويسا ما عانى .. جو الذي يطل العشق الخالص من عينيه لزوجته والتي بحماقاتها ساقتها الى عدوهما حاملة جنينها في بطنها .. نفضت تينا رأسها بصرخة مكتومة انشقت من اعمق اعماق روحها وهي تفكر في جنين انجل .. صوت مايسون يخاطب انجل جاء مخترقاً صرخاتها " عيناكِ تغيرتا .. لقد اصبحتا اقل شجناً " ثم سحبها لتجلس على الكرسي المجاور لكرسيها .. نظرت الي انجل بوجه دامع .. داخلها يصرخ بشدة .. قلبها يتمزق.. بالاضافة الى رعبها السافر كانت تتوجع لأنها خذلت انجل .. لأنها ستكون السبب في اذية جو .. قرأت انجل الاعتذار في عينيها فهمست لها " لاعليكِ" .. امسك مايسون بيدي انجل وربطهما خلف المقعد كما فعل معها ثم تنشق رقبة انجل وهو يهمس "لقد اشتقت لكِ" .. ألم .. ألم .. ألم حاد ضرب قلبها .. وهي ترى الهوس والشغف الذي يعتلي ملامح مايسون الذي مثل عليها بمهارة دور جيمس العاشق .. همست ملاك "أرجوك" فسألها بشغف كأنه احب رجائها له "ارجوك ماذا انجل؟" تقلص وجه زوجة اخيها فقصف الوجع ارجاء روحها لتسمعها تجيب "لا تؤذها" .. اغمضت تينا عينيها .. غير قادرة على التحمل .. شعرت بكره لا قرار له نحو ذاتها .. فبأنانيتها اوصلت انجل هنا وانجل ما زالت تتوسل لأجل سلامتها .. ضحك مايسون ضحكة مقرفة "لا اريد هذه الدمية الشقراء" ثم اقترب "اريدك انتِ" .. ثارت تينا في مقعدها تحاول النهوض لتخليص انجل بأي وسيلة .. لكن لا انجل ولا مايسون انتبها اليها .. كانت انجل تعيش رعبها الخاص بينما مايسون يعيش هوسه الملوث .. طفرت الدموع من عيني انجل .. دموع انحفرت في قلب تينا .. في روحها .. دموع ما زالت بعد كل هذا الوقت تتساقط كالامطار في داخلها .. دموع لم تسقط من عينيها هي لكنها جرت فوق كل جزء داخلها محدثةً شقاً جارحاً كشق سكين... حين بسط مايسون اللفافة من جديد صرخت انجل "ماذا ستفعل" فأستدار مبتسماً لها بحقد .. حقد طبعته عينا تينا للابد .. فصار يراودها في معظم لياليها بكوابيس لا تنتهي "اتعلمين ..في صغري كنت اود ان اكون طبيباً عندما اكبر ففكرت لماذا لا اجرب الان .. لم يفت الاوان بعد أليس كذلك؟".. النظرة التي فاقت الرعب بمراحل والتي لاحت في عيني انجل .. كانت رفيقة كوابيسها هي الاخرى .. نظرة تذكرها دوماً بمقدار الألم الذي عاشته انجل بسببها .. تقدم مايسون يحمل حقنة بينما انفجرت انجل باكية ليمسك بذقنها وهو يقول "لاتبكي" .. بدا لحظتها كمريض نفسي يعاني من مشاكل خطيرة في شخصيته .. كيف لم تشك للحظة به؟ كيف لم تعرف اي نفس وضيعة هي نفسه ؟ صاحت به انجل وهي تحاول تخليص وجهها من بين يديه "اتركني" .. تركها ليستقيم ناظراً اليها .. متقدماً بخطوات ثابتة بطيئة مستمتعاً برعبها الظاهر .. أنّت بخوف وهي تنظر الى الحقنة في يده .. يا الهي ماذا سيفعل بها والاهم ماذا سيفعل بأنجل .. تخبطت في مكانها لكنه امسك بها بقوة .. لمسته اشعرتها بالغثيان بينما اخر ما تذكره انه دس الابرة في وريدها وجرى سائل حارق بين اوردتها لتغيب بعدها عن العالم تاركتاً أنجل تواجه مصيرها ..
في العتمة التي كانت تسبح بها .. انهالت عليها تلك الذكريات البشعة من جديد .. تجلدها بالرعب الذي لم تعرف له حد تلك الليلة .. بالذنب الذي لم تكفره حتى هذا النهار .. بالانكسار الذي لم يجبره شئ .. بالخزي الذي لم يمحيه شئ .. وها هو مايسون يعود .. يكممها كما فعل مرة .. يسحبها نحو السيارة كما فعل مرة .. وها هي تسقط من جديد فريسة رعبها في اللاوعي ..
شهقت تينا وهي تنسل خارجة من البركة المظلمة لذكرياتها وهي تصرخ بقوة "لا مايسون لااااااااااا"
*
تحرك وليد بضيق مجتازاً غرفة الجلوس في شقة ابن خالته الياس جيئة وذهاباً كأنه نمر حبيس في قفص ضيق .. اي جنون هذا الذي ارتكبه ؟ .. هل وصلت به قلة العقل وسوء التصرف الى درجة الخطف ! .. لقد خطف اخت جوزيف ميلر بحق الله ! .. في المستشفى بدت الفكرة سديدة تحت ضغط غضبه وعناد القزمة لكن ما حدث في الموقف جعله يتخبط في احساس عميق بالذنب والمفاجأة .. كانت تينا تتلوى بين ذراعيه برعب كأن حياتها متوقفة على الخلاص منه .. لم عليه ان يتفاجأ كل انسان سيتصرف مثلها حين يتعرض للخطف .. لكن شيئاً ما في انهيارها الخائف جعله يشعر بأنها كانت تصارع اكثر من محاولة خطف .. ثم لينتهي الموقف بتراخيها بين ذراعيه فجأة ساقطة فوق صدره فاقدة للوعي .. داهمه قلق لا حد له وهو يحملها بين ذراعيه هامساً بخوف "تينا .. تين" .. لكنها كانت كدمية لا تتحرك .. تنفسها وحده ما اعطى انطباعا عن ان الحياة ما زالت تدب في جسدها .. شتم بعنف .. انحنى يحملها ثم تناول مفتاح السيارة الذي سقط على الارض بصعوبة .. عدل من وضعية جسدها بين ذراعيه مستشعراً خفة وزنها .. ثم انطلق نحو السيارة الصغيرة الحمراء اللامعة التي راقبها تمد يدها من بعيد بالمفتاح الالي لتفتحها .. وضعها بعناية على المقعد وثبت حزام الامان حولها واستدار حول السيارة ليجلس خلف المقود ثم لينطلق نحو شقة الياس التي اشتراها ابن خالته حديثاً دون ان يقضي فيها ليلة واحدة والذي سلمه مفتاحها ليشرف بنفسه على ترتيبات الديكور حين يعود من شهر العسل الذي تحول فجأة الى بصل ! .. اوقف السيارة امام الاشارة الحمراء .. وحانت منه التفاتة الى تينا الغائبة عن العالم .. للمرة الأولى يلاحظ جمالها .. ليس كأنه لم يلاحظه سابقاً .. فهو جمال لا يسهل تجاهله حتى في حالة الغضب والثورة التي تعتريه .. لكنها المرة الأولى التي يتمعن به .. وجهها صافٍ تماماً .. ببياض مشرب بلون ذهبي طبيعي كأنها تعرضت للشمس كثيراً.. شفتان ممتلئتان دقيقتي الرسم .. شفتها السفلى تتدلى قليلاً بدلال بدعوة صريحة للـ ... التفت بعيداً عن وجهها ... هل هو مجنون ! .. منذ متى يفكر بهذا الشكل؟ وهل هذا وضع تفكير بتلك الأمور؟ ثم هل نسي من تكون انها القزمة التي تناديه ولد .. والتي صادف ان يكون اخوها وزوجته قد عينا نفسيهما راعيين رسميين لزوجته "الشريفة" .. صحح لنفسه "طليقته" .. فما كان ليسمح لنفسه ان يلوث شرفه بابقائها زوجة له ولو ليوم واحد .. عاد فكره الى زنبق .. وضرب قلبه بعنف .. لم يعرف لماذا وجه لها هذا العرض القذر .. العرض الذي لم يفكر به لثانية قبل ان ينطقه .. لكنه اراد ان يهينها .. اراد ان ينتقم منها بوضعها في المكانة التي تنتمي اليها .. لم يكن ليسمح لنفسه ابداً ان ينفذ تهديده .. ان كانت نور او زنبق امرأة رخيصة فهو ليس برجل رخيص .. لم يكن يوماً كذلك .. كان دوماً رجلاً مستقيماً ومحترماً .. كان يؤمن بالحب والاخلاص والالتزام .. لكنه الان يمر بمرحلة الحقد القاتل الذي ينهش جسده وقلبه على حد سواء .. لقد فعلت به ما لم يفعله اعتى منافسيه في مجال الاعمال .. لقد نالت منه وعرضته للاذلال على يد جوزيف ميلر .. انقبضت يده حول المقود .. عليه ان يسترجعها ليفرغ حقده .. لا يعلم بأي طريقة لكن عليه ان يجردها من كل حماية .. عليها ان تدفع الثمن .. وهي لن تدفعه ما دامت محاطة باسوار جوزيف ميلر الغير قابلة للاختراق .. لذا ضربت عقله فكرة اختطاف تينا .. تينا مقابل نور .. مبادلة عادلة .. عندها ستدفع نور ثمن افعالها .. وسيوفي بوعده وينتقم من جوزيف ميلر .. عندما وصل الى شقة الياس .. مدد جسد تينا فوق الاريكة في غرفة الجلوس التي ما زالت غير مكتملة التأثيث .. وحاول ايقاظها .. قرب زجاجة عطرو جدها على رف الحمام من انفها لعلها تستيقظ لكنها لم تفعل .. كانت كمن دخل في حالة غيبوبة .. كأنها كانت تهرب رافضة ايقاظ عقلها .. انتابه القلق أكثر .. عدم استيقاظها اقلقه .. هو يعلم كطبيب ان هذا الهروب الى اللاوعي هو وسيلة مقاومة للواقع وانها ستستفيق ولا شك .. لكنه مع هذا شعر بالقلق .. سقطت خصلة من شعرها الاشقر فوق وجهها فأزاحها دون وعي .. ليتسمر في مكانه دون ان يفهم ما يحدث له بالضبط .. كانت الشمس تشرق من وجهها ! .. مضيئة جداً بشرتها الذهبية .. حاجبيها مرتفعان بشكل طبيعي حاد .. وعيناها التي تشبه عيني قطة مغمضتان باستسلام .. وفمها .. رمش وليد وقفز واقفاً .. ماذا يفعل بحق الله ! ... انه يتأمل كالمراهقين جمال امرأة لسانها اطول منها بخمس مرات.. واخوها يحتجز طليقته ليحميها منه .. دار في الغرفة بتوتر وضيق .. ثم فجأة شهقت مستيقظة وهي تصيح "لامايسون ..لااااا" .. وثب اليها بينما كانت تدور بعينيها حول المكان دون ان تراه حقاً .. طفرت الدموع من عينيها وتجلى الرعب في ملامحها وهي تنتفض واقفة "لاااااا.. لااااا.." ترنحت فحاول امساكها وهو يقول محاولاً تهدئتها "تينا" .. انتفضت مبتعدة بهلع وهي تصرخ "ابتعد مايسون" .. تسائل في نفسه من هذا المايسون الذي يجعلها ترتعب بهذا الشكل .. رق قلبه لا ارادياً لوجهها الباكي ورعشة جسدها الخائف .. رفع يديه الى الاعلى بعلامة استسلام "تينا انا وليد .. لست مايسون .. انا وليد" .. توقفت صرخاتها فجأة .. رمشت بعينيها .. لتنجلي الغشاوة عنهما .. نظرت حولها كأنها تستوعب المكان .. ثم حطت عينان رماديتان تميلان الى الزرقة على وجهه .. عينان كسيرتان خائفتان ضربتا صدره بقوة .. همست بإستفهام "وليد؟" .. خرج اسمه كارتعاشة بين شفتيها ابتلع ريقه مستغرباً للشعور الذي اعتراه حين همست بأسمه .. اخذت نفساً عميقاً .. وتدلى كتفاها بتعب وهي تردد "شكرا للرب .. شكرا للرب" .. وبدا كأن ساقيها لم تقويا على حملها اكثر فتهاوت الى الأرض لتتلقفها ذراعيه الصلبتين .. استندت عليه دون تحفظ ورفعت وجهاً يطفح منه الامتنان وعادت تردد "شكرا للرب".. لم يكن من الصعب ان يحزر ان شيئاً سيئاً حصل لها في الماضي .. شئ يرتبط بشخص اسمه مايسون .. وانها ظنت بأن هذا الشخص هو من اخذها .. شعر بالذنب لأنه ارعبها بهذه الطريقة .. لقد شكرت الله لأنه وليد .. لا ارادياً مسح فوق شعرها الاشقر وهو يقول مطمئناً .. "لا بأس.. لا بأس".... ثم سحبها لتجلس على الأريكة.. كانت ما تزال متشبثة به .. تحني رأسها ببؤس .. وبجامتها البشعة تزيد من منظرها براءة .. سألها "هل انتِ بخير".. هزت رأسها ببطئ بعلامة نعم ..
-هل تريدين قليلاً من الماء؟
هزت رأسها مرة اخرى .. فهمّ بالنهوض لكن اصابعها المتشبثة بقميصه منعته .. همس "تين.." رفعت عينيها الغائمتين اليه فأخفض بصره نحو اصابعها بصمت فهمست "آه" ثم ابعدت اصابعها لتضع كلتا يديها في حجرها .. نهض وليد ببطئ .. يحاول ان يحلل المشاعر الغريبة التي تعتريه .. اشفق على شكلها الخائف الذي زاد من جاذبية الضوء الذهبي المشع من ملامحها الشقراء .. ما الذي تفكر فيه ايها الأحمق ؟ .. انت الخاطف هنا .. فماذا لا تتصرف على هذا الاساس؟ كان من المفترض ان تكون في رحلة شهر العسل الان يا دكتور وليد .. فلماذا تحلل هذه الشقراء القزمة بهذه الطريقة .. لقد دعتك بالولد اتذكر؟ اخوها جوزيف ميلر الذي سخر منك وجره رجالك خارجاً اتذكر؟ انها وسيلة لاستعادة نور اتذكر؟ عبس وليد .. لماذا لا يجيبه عقله "نعم اذكر"! .. عاد بكأس الماء .. لكنها لم تكن في مكانها .. كانت تتحرك كالمجنونة نحو الباب .. يبدو انها استيقظت من صدمتها وادركت الوضع .. ترك الكأس على اقرب منضدة وخطى بسرعة نحو الباب يسبقها اليه .. وقف بينها وبين الباب .. صاحت "لقد اختطفتني".... رفع حاجبيه "من الجيد انكِ ادركتي هذا الان" .. اتسعت حدقتاها وقرأ الرعب في عينيها .. انفاسها تسارعت لكن ملامحها توحشت بدل ان تدخل في نوبة ذعر .. امرته بحدة "ابتعد ودعني اخرج" .. اجاب ببساطة "لا"... هتفت "وهذه المرة انا حيلة لأجتلاب من؟" .. عبس قليلاً غير قادر على فهم جملتها .. لكنها لم تهتم اذ اكملت شاهقة "زانباك" .. زانباك! .. هل هذا اسم جديد .. ينضم لقائمة اسماء نور .. ما شاء الله تبارك الله .. زانباك .. عاشت الاسامي ! .. سخر عقله من طريقتها في لفظ الاسم .. لكنه انتبه اخيرا الى انها تراجعت قليلاً وعلى وجهها ملامح متألمة .. ملامح ضايقته جداً .. لكنه اجابها "نعم تين .. انتِ مقابل نور" .. صرخت في وجهه بهستيرية "أنت مجنون مثله .. مثله " .. اغرورقت عيناها بالدموع .. وتسائل هل مرت بشئ مشابه؟ ولسبب ما شعر بأنفاسه تتحشرج "مثل من؟" .. لم تجب على سؤاله بل هجمت عليه تحاول ان تتخطاه نحو الباب .. امسك بها بسهولة .. تلوت بجنون بين ذراعيه وهي تصرخ "اتركني .. اتركني ايها المتوحش".. امرها بصوت حاد "أهدئي تين.. لن اؤذيكي" .. رفعت وجها رسمت عليه ملامح العذاب بشكل يقطع نياط القلب "لكنك ستؤذها بي" .. ارتخت اصابعه الممسكة بها .. فأفلتت منه وركضت نحو الباب لكنه تدارك الأمر فأمسك بمعصمها يسحبها الى الوراء .. واغلق الباب بالمفتاح واستل المفتاح من القفل وادخله في جيبه .. والتفت الى تينا التي كانت تنظر الى الباب بيأس .. ثم فجأة انهارت راكعة على ركبتيها واجهشت بالبكاء .. نظر وليد حوله كمن يبحث عن احد يخبره ماذا يفعل .. تقدم نحوها ببطئ .. ركع امامها ثم همس بأول شئ خطر في باله "أنا آسف تين" ... نظرت اليه للحظة بعينين دامعتين وشهقات بكائها ضايقته بشكل لم يظن انها ستفعل ..ترجته "لا تستخدمي لنيلها ارجوك" .. اغمض عينيه ثم فتحهما .. عيناها كانتا رماديتان باهتتان في هذه اللحظة تلتمعان بالدموع مثل بحر في يوم عاصف .. مد لها يده وهو ينهض قائلاً "تعالي تين سأعيدكِ الى البيت" .. اتسعت عيناها بدهشة لكنها اسرعت بالامساك بيده فساعدها على النهوض .. اخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب. يبدو انه ليس بخاطف جيد ! .. ملامحها في تلك اللحظة جعلت داخله يرتجف قليلاً .. كانت كمسجون يخرج من سجن مؤبد .. انزاحت الغمامات الحزينة من عينيها وخطت الى الخارج مستنشقة الهواء بعمق .. كأنها تتذوق طعم الحرية .. حدسه اخبره انها حرية من سجن ماضٍ بعيد ربط فيه شيئين مهمين : شخص اسمه مايسون وحادثة اختطاف ... اتجها معاً نحو السيارة .. حين صعدا اليها .. وقبل ان ينطلق التفت اليه تينا وتأملته للحظة ثم قالت "لا تغرق ببحر الانتقام .. ولا ببحر المرارة .. دع الاشياء تسقط في مكانها الصحيح .. دع التيار يأخذك .. لن تعرف ابداً .. لربما ما يمزق قلبك الان .. سيكون سبب سعادتك غداً"... انسابت كلماتها الى قلبه تبلسم الجراح النازفة فيه والتي تدفعه ليتلبس شخصية غير شخصيته .. قال لها بصدق لم يعرف لماذا ينتهجه معها هي بالذات "أنا اتوجع .. لا أعرف كيف أواجه عائلتي .. ولا ذاتي .. لا اعرف كيف اواجه حقيقتها دون ان تتغير حقيقتي .. هل تعرفين وجع الرجل المخدوع؟.. انا رجل شرقي .. دمائي اكثر حرارة من الاستواء .. ردات فعلي حين يخيب احدهم ظني اعنف من الاعاصير التي تضرب هذه القارة .. لا استطيع الا ان اتخيل انني عشت لشهور طويلة مخدوعاً بالواجهة الهشة لنور" .. ابتلعت ريقها .. نضح الالم من عينيها كأن كل كلمة قالها دخلت الى صميم روحها ففهمتها همست له بصوت اجش "ان الالم يكون اكبر حين تجبر نفسك على ان تكون شخصاً آخر لمجرد ان تنتقم .. دع كل شخص ينال عقابه في الحياة دون ان تكون انت طرفاً فيه .. قد يظن الاخرون ان الحياة غير عادلة لكنها كذلك انها تقتص منا بقدر ما نقترف .. اذهب الى شهر عسلك وحيداً .. استرح .. اعد حساباتك .. سيطر على غضبك .. وعد وواجه اهلك .. اختلق اي عذر .. ما اكثر الاعذار .. وانفصلا قانونياً .. لا تشوه نفسك بالانتقام .. لقد شهدت كيف يشوه الانتقام اصحابه .. شهدته عن قرب .. ولا اريد لك مصيراً كأياه .. فأنت رغم كل شئ لا تبدو بالسوء الذي كنت تتصرف به حين داهمت منزلنا" .. قطب متذكراً "لقد دعوتني بالولد" .. اتهمته "دعوتني بالقزمة وبالشغالة".. ارتسمت ابتسامة على وجهه .. لقد اعاد اليه كلامها بعض اتزانه .. لكنه حين تذكر اخاها قال بحنق "لقد رماني اخوكِ خارج البيت ثم رماني رجاله خارج الغرفة في المستشفى .. اخوكِ رجل وقح" .. هتفت "اياك وان تتحدث عن جو بتلك الطريقة .. انه يفعل ذلك كرمى لعيون زوجته".. سأل بدهشة "وما لزوجته وما لنور؟" ... وضحت "انها عراقية مثل نور .. انجل لها قلب رقيق وقد مرت بالكثير .. جو لن يجازف بكسر خاطرها .. انه من النوع الذي قد يقود انقلابا سياسياً لأجل من يحب .. ثم انه شهم جداً.. لم يكن ليسمح لك بأذية زانباك مهما كانت اسبابك ومهما كان ما فعلته لك .. انها طبيعته" .. حسد جوزيف ميلر على الخطبة العصماء التي تفضلت اخته القزمة بالقائها على مسامعه متغنية بميزاته .. هل تدافع عنه خواته بهذا الشكل امام الاخرين .. يكاد يقسم انهن يشاركن في النميمة عليه بدل الدفاع عنه ..
-حسناً ايتها المحامية العظيمة عن جوزيف ميلر .. سأعيدك الى البيت
طمأنته قائلة " لن اقول لجو ما حصل"
قال مغتاظاً "لست خائفا من اخاك"
اخفضت رأسها وبدا كأنها تحدث نفسها "لكنه سيخاف جدا علي"..
-تين
رفعت رأسها اليه "نعم؟"
-من هو مايسون؟
الشحوب الذي اعتلى وجهها جعله يندم لما قاله .. اتسعت عيناها بذعر ورفعت يدها الى رقبتها تتحسسها كأنها تتأكد ان لا شئ يلتف حولها .. تراجع فوراً قائلاً "حسناً حسناً .. ليس عليكِ ان تخبريني انا اسف"
بلعت ريقها وهي تهمس "انه الرجل الذي اوهمني بالحب ثم خطفني لينتقم من اخي وزوجته"!
**
نهضت سماء من فراشها بمزاج سوداوي .. النوم سلطانها العزيز وليس من السهل على أحد ان يسرقه من بين اجفانها... حتى في الليلة التي خطب بها وليد عروسه البلهاء ، نامت بشكل جيد .. لقد تعلمت منذ زمن ان عليها ان تنام كأنها لا تحمل هماً .. فالنوم وحده ما يمنع عقلها من التفكير .. لذا فهي تهرب بالنوم من كل ما يزعجها .. وحتى البارحة كان مفعول هذه الوصفة السحرية سارياً عليها .. تباً لك الياس .. شتمت بانزعاج وهي تتذكر الفلاح الفظ الضخم كالعمالقة .. هفففف يا ربي .. لقد كانت تسخر منه فكيف انقلب السحر على الساحر .. واسترجعت ما حصل حين كانت تلتفت مغتاظة من ضحكته العميقة الساخرة ليجيئها صوته خارقاً طبلة اذنها متجاوزاً غمامات البلاهة التي احاطت بها عقلها لتتخطى هذا اليوم العصيب "لماذا لا نتزوج؟" ... التفتت اليه بحدة .. خفق قلبها بشدة خنقت انفاسها .. انتظرت ان ترى السخرية على وجهه لكن ملامحه كانت تنضح بالجدية واقفاً على بعد خطوتين منها .. عملاقاً يسد عين الشمس .. رائعاً رغم كل اعتراضاتها ... مميزاً بملابسه الغير رسمية .. بسماره الحالك وسط الوجوه البيضاء الشاحبة .. بشعره الأسود اللامع كجناحي غراب .. بعينيه البنيتين .. بفمه العريض المغوي .. بالعضلات التي تغطي ذراعه وتكاد تمزق قماش قميصه .. وللحظة اصابها الجنون المطلق وهي تنصاع لخيالها يصور لها الياس ببذلة عرس وهي الى جانبه بفستان ابيض .. بدا المشهد لعينيها أخاذاً !! ... قالت بوقاحة "ولماذا اتزوج فلاحاً همجياً مثلك؟" ... تقدم خطوة منها .. فلم تتراجع كأنها منومة مغناطيسياً بعينيه القهوائيتين .. اطل فوقها .. مثل صقر يطل من اعلى قمته الى ارنب مذعور يعرف ان صياده يراقبه .. قال بهدوء "لأن هذا الفلاح الهمجي يحبك" .. شهقت غير قادرة على الاستيعاب .. جسدها ارتعش حين خرجت كلمة الحب من بين شفتيه بهذه الطريقة الهامسة .. مغوية وخاطفة للقلب .. رمشت تنظر اليه بغباء "م.. ماذا؟" ... عندها فقط انفجر الياس ضاحكاً .. لينضح الهزل من ملامحه الرجولية .. بينما تورد خداها بحنق .. لقد فكرت للحظة انه صادق .. وليست هذه المصيبة، المصيبة انها ارتعشت بشعور يشبه الاثارة لما قاله .. هتفت بغيط تضرب بقبضتها صدره فترتطم بالفولاذ العضلي تحت قميصه "ايها الوغد.. الهمجي الفظ" ابعد صدره عن مرمى قبضتها وهو يقول ضاحكاً بإستمتاع "تؤ تؤ تؤ .. لا يجب اللمس .. سوف تصابين بالعدوى ..." ... ثم اعاد رأسه الى الوراء بطريقته المعهودة مقهقهاً "يا الهي سمسمتي .. بدوتي كالبلهاء .. هل ظننتي انني قد اورط نفسي لا سامح الله بممثلة مثلك" .. لم تعرف لم جرحها رأيه بها الى هذه الدرجة .. ولا لماذا شعرت بالخيبة من تصريحه الوقح .. رغم انها لم تفكر أبداً به قبل اليوم كـ .. كحبيب او زوج .. كان دائما الياس الفلاح الفظ .. اذن لماذا هذا التوجع الذي لا مبرر له .. توقف عن الضحك فجأة .. ونظر اليها عابساً بشكل لا يناسب انفجاره الساخر .. استجمعت قوتها وقدرتها التمثيلية .. رفعت حاجبها وهي تقول بحلاوة مصطنعة "اوه إيلي .. أظنك تدفع كل بقراتك العزيزات ومزارعك واحصنتك لتنال شرف قبولي بك زوجاً .. ولن افعل !".. ارتفعت احدى زوايا فمه بإبتسامة ساخرة "ولم قد ابيع بقراتي "العزيزات" اللاتي ينفعنني بالحليب والاجبان واللبن لأجل "عزيزة" ككلب الزينة .. لا نفع لها" .. اتسعت عيناها بشر مطلق وهو يرمي اهاناته في وجهها يرد لها الصاع عشراً .. تكورت قبضتها وقالت بغيظ "ايها الوقح" .. رفع كتفيه "فلاح" ! .. نظرت اليه من الاسفل الى الاعلى بطريقة تقييمية ارادت بها اهانته فجابهتها في اخر مشوارها التقيمي عينان تموجان بسخرية الى جانب شي لم تفهم ما هو .. لكنه بالتأكيد لم يتأثر .. حيث لوى شفتيه بحركة قرف .. هل يتقزز منها؟ تباً له .. تباً .. تباً .. تباً ... وضع يده في حلكة شعره وهو يقول "عن اذنك يا ملكة الدراما .. فبقراتي العزيزات بإنتظاري" .. واحنى رأسه بطريقة مسرحية .. وادار لها ظهره ومشى مبتعداً بثقة لم تهزها قدر انملة اهاناتها الطفولية .. تاركاً اياها تحترق بغيظها ..
استفاقت سماء من ذكريات الأمس ودمها يغلي كأن هناك من اشعل النار في شرايينها .. غيظها من الياس انساها حزنها لزواج وليد .. انها حتى لم تفكر بوليد لثانية ليلة امس وهي تتقلب على فراشها كقطة تتقلب على صفيح ساخن .. كل ما في بالها كان الياس .. وكيف تنتقم منه لسخريته منها .. نظرت الى نفسها في المرآة .. انها جميلة وهي تعرف هذا لكنها ليست من طراز الياس بالتأكيد .. فهو يفضل النساء الخارجات لتوهن اما من غلاف مجلة او من عرض ازياء .. تأففت وهي تستغرب حال نفسها .. لماذا هذا الاهتمام المفاجئ برأي الياس الفظ الجلف .. هما لا يتفقان ابداً وهذه قاعدة عامة تعلمتها منذ صغرها .. فلماذا اوجعها في الصميم ان يسخر منها وان يخبرها بصراحة بأنه هو الرجل الذي لا يملك مكانة اجتماعية مرموقة ولا ثرائاً فاحشاً .. وليس من طبقتها بكل المقاييس لا يريدها زوجة له .. لقد نعتها بكلب زينة .. يا الهي !! .. لماذا أوجعتها كلماته التي تنضح بالرفض لها وكأنها شئ لا يستحق حتى ان يؤخذ بعين الاعتبار .. لقد قدم لها عرض زواج فقط ليسخر منها ... انخفض كتفاها بإحباط ونظرة حزن كسيرة اعتلت انعكاس وجهها في المرآة وهي تجرد روحها من كل التمثيل الذي يخفي حقيقتها .. شعور موجع ينتابها بأن لا احد يحبها .. لا احد يريدها وانها مرفوضة من الجميع حتى من الاثنين اللذين قضت معهما طفولتها .. لا احد يرى فيها ما يكفي ليغرم بها .. الجميع يراها على انها ملكة الدراما التي تفتعل المشاكل وتمثل اينما ذهبت .. لا احد يفهم انها تفعل هذا لتخفي وجعها .. لتخفي ضعفها .. لتخفي تلك الطفلة الصغيرة التي تركها ابوها لأنه سأم من حياة العائلة .. يا الله كم كانت تحب والدها .. كانت فتاة مطيعة له .. تنظر اليه بعين الانبهار كأنه بطل اسطوري بهيئته الطويلة والرزينة .. بصوته العميق وهو يقرأ لها احياناً قصة قبل النوم.. يا الهي لقد كانت تعشقه .. وكان هو مثلها الاعلى .. بطلها .. اسطورتها .. ثم انقشعت الغمامة .. وظهر البطل على حقيقته .. رجل يريد متعته .. لا يحب الالتزام .. وهرب حتى دون وداع .. ليترك لها رسالة اعتذار لا معنى لها .. هل من كلمات يمكنها ان تداوي الشرخ الذي حصل في روحها .. هل من كلمات يمكنها ان تربت على كتف احزانها .. هل من كلمات تعيد اليها والدها الاسطورة !... اغرورقت عيناها بالدموع .. لا احد يعرف كم جرحها هروب والدها وكم غيرها .. لقد شعرت فجأة بأنها غير مهمة .. وانها ليست في حسابات احد .. حتى والدها .. فباتت تصطنع المواقف لتجذب الانتباه .. لتستجلب اهتمامهم .. ليبقي الجميع اعينهم عليها .. كانت ترفض ان تكون لا مرئية .. كما كانت يوماً لوالدها .. فجعلت من نفسها شخصاً يصعب عدم رؤيته .. ويصعب تجاهله .. الجميع يحسب لها الف حساب .. فلا احد يريد ان يقع فريسة لتمثيلها ودراميتها .. ومنذ ذلك الوقت وهي محط اهتمام الجميع .. لكنها مؤخراً بعد خطوبة وليد .. بدأت تشعر بذات الشعور الذي شعرته يوم رحل والدها .. تشعر بأنها منبوذة .. وغير مهمة .. ويتيمة ! .. لكن هذا الشعور لا يقارن بالشعور المفجع الذي اشعرها به الياس .. لم يكن نبذا او عدم اهتمام .. كان ضربةً مؤلمة في صميم انوثتها التي لطالما شعرت بالنقص امام الانوثة الكاملة لمرافقاته .. لا لم يكن نبذا او نقص انوثة فقط بل كان احساس بالوضاعة كأنها لا ترتفع لشأنه وكأنها اقل من ان يهتم بها وان يفكر جدياً بها .. وعليها اللعنة ان لم تجعله يغير رأيه ويخر راكعاً عند قدميها .. عندها ستنتقم منه لكل الحسابات القديمة والجديدة .. ارتفع كتفاها بتصميم .. وتصلبت ملامحها .. وظهرت نظرة مشتعلة في عينيها وتوهج شعرها كأنه يشترك معها في الجريمة العشقية التي تنتوي ارتكابها!
**
احتسى رشفة اخرى من قهوته الجاهزة الموضوعة في كوب ورقي .. وهو ينظر الى المدينة من الاعلى .. بينما صوت الطائرة الهليكوبتر ازعجه على غير العادة .. ملامحه عابسة وعيناه تجولان في الاسفل كأنه يبحث عنها .. تلك المجنونة صاحبة رأس الجزرة بشعرها الاشقر المحمر المتوهج .. زفر بحنق .. سماء .. سماء .. سماء .. ما الذي تفعله به هذه المرأة .. انها تقلب حاله رأساً على عقب .. تذهب بعقله كلما رآها ليشهق داخلياً من شدة حلاوتها التي تزداد مع مرور كل يوم .. كيف حصل واحبها قلبه الأحمق وهو يراها منذ الطفولة معلقة بأذيال ابن خالته .. سما التي عرفها طفلة مشاكسة والتي منذ اللحظة الاولى قررت وضعه في قائمتها السوداء للأشخاص غير المفضلين .. بينما هو كان قد وضعها في قائمة الأشخاص المهمين في حياته ، هكذا دون تفسير .. ودون ان يبين لها ذلك .. كان يراقبها من بعيد .. يحميها من بعيد .. يتعلق بها من بعيد بينما يقابلها بتأثير عكسي لمشاعره فيناكفها ويسخر منها .. وكبرت الطفلة عاماً بعد عام .. حتى جاء ذات صيف وكانت قد بلغت اربعة عشر .. لتضرب قلبه فجأة .. في ظرف سنة .. تحولت ملامحها الطفولية الى ملامح انوثة مبكرة تشع من وجهها .. وقد بدأ يتشكل جسدها بتضاريس الصبا .. وكم بدت يومها صادمة لعينيه اللتين تعلقتا بها كانها لوحة مرسومة بدقة .. وخفق قلبه بعنف .. وما عاد الاهتمام والتعلق ما يشده الى الطفلة الصبية .. بل نمى شئ ما .. شئ لم يحسب له حساب .. شئ حاربه وهو يحضر صديقة بعد اخرى مستمتعاً بردات فعل سماء المجنونة وهي تطردهن واحدة تلو الاخرى بخططها الشريرة .. فارق عشر سنوات من العمر والخبرة .. لم يبدو مهماً ولا منطقياً ولا مرئياً لقلبه ,, عاد من اجازة الصيف في تلك السنة وقلبه محمل ببراعم صغيرة لكنها عطرة وعابقة .. براعم لزهور غرستها يدان ناعمتان لصبية لها شعر تغار منه اجمل النساء وزرقة عين تمزج دمها العربي الفائر بالملامح الأوربية الباردة التي ورثتها عن جدتها لوالدتها .. كانت مزيجاً من الثلج والنار .. من السكر والملح .. من الانوثة والطفولة .. كانت سماء .. وكان هو .. رجلاً يحب السماء ومزاجاتها .. افرغ محتويات الكوب الورقي في جوفه دفعة واحدة فلسعته حرارة القهوة المرة .. ولم يبالي .. كانت ذكريات الأمس تنهال عليه .. لن ينسى ابداً نظرتها حين عرض عليها الزواج .. لقد قال اخيراً ما تمنى لسنوات ان يقوله لكنه لم يتجرأ لأنه يعرف رأيها به .. كانت عيناها متسعتان مثل بحيرتين عميقتي الزرقة .. تغرقان في دهشة بعيدة عن الاحتقار المعتاد الذي يسبغ دوماً استفزازاتها له .. لقد كان جاداً .. للحظة اراد ان يقول ما يشعره .. لقد قاله .. قاله بحق الله .. ولكنه تراجع بجبن .. تراجع كي لا يعطيها فرصة قول لا فتحطم قلبه .. تراجع كي لا يقتله الالم حين تسخر منها مكررة رأيها فيه للمرة المليون .. ومنح لنفسه اولوية السخرية منها .. وحين فعل تمنى ان تنشق الارض وتبتلعه .. نظرة مجروحة اطلت من عمق حدقتيها الداكنتين .. كأنه اوجعها ! .. ترى ماذا كانت ستفعل لو انه ضمها بين ذراعيه لحظتها مقسماً لها انه عنى كل كلمة .. وانه يريدها بجنون لا يخفى على احد سواها !... الحمقاء الرائعة الجمال .. التي ضربته في مقتل حين خطبت لابن خالته .. وصفعته بشدة حين علم ما فعلت لتسترده .. هل تحبه الى هذه الدرجة ؟ .. تباً لها .. تباً .. ماذا يفعل ليحصل عليها .. ماذا يفعل ليقتلع قلبها ويغرسه في صدره .. ماذا يفعل ؟ ... اعتصر الكوب الورقي في يده بغضب وهو يتمتم "اللعنة" ... وفي تلك اللحظة بالذات .. رن هاتفته .. وكاد ان يقفز قلبه من اضلعه حين اطل اسم سماء على الشاشة المضيئة .. اخذ نفساً عميقاً واجاب على اتصالها قائلاً "لا تقولي انكِ اشتقتي لي بهذه السرعة!" صمت تخللته انفاس سماء المرتفعة .. همست بتقطع جعل قلبه يتوقف خوفاً "الـ .. الياس .. ار.. ارجوك .. تعال الان.. انا .. انا اختـ.. اختنق" ... هتف بقلق "سماء ما الامر بحق الله .. ما بك ؟ اين والدتك اين الجميع ما بك؟"
عادت تهمس بلهاث مزقه قلقاً "سـ .. سافرت .. للمنتجع .. انا لـ .. لوحدي.. انا اختنق.. أرجوك.. تعال" .. صاح بها "سماء ان كانت هذه لعبة من الاعيبك سأقتلكِ" .. لكن صوتها المتكسر جعله يدرك سخافة ظنونه وهي ترد "لا .. انا .. انا .. تعال الياس .. لا احد لي سواك .. لم يتبق احد"... وادرك انها تعني وليد بعبارتها الاخيرة .. سكين اخترقت صدره لكنه لم يبالي .. لقد تعود الامر .. صاح بقلق "سأتصل بالاسعاف .. أنا قادم سماء .. تماسكي صغيرتي"..
اعترضت بضعف "لا اريد اسـ.. اسعاف.. انا أخـ.. اخاف وحدي.. تعال .. الـ.. الياس"
هتف "قادم .. قادم" .. واغلق الخط وهو يصرخ بمساعده .. استدر عائداً حالاً ..
نظر رامي الى رئيسه بعدم فهم لكنه هز رأسه وهو ينفذ الأمر من فوره .. فرئيسه يبدو في حالة جحيمية بعد الاتصال المقلق الذي تلقاه .. بينما كان صدر الياس يلهث بقلق وتوتر وهو ينظر الى ساعته .. تجاهل طلب سماء واتصل بالاسعاف .. لن يخاطر بصحتها لخوفها .. وبعد ان انتهى صاح "اسرع رامي اسرع".. بينما تمتم رامي داخله "وهل هناك اسرع من الطيران!"...
**
دار صخر في انحاء مكتبه بعصبية .. يجر قدمه اليسرى بصعوبة .. لقد اخذها جوزيف ميلر وزوجته .. كان يعرف انهما سيفعلان وكان يظن انه من الافضل لها ان تذهب معهما لتتقي شر وليد .. اما شره هو .. فلو كانت في قمقم في ابعد مغارة في هذا الكوكب فسيطالها ولا شك .. كان في سيارته يراقب المشفى بعد ان خرج تاركاً الغرفة للرجل الثلجي العينين وزوجته الحمائية .. بعد فترة لم تتعدى الساعة .. خرجت زنبق تجلس على كرسي متحرك .. يدفعها جوزيف ميلر ترافقه زوجته .. ساقها اليسرى المستقرة في الجبيرة كانت علامة صارخة من هذه المسافة عن مدى الوحشية التي تعرضت لها.. يبدو ان نسمة هواء قد هبت خارج السيارة اذ تطاير شعرها حول وجهها بلقطة سينمائية ساحرة .. فرفعت يداً يحفظ نعومتها كما يحفظ اسمه لتزيح عن وجهها تلك الخصلات البنية الناعمة .. لقد احب شعرها طويلاً مثل آهة عاشق والذي كان يلامس نهاية ظهرها .. ومع هذا فشعرها الان والذي لا يكاد يصل لخصرها لم يقلل شيئاً من فتنتها الهشة .. من ترددها الضعيف كأنها قطعة بلور سريعة التكسر .. يا الله .. كيف يمكنها ان تكون على هذا القدر من الضئالة وتحمل قلباً بهذا التجبر وروحاً بتلك القذارة .. نهضت بمساعدة انجل وجوزيف اللذان اسنداها حتى السيارة الفخمة كصاحبها .. صعدت اليها واختفت تماماً عن ناظريه .. غلى صدره كمرجل .. طافت في رأسه ذكريات المرة الأولى التي وقع نظره عليها .. كانت تعطيه ظهرها .. بينما يمتد شعرها كغابة كستنائية يغطي ظهرها .. مرتدية فستاناً اصفر يرتفع فوق ركبتها.. كانت ترتب احدى الطاولات في الحديقة الخلفية للمطعم بعد ان انتهى زبون من تناول فطوره وهي تدندن بأغنية عربية "قلبي يحدثني بانك متلفي.. روحي فداك عرفتَ ام لم تعرفِ" .. انبهر بالصوت الرقيق المنخفض بتردد أخاذ .. خمن بالتأكيد انها عربية فلهجتها سليمة تماماً .. ووجد نفسه يكمل بصوت واضح بسياق شعر لا غناء "لم اقضِ حق هواك ان كنت الذي،، لم أقضِ فيه اسى .. ومثلي من يفي" .. كانت قد استدارت اليه متفاجئة .. طالعه اجمل وجه رآه على كثرة ما رأى .. جمال برئ مثل جمال طفل .. بملامح انثوية قاتلة .. ناعمة ومنمنة .. صدح قلبه بقوة .. بينما اتسعت عيناها لتظهر خضرتهما الداكنه .. وهمست " ما اجمل القائك".. قالتها بتقطع .. كانت تأخذ نفساً بين كلمة واخرى كأن الحديث المتواصل يتعب رئتيها الصغيرتين .. حتى حركاتها مترددة استدارتها فقط كانت سريعة بفعل المفاجئة اما كيف تركت الاطباق التي تحملها تستقر فوق المنضدة وكيف رفعت وجهها اليه وكيف مدت يدها الى الامام تشير نحوه بدهشة .. كلها كانت تحصل ببطئ .. بطئ جعله يركز في كل لمحة من افعالها لتنطبع في داخله فوراً .. زنبق كانت امرأة مختلفة .. كانت أمرأته !
**
في اليوم التالي بينما كان ماتيو منكباً على قراءة بعض الاوراق المتعلقة بالصفقة الجديدة التي تدخلها المجموعة .. دخلت عليه سكرتيرته وهي تقول بتوتر : سيد ماتيو هناك فتاة تشبه المشردين تصر بشكل لا يحتمل على رؤيتك رغم انني اخبرتها باستحالة مقابلتك دون موعد.. تقول انك مدين لها بثمن كيكة ! ..
ارجع ماتيو رأسه الى الخلف وانفجر ضاحكاً .. تلك المجنونة التي اصطدم بها البارحة فعلتها حقاً وجاءت تطلب ثمن كيكتها متجاهلة حقيقة انها افسدت بدلة تساوي ثمن محل الحلويات الذي تعمل فيه على الاغلب .. حين هدأت عاصفة ضحكه .. ابتسم ابتسامته العبثية المعهودة "دعيها تدخل" .. ورغم الدهشة التي ظهرت على وجه سكرتيرته الا انها اومأت برأسها وخرجت .. في تلك الاثناء عادت احداث البارحة الى ذاكرة ماتيو .. بينما كان يمشي بسلام ليشتري علبة ماء بعد ان نال منه العطش ولم يستطع الصبر حتى يصل الى مكان الحفل .. تاركاً حبيبته الجديدة تنتظره في السيارة .. اصطدم به اعصار محمل بالكريمة .. اتلف سترته مما جعله يثور غاضبا وهو يشتم بكل ما تعلمه من الكلمات السيئة .. ثم انتهى بها الامر لتهجم عليه تلك القطة الشرسة .. عندها فقط استوعب جمال وجهها .. البياض الوردي لبشرتها .. النمش المنتشر كمجموعة نجوم على خديها وانفها الدقيق .. عيناها زرقاوان بزرقة بحر يطل على جزيرة استوائية .. زرقة صافية ولذيذة رغم الغضب المطل منهما .. شفتان ممتلئتان خاليتان من اي لون صناعي .. وشعر غامق .. جمال صافِ ومتوحش بفعل الغضب .. اذهله منظرها .. واتسعت عيناه بشكل لا ارادي تستوعب نضارة الجمال الذي تحمله ملامحها التي تدل على صغر سنها .. حين مشى مبتعداً تمنى ان تكون بالشجاعة التي ادعتها وتأتي الى مكتبه .. رغم انه لا ينوي بها سوءاً فهي تبدو اصغر بكثير من ان تناسب ذوقه ومواصفات شريكة المتعة التي يختارها بعناية حتى لا تلتصق به كالعلقة .. لكنه اراد فعلا رؤيتها ثانية .. حين اتجه الى محل الالبسة الرجالية ليشتري بذلة جديدة وقف امام المرآة اولا لتطالعه صورته ملطخاً بالكريما التي جفت على سواد سترته .. على كتفيه انطبعت الكريما ببصمة اصابعها عندما كانت تستند الى كتفه محاولة النهوض .. ابتسم متذكراً وجهها وحين طلبت منه رفيقته روني ان يرسل السترة الى محل الغسيل الجاف لعلهم ينقذون البذلة الفخمة، رفض .. ولم يعرف لماذا حين عاد الى البيت حمل السترة الملطخة بالبصمات الكريمية ادخلها في الغلاف الحافظ للسترة وعلقها في خزانته ..
انقطعت سلسلة افكاره حين دخلت الفتاة المتوحشة العصبية الى مكتبه وهي تقول دون مقدمات "لقد طردت من عملي بسببك .. اريد ثمن الكيكة الان "
نظر اليها بتسلية .. كانت تبدو بحالة مريعة .. ترتدي قميصاَ اصفر يبدو ان عمره يتجاوز عمرها هي شخصياً مغلق الازرار حتى العنق .. تعتليه سترة مقلمة زرقاء لا تقل عنه قدما ً بينما ترفع اكمام السترة لتطل من تحتها اكمام القميص البشع الغير مزررة .. ولتكتمل الصورة ارتدت بنطلوناً عريضاً كبنطلون بجامة .. مع حذاء رياضي مهترء .. بينما كان شعرها مسحوباً الى الخلف بذيل حصان منخفض .. ككل بدت معدمة .. فاقدة لحس الاناقة .. صغيرة السن و ... رائعة الجمال ..
رفع حاجباً بطريقة ساخرة ووجه اليها احدى ابتساماته العبثية "صباح الخير لكِ ايضاً"
هاجمته "اسمع لا وقت للتحايا.. هات نقودي"
-تعجبني عمليتكِ .. هاتي نقودي اولاً ..
صاحت بغيظ - اي نقود ؟
-ثمن بذلتي الارماني
تقدمت نحوه بخطوات اجرامية بينما كان يجلس مسترخياً متلذذا بثورتها الحلوة .. هتفت "اللعنة عليك وعلى ارماني وابو ارماني وابنه وعمه .. لقد فقدت بسببك عملي .."
-لقد لعنتي عائلة ارماني كلها .. ونسيتي ام ارماني..
كاد ينفجر ضاحكاً حين راقب وجهها يشتعل بحمرة الغضب .. كم بدت نضرة وجميلة .. اغمضت عينيها تحت انظاره اخذت نفساً عميقاً وخمن انها تعد للعشرة .. ثم بدا وكأنها انتهت ففتحت عينيها وقالت بهدوء وتعالي "اسمع يا انت .. لقد فقدت عملي .. واذا لم تمنحني ثمن الكيكة فلن اجد ما اكله على الغداء .. لذا (بسطت كفها) هات ثمن الكيكة"
اختفى المرح من وجهه وروحه على حد سواء .. لقد كانت تتحدث بطريقة متعالية مغرورة كأنها تخبره عن املاكها لا عن فقرها المدقع .. هل حقاً ستتضور جوعاً اذا لم يمنحها ثمن الكيكة؟ هل هي فقيرة الى هذا الحد؟ شعور مزعج بعدم الراحة داهمه.. كأن احدهم وخز شمال صدره .. ودون شعور مد يده الى محفظته واخرج منها مبلغاً اكثر بكثير من ثمن الكيكة وقدمه اليها .. اخذته وهي تنظر اليه كما تنظر ملكة الى رعيتها .. ثم قطبت واستلت ورقة نقدية واحدة من مجموع الاوراق التي اعطاها اياها .. ثم وبحركة وقحة .. رمت الباقي فوق سطح مكتبه وهي تقول "لست اشحد منك .. جئت اخذ ثمن جهدي الذي اضعته (لوحت بالورقة النقدية) وهذا ثمنه" .. ثم استدارت عنه وخرجت تحت انظاره الذاهلة !
بعدها بشهرين كان يمر بسيارته من طريق فرعي متجنباً ازدحام الطرق الرئيسية واذا به يلمح من بعيد .. شكلاً يعرفه تماماً .. فقد داهمت صاحبته تفكيره بإصرار طيلة الستين يوم الماضية .. كانت تلك الفتاة التي لا يعرف لها اسم ترتدي ملابس عمال البناء تنحني لتحمل الطوب وتسلمه الى عامل اخر ثم رفعت كفها بحركة متعبة تمسح جبينها .. ودون شعور وجد نفسه يوقف سيارته ويترجل منها ويخطو نحوها ... على بعد امتار منها صدح صوته عالياً "مالذي تفعلينه بالضبط؟"
**
حصل الطلاق رسمياً .. فكرت زنبق بدهشة .. حصل دون اي عراقيل .. بهدوء تام وسلاسة .. ارسل وليد الاوراق مع محاميه وقعتها وانتهى الامر .. لم تعرف ماذا قال لعائلته .. واي سبب وعذر برر به الانفصال السريع .. لكنها شعرت بالاسف عليه .. لقد حملته اكثر من طاقته .. لقد استغلته لتداوي جراحها .. لقد ظنت انها تستحق فرصة اخرى للعيش بسعادة ..ولكم كانت مخطئة ... السعادة قد تكون باهظة الثمن .. او حتى مستحيلة الثمن .. كانت تعرج ببطئ .. لم تتماثل ساقها بالشفاء بعد .. ساق كانت ثمن احلامها .. ساق كسرها وليد لحظة جنون وغضب حين تحول الرجل الرائع فيه الى همجي لا يمنح حتى فرصة للدفاع .. لكنه لم يكن الاول الذي لم يمنحها فرصة لتفتح فمها .. لقد سبقه صخر .. اغمضت عينيها .. صخر .. همست بأحرفه ببطئ .. هل ستكون امرأة مازوشية تهوى تعذيب نفسها اذا اعترفت انها اشتاقت اليه؟! ... كيف يمكن للانسان ان يشتاق لهذا الكم من السواد الحاقد الغاضب .. هي تفعل .. انه اكبر خساراتها .. افدحها .. اوجعها .. انه لعنتها .. وحدث ان احبته يوماً .. كان صخر .. كان رجلها!
صوت انجل انقذها من ذكرياتها .. "زنبق .. تجهزي حبيبتي لديكِ موعد مع الطبيب بعد ساعة ونصف".. ابتسمت لها وهي تقول "حاضر" .. واتجهت ببطئ نحو الداخل .. اول انطباع لها عن البيت الفخم حين دخلته بأنه بارد بشكل مزعج.. لكنها اكتشفت فيما بعد كمية الدفئ المتدفقة من كل اركانه .. من انجل التي ترعاها كأخت كبيرة دون الكثير من الأسئلة كأنها تمنحها وقتاً لتتعافى .. من يوسف الذي كان كالدرع الواقي لها وهو يبثها المساندة بهدوء .. من تينا العاصفة الذهبية التي تقلب الجو مرحاً مثقلاً بالدلال .. من كايل المتحفظ الطيب القلب .. من ماتيو الماكر بمزاح خفيف الظل.. من العم جوبيتر الصارم المظهر الدافئ الروح .. من مايا وادم المليئان بطاقات المرح والضحك والمشاحنات البريئة .. وحتى بازونة كما يناديها يوسف .. التي تعيث في البيت فساداً لذيذاً .. لشهرين كانت عائلة انجل تحتضنها بحب وترحاب يشعرها دوماً برغبة في البكاء .. لم تعرف يوماً حناناً كهذا الحنان .. ولا الفة لا مصلحة فيها كتلك الالفة .. كان الجميع يحترم خصوصيتها .. الجميع يحبها .. الجميع يهتم بها .. مما يجعلها تخاف بشدة من اللحظة التي ستغادر فيها هذا البيت والتي قررت ان تكون الاسبوع القادم .. لقد حصل الطلاق .. ووليد لم يتعرض لها ابداً لا من قريب ولا من بعيد .. أما صخر فلم تر منه شيئاً او تسمع عنه منذ زيارته في المشفى .. عليها ان تعود الى شقتها في مرحلة ما .. عليها ان تفعل ذلك .. من الجبن ان تختبئ اكثر .. لقد تعلمت ان تكمل طريقها مهما حدث .. وقد فعلت في مواقف اصعب .. وستفعل من جديد.. تنهدت .. وانسابت ذكريات مؤلمة الى عقلها همست مغمضة عينيها "ابيض ، ابيض ، ابيض" .. انهال عليها المجال الفارغ كمعجزة .. يلون تفكيرها بالعدم .. لا شئ في البياض سوى البياض .. لا اوجاع لا ماضي لا ذنوب .. ابيض الوجع .. ابيض الماضي .. ابيض الذنب .. هكذا عليها ان تكون .. هكذا يجب ان تكون !
بعد ثلاثة ايام دخلت زنبق شقتها .. تسير ببطئ تتبعها حقيبتها الصغيرة وانجل التي كانت ما تزال غير راضية عن قرار عودتها لكنها انصاعت لامر زوجها بتركها تتصرف كما يحلو لها.. دون التوقف عن مساندتها .. قدرت تفهم يوسف لها .. هي تحتاج ان تعود الى شقتها لتعتاد حياتها .. لتسترجع حياتها .. لتمسح كل ما حدث بالبياض .. وتعود فتنقي نفسها من الغضب والشعور بالظلم الذي وسوست لها نفسها بهما .. بعد ساعة كانت انجل تغادر مستأذنة لتذهب الى الشركة .. قبل ان تخرج عانقتها وهي تقول "زنبق .. انا هنا دائماً" .. شددت زنبق من عناقها لأنجل "شكرا انجل".. حطت يد انجل على خد زنبق وابتسمت رغم القلق البادي على وجهها .. ثم انسحبت خارجة .. بعد عشر دقائق سمعت طرقاً على الباب .. ابتسمت .. اه من انجل لم يطاوعها قلبها على تركها كما يبدو .. حين فتحت الباب اختفت ابتسامتها وهي تطالع مئة واربع وثمانون سنتمتراً من الكمال الحاقد .. وعينان صقريتان بلون المحيطات العميقة تنظران اليها بتسلية .. تزحلق اسمه من بين شفتيها "صخر".. رفع حاجبه وهو يمد يده يدفعها الى الخلف عابراً العتبة مغلقا الباب خلفه "اهلا بعودتكِ زنبقتي!" .. ثم راقبته بهلع وهو يخرج من كيس كارتوني اسود يحمله بيده قنينة نبيذ احمر وكأسين زجاجين .. وضعهما على الطاولة .. تلفت حوله قائلاً بسخريه "كل شئ أبيض ؟!! .. يناسب الشرف الذي يقطر منكِ حلوتي".. همست باختناق "ماذا تريد؟" .. ارتفع فمه بابتسامة صفراء ساخرة ومد يده الى داخل الكيس يستل منه ثوب نوم قصير بشكل مخزي وشفاف بشكل فاضح لا يترك مجالاً للتخيل بلون احمر صارخ وضعه على الطاولة بجانب القنينة والكأسين وهو يقول مستمتعاً بذعرها "استثمر ديوني المتراكمة عليكِ" .. واخذ يتقدم نحوها ببطئ بينما كانت تتراجع بذعر حتى تعثرت بالاريكة وقف يطل عليها من عليائه .. عيناه تختصران تاريخهما الملطخ .. جسده يستقيم في غضب اسود مشدود الى اوتار الحقد .. وبدا وكأنه آريز .. اله الحرب الوحشي.. وبدت هي .. أضحية تقدم قرباناً له .. انحنى نحوها فصرخت بذعر تحاول التراجع فأختل توازنها وسقطت على الاريكة .. قصف صوته ضاحكاً بتسلية خبيثة "لقد سهلتي عليَ المهمة" ثم القى بجسده فوقها ! ...قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
رقصة سما(الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملة
Romansaرواية بقلم المبدعة بلقيس علي(مشتاقة) الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي