الرقصة العاشرة:
رقصة الفالس*
*رقصة الأعراس
أينما ذهبت، لا تذهب بدوني – مولانا جلال الدين الرومي
الوطن، كلمة بخمسة أحرف.. هذا ما كان يفصلها يوماً عن جوزيف ميلر، وهذا ما عاد يفصلها عنه.. كانت هناك حرقة في عينيها تهدد بدموعٍ جديدة،، ألم تبكي ما يكفي في الرحلة التي بدت وكأنها استغرقت عمراً من امريكا الى العراق؟... وهي في التكسي مرت فور خروجها من المطار بساحة "عباس بن فرناس" .. يتوسطها تمثال رجل بجناحين وهو عباس الذي حلم بالطيران فصنع أجنحة وقفز من كان عالٍ فتهشم.. كانت تلك اول محاولات الإنسان للتحليق.. الا تشبهه؟ لقد حلمت بالحب في زمن الحرب وظنت انها حققته مع جوزيف.. ثم جاءت لحظة الحقيقة فهوت وتهشمت لقاء حلمها بالضبط مثل عباس بن فرناس.. لم تعد تذكر كيف انتهت حفلة عرس كايل.. لقد انفصلت بعد مشاهدة ذلك الفيديو عن العالم كله.. لقد رأت يوسف.. يوسفها هي.. يطلق الرصاص على مدني عراقي.. اغمضت عينيها بوجع.. لقد حلف لها مراراً وتكراراً أنه لم يؤذي عراقياً.. وعلى هذا الأساس تزوجته.. وبعد أن عرفته جيداً تأكدت أنه ليس بالشخص الذي يفعل ذلك.. إذن ما كان هذا الفيديو اللعين؟ ارادت بشدة ان تسأله.. لكنها خافت كثيراً من إجابته.. خافت أن يكذب عليها حتى لا يخسرها.. خافت ان يكذب حتى لا تتركه.. خافت ان تشك هي في ما يقوله.. لذا كانت بحاجة لأن تعود الى العراق.. وتسأل الرجل الوحيد الذي يعرفه كجندي والذي لن يكذب عليها إطلاقاً لأنها تتشارك معه ذات الدم.. عليها ان تعرف الحقيقة من "سامح" الذي كان يعمل كمترجم مع يوسف والذي أواهما يوم هربا.. وساعدهما في الزواج.. سامح وحده من يستطيع ان يقطع خيوط الإحتمال باليقين.. لم تكن لتستطيع العيش في شكها إن سألت جوزيف.. سيظل جزء منها يتسائل إن كان يوسف قد قال لها الحقيقة كاملة أم أنه أخفى شيئاً ما حتى لا يخسرها.. لقد سألته مراراً وتكراراً قبل زواجهما أن كان قد تورط في اعمال قتل او اعتداء ضد أبناء وطنها وكان يجيب دوماً بالنفي.. إذن ماهذا الذي رأته في الفيديو؟.. تخللت بيدها شعرها وهي تتنهد محاولة السيطرة على الدموع التي تقف على باب جفنيها..
لم تنتظر كثيراً.. بعد الحفلة بيوم حجزت طائرة دون ان تخبر أحداً.. لم تستطع ان تخبر يوسف الى أين هي مسافرة.. كان سيسأل عن سبب الزيارة المفاجئة.. وكان سيرافقها ولا بد.. وهي تحتاج ان تقوم بهذه الرحلة وحدها.. تحتاج ان تعرف الحقيقة.. تحتاج ان تفهم ما الذي يجري.. تحتاج ان يخبرها احد ان هناك تفسير منطقي لما رأته.. وان زواجها الرائع لم يُبنى على كذبة ملطخة بدماء أبرياء وطنها.. اجرت وهي في الطائرة بإنتظار موعد الإقلاع مكالمة الى هاتف المنزل تحدثت الى مايا وادم واخبرتهم انها ستغيب لبضع ايام لزيارة خالها.. بينما أرسلت رسالة الى يوسف.. لم تجرؤ على مكالمته صوتياً.. لم تستطع ان تسمع صوته .. كانت ستضعف.. وهي لا يجب ان تضعف.. كتبت رسالتها بأصابع مرتجفة "سأغيب لبضعة أيام، سأذهب لكندا لزيارة خالي..لا داعي للقلق".. كانت في وقت سابق قد اتصلت بخالها وشرحت له بأن عليها أن تعود الى العراق في زيارة مستعجلة دون الكثير من الاستفاضة.. وبعد ان ضغطت عليه برجائها الأقرب الى التوسل وافق ان يساعدها وأن يدعي بأنها عنده ان اتصل به يوسف.. وبالتأكيد سوف يفعل.. بعد ان ارسلت الرسالة اغلقت هاتفها نهائياً، تعرف ان يوسف لن يتركها وشأنها..
وها هي الآن في الوطن.. استندت بجبهتها الى الشباك.. تنظر الى الشوارع المغبرة.. والى الحواجز الكونكريتية التي ما زالت على حالها منذ ان تركتها.. لربما غيرت أماكنها قليلاً .. لتفتح شارعاً كان مغلقاً ولتغلق شارعاً كان مفتوحاً..
مرحباً أيها الوطن.. مرحباً بغبار شوارعك التي تتفرع من روحي.. مرحباً بأهلكَ الذي يتشاركون معي دمي.. مرحباً بسمائك الرمادية التي تحرق شمسها قلبي.. مرحباً بصوت المواويل التي يغنيها مطربوك في حنجرتي.. مرحباً بالمدارس التي يرفع فيها علمك المرفرف فوق سارية جسدي.. مرحباً بدجلة الذي يجري نصفه فوق ارضك ونصفه في اوردتي.. مرحباً بك ايها الوطن الذي يزرع "راء" الحرب في حكاية الحب التي اعيشها.. مرحباً ماريا، اختي وصديقتي وامي.. مرحباً مصطفى .. بطلي ورفيق أحلامي.. مرحباً ايتها الطيور.. مرحباً ايها الأطفال.. مرحباً ايها العابرون.. مرحباً ايها الظلم.. مرحباً أيها الموت.. مرحباً مرحباً يا عراق !...
بعد مسافة ساعة بسبب الأزدحامات الخانقة .. وصلت انجل اخيراً الى بيت الخالة عالية.. وقفت بحقيبة سفرها الصغيرة تتأمل البيت.. لم يتغير شئ.. ما زال كما هو .. تذكرت تلك الأيام الحلوة المرة التي عاشتها فيه.. التفتت نحو بيت مصطفى في اول الشارع وتذكرت مرورها به كل يوم في طريقها الى المدرسة.. تذكرت حوراء المتذمرة والتي صارت امرأة أخرى بعد أمير.. مصطفى المقاوم النبيل.. الذي احب الوطن ولكنه ظلمها جداً.. يااااه.. تبقى البيوت على حالها ويتغير اصحابها!..
تقدمت تطرق الباب.. بعد لحظات فتحت الخالة عالية الباب لتهتف "ملاك!... ملاك.. لا اصدق"...
طفرت الدموع من عينيها.. لقد اشتاقت لإسمها العراقي.. رباه .. احتضنت الخالة عالية بشوق كبير ..
كانت الخالة تبكي وهي تقول "حمداً لله على السلامة"
.. بعد ساعة.. كانت انجل تجلس امام مائدة الطعام.. تحدثهم عن اخبارها وتسألهم عن اخبارهم.. في تلك الاثناء علت ضجة عند المدخل.. لحظات واطلت حوراء .. وبيدها "علي" ذو الثالثة.. والذي يبدو شبيهاً بوالده أمير.. وبجانبها زوجها امير.. كانت حوراء على اتصال دائم معها عبر برامج التواصل الألكترونية.. وقد امتدت بينهما علاقة صداقة جيدة..
نهضت أنجل حين سمعت حوراء تهتف "ملاااااك.."
تعانقت الفتاتان .. جلست انجل على ركبتيها امام "علي" وعانقته ..
الطفل كان ودوداً جدا فقد رمى ذراعيه حول عنقها وعانقها وحين ابتعد قال "رائحتكِ طيبة" .. انفجر الجميع ضاحكاً بمن فيهم انجل التي وقفت وهي تقول "هل يغازل ابنكِ كل الفتيات ام انني مميزة؟"..
هزت حوراء رأسها بنعم وهي تجيب "كلهن .. ابني زير نساء مبكر.."...
ضحكت انجل ثانية، ثم استقامت لتسلم على امير: مرحباً أمير ..
ابتسم امير: اهلاً بكِ ملاك؟ كيف حالك؟
-بخير ، شكراً لك
سألها وهو يدور بعينيه حول المكان: ألم يحضر جوزيف معك؟
زحف الحزن على وجهها.. صفعها الألم من جديد وهمست بإرتباك: لديه عمل فلم يستطع ان يرافقني
قطب أمير قليلاً.. كأنه لم يقتنع.. بالتأكيد سببها ليس جيداً كفاية ليقنع أمير الذي يعرف ان اي رجل يحب امرأة لن يرسلها في رحلة تستغرق يوماً كاملاً.. ولبلد متأزم الأوضاع دون مرافقة..
قفز علي وهو يقول لوالده: بابا زوجني هذه الفتاة..
عاد الجميع لينفجر ضاحكاً... شاركتهم انجل الضحك غير مقاومة لحلاوة علي..
قال له أمير: بني.. خالة ملاك متزوجة ولها طفلين اكبر عمراً منك..
قطب علي بإعتراض: لكن رائحتها طيبة
ضحكت انجل: أعرف صديقة لي اسمها زنبق.. رائحتها اطيب من رائحتي سندعها تتزوج وتنجب لنا بنتاً بنفس رائحتها ونزوجك اياها.. هل يرضيك هذا ؟
بدا على الطفل وكأنه يفكر: حسناً قبلت .. ساتزوج ابنة زنبق..
لفترة وجيزة ووسط هذا الجو المرح نسيت لماذا هي هنا.. لكن حين حل المساء وتركها الجميع لترتاح في غرفتها القديمة.. طافت عيناها في زوايا الغرفة بشئ من الحنين.. لقد عاشت هنا مع ماريا.. ولها من الذكريات عدد لا يحصى.. سمعت صوت ضحكة ماريا وشهقات بكائها المتكومة .. سمعتها تقلد صوت حوراء بسخرية.. فاضت الدموع من عينيها من جديد.. لكنها مسحتها.. عليها ان تنفذ ما جاءت لأجله وتعود بأسرع وقت.. اتصلت بسامح الذي رحب بها بشدة.. واخبرته انها تود زيارته غداً في البيت..فأخبرها ان البيت بيتها ومتى شاءت فأهلاً بها ثم سأل: هل جوزيف معك؟ والتؤام؟
شعرت بغصة في حنجرتها.. رباه.. انها تشتاق زوجها.. لكنها ردت بصوت هش: انا وحدي هنا.. ويوسف لا يعرف.. أرجوك سامح.. لا تخبره.. يجب ان لا يعرف هل تفهم؟ الموضوع مهم ومصيري
حل الصمت للحظة كأن سامح يحاول ان يخرج بشئ مفهوم من هذا الحديث الغامض ثم اجاب اخيراً: حسناً ملاك.. بإنتظارك غداً، هدى والتؤام سيفرحن بحضورك..
قضت انجل بعد تلك المكالمة ليلة صعبة.. بين ذكريات ماضيها.. وبين الخوف مما سيقوله سامح غداً.. وسألت نفسها السؤال الوحيد الذي خشيت منذ ان رأت الفيديو ان تسأله : ماذا سأفعل إن كان يوسف قاتلاً؟
في تلك اللحظة.. انفجرت باكية !
..
دخلت حوراء الى غرفة نومهما متسللة بهدوء.. ثم اغلقت الباب خلفها... على السرير كان امير ينتظرها .. همس: تعالي جميلتي..
وقفت حوراء على بعد خطوتين من السرير ورفعت إصبعها بحركة تحذيرية: إسمع أمير لا تظن أن الأمر قد انتهى
قطب مدعياً عدم الفهم: اي أمر حوريتي؟
نظرت اليه شزراً: لا تحاول ان تستميلني بإسم التدليل هذا.. ولا تدعي عدم الفهم .. لن تبقى "رفل" لحظة واحدة في المكتب..
رفع حاجبه : يووووه ها قد بدأنا ..
-هيا انظر في عيني وقل لي انها لم تكن تغازلك... يا ماما لقد رأيتها بأم عيني تقول لك (نعمّت نبرة صوتها وهزت خصرها يميناً وشمالاً وقالت بمياعة) سيد امييييير.... ما شاء الله احرف المد لدى الفتاة مية على مية..
ضحك امير مستمتعاً بمنظر زوجته الغيورة: هذه طريقة كلامها فماذا أفعل؟ ...
-امير السعدون.. استمع الي جيدا (ورفعت امام وجهه اصبع التهديد من جديد) .. امهلك حتى نهاية الأسبوع ان لم تطردها من المكتب طردتك من السرير.. ومن البيت.. عندها اذهب واقضي عطلة الاسبوع انت وابنك في حضن ام امير..
ارتفعت وتيرة ضحكه: بالله عليكِ حوريتي.. هل تركنا علي عند الخالة عالية.. لنتناقش حول امر رفل.... طيب يا ستي سوف نطردها لعيون ام علي.. لكن قولي لي يا حبيبتي.. هذه السكرتيرة الكم التي نطردها
رفعت يدها امام وجهه بعلامة الخمسة: رقم خمسة .. خمسة وخميسة .. سأطردهن واحدة بعد الأخرى حتى تجد رجلاً.. مابه السكرتير عيوني؟
نهض عن السرير.. وتقدم نحوها ببطئ: يسلم عيونك حوريتي،،، وهل وجدت سكرتيراً وتذمرت
وصل اليها ووضع يده حول خصرها وشده اليها: ما رأيكِ لو تعملين سكرتيرتي كما في السابق
رفعت حاجبها: الا يكفيني دور السي سيد الذي تمارسه علي في البيت .. لأعذب نفسي بدور رئيس العمل المغرور ..
همس بإغواء: وما به رئيس العمل المغرور يا عيوني؟
اطلت العاطفة من عينيها البديعتي الجمال.. رفعت يديها تتعلق برقبته: يسلم عيونك حبيبي.. ليس به شئ سوى انه لا يطاق.. والله كانت ايام سوداء يا حياتي .. لقد استعبدتني رسمياً..
انحنى نحوها وانفاسه تشتد حرارة .. قبل خدها وهمس قرب اذنها: لم يكن احد مستعبد بيننا سواي.. لقد استعبدني حبك حوريتي
ردت له قبلته بقبلة مشابهة على خده وهمست قرب اذنه هي الاخرى: هل ستطردها
التقط شفتيها: من العراق كله ان اردتي..
ابتسمت برضا... وتركته يعانقها...
بعد ساعات.. كانت حوراء تستلقي على صدر زوجها يشاهدان مسلسلها التركي المفضل بينما الملل يعتريه معترضا على كمية الرومانسية الغير معقولة ..
هتف محتجاً: بيتزا على شكل قلب؟ .... يكفي يا عمي.. ما هذا البطيخ؟
رفعت رأسها عن صدره لتوجه اليه نظرة حادة : يا عديم الرومانسية
ضحك: هذه ليست رومانسية يا عمري هذا خيال علمي.. توقفي عن مشاهدة هذه المسلسلات .. ستتسبب بطلاقنا ولا شك..
ضحكت هي الأخرى: شاهد وركز وتعلم .. ونفذ .. نفذ يا حبيبي
قال بشقاوة: ألم انفذ قبل قليل
رفعت عينيها الى الاعلى متأففة: رومانسية عفيفة يا قليل الأدب
-ما شاء الله كانت تقطعني قبل دقائق بقبلها والان تقول لي قليل ادب.. يا مؤدبة يا حوريتي
احمر وجهها.. وضربت صدره...
بعد دقائق همست له حوراء: أمير
كانت همستها مختلفة.. ربما اكثر جدية من ان تكون غزلا او دلالاً
-حبيبتي؟
-هل تظن ان مشكلة ما حدثت مع ملاك؟ هي لم تحضر حتى التؤام معها
كان احساس ما يساوره ان حوراء على حق
-لا اعرف ، منطقياً يمكننا ان نقول انها لم تحضرهما خوفاً من الأوضاع..
(لكنها كانت قد احضرتهما من قبل .. حين اختطف زوجها) فكر امير
-ربما .. لكنني قلقة عليها.. أظنني لم اتخلص من عقدة الذنب نحوها بعد
مسح على شعر زوجته: لكنها سعيدة يا حوراء.. ولديها عائلة تحبها.. وحياتها جميلة .. وقد تسامحتما على كل ما حدث في الماضي
هزت رأسها.. كست الجدية وجهها وطغى احساس الذنب على ملامحها: اعلم انها سعيدة، لكنها الان لا تبدو كذلك.. الم تلاحظ شحوبها؟ الم تلحظ نظرة الحزن في عينيها؟ ... يا الهي اخاف كثيراً يا امير ان يكون هناك شئ ما بينها وبين زوجها... كلما افكر انني السبب في زواجها هذا.. اشعر بالوجع... صحيح انها لم تلاقي مصيراً سيئاً لا سامح الله... لكنه احساس داخلي بالذنب.. لا اعرف كيف اشرح لك.. لقد كنت السبب في قلب حياتها .. لو انني تركتها تتزوج مصطفى رحمه الله .. لو انني لم اكن حمقاء وانانية
قاطعها محتضناً أياها بقوة: حوراء.. حوريتي.. حبيبتي.. توقفي عن هذا التفكير.. ملاك تحب زوجها بشكل جنوني.. ألم نشهد حبهما هذا قبل سنوات.. ألم تري بعينيك عشقهما لبعضهما.. الم تتأكدي انها سعيدة من كل تلك الصور التي كانت ترسلها اليك طوال هذه السنوات وكل تلك الاخبار الجميلة عن عائلتها ...ليس عليكِ أن تشعري بالذنب.. لقد كنت مجرد سبب لقدر كان سيحدث بكل الاحوال.. وانا متأكد ان انجل ممتنة لكِ جداً لأجل هذا..
احكمت ذراعيها حول خصره.. قبلت صدره واراحت رأسها ثانية عليه: أتمنى فقط ان تكون زيارتها ودية حقاً..
مسح شعر زوجته وقال محاولاً اقناعها رغم عدم اقتناعه هو شخصياً: لا سبب اخر.. انها فقط تشتاق لوطنها..
لم تجبه حوراء.. انحنى وطبع قبلة على شعرها.. حوراء على حق في خوفها هذا.. ملاك لم تبدو بخير.. وفكرة ان يسمح لها جوزيف بالسفر وحدها.. بدت غير مناسبة لما سمعه عن جوزيف الذي تتحدث عنه حوراء نقلا عن أنجل..
فكر أمير.. لربما تغيرت زوجته.. ولربما غُفِرت الأخطاء.. لكن الماضي سيبقى كشبح.. لا يمكن التخلص منه .. ويجب التعايش مع حقيقة حدوثه !
..
في صباح اليوم التالي.. خرجت انجل مبكرة عن موعدها مع سامح.. اخذت تكسي واتجهت نحو كنيسة يوحنا المعمدان.. الكنيسة التي رأت أمامها يوسف لأول مرة حين كادت تدهسها سيارتهم.. دخلت الكنيسة التي لم تتغير لا للاحسن ولا للاسوأ.. لم يكن هناك أحد.. ما زال الوقت مبكراً ولا قداس هذا اليوم.. لم تجد الأب زكريا الذي كان مسؤولاً عن الكنيسة قبل خمسة سنوات.. وحين سألت عنه الأب الجديد أخبرها أنه غادر بغداد الى الشمال مع عائلته.. ابتسمت بمرارة, بالطبع.. فبغداد لم تعد مكاناً صالحاً الا للموت.. لقد ظنت ان انسحاب الجيش الأمريكي سيحسن من وضع البلد.. هكذا كانت تأمل.. لكن البلد يتراجع نحو الأسوأ.. ربما لم تعد الطائفية بأوجها كما كانت لكنها موجودة والفساد الإداري كان في تزايد والفقر في تزايد.. والمرض في تزايد.. وخزينة الدولة وحدها في تناقص .. فالأربعين حرامي في قصة علي بابا تناسلوا الى اربعين ألفاً في واقع العراق السياسي.. جلست تصلي بخشوع وشالها الأسود يستقر على رأسها : " أبانا الذي في السماء، ليتقدس أسمك، ليأتي ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض،، أعطنا خبزنا كفاف يومنا، واغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ الينا، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير.. (شهقت بالدموع وهي تكرر) لا تدخلنا في التجارب.. لا تدخلنا في التجارب.... ظلت تكررها لمرات ومرات ثم مرت على وجهها وصدرها بحركات تقاطعية ترسم الصليب "آمين"..
نهضت واضاءت شمعة لماريا ومصطفى.. ثم غادرت .. وهي تعبر الشارع توقفت بالضبط حيث التقت بيوسف اول مرة.. كانت عيناها لا تزالان مبللتان بالدموع.. السيارات تعبر من جانبيها مصدرة نفيرها اعتراضاً على وقوفها الشاذ في وسط الشارع كمن يبحث عن انتحار.. لحظات ثم اكملت عبور الشارع..
بعد ساعة او أقل.. وقفت أمام قبر أختها ماريا.. دموعها انسابت .. هذا ليس قبر ماريا انه فقط القبر الذي يضم ما تبقى منها.. مسحت احجار القبر بيدها تبعد التراب المتراكم وسط جو المقبرة المقفر : صباح الخير حبيبتي الجميلة.. ها قد عدت.. خمس سنوات يا ماريا لم ازركِ فيها.. لكنكِ تفعلين دوماً.. تزورين أحلامي ببهائكِ القديم.. بهالة القدسية التي تحيطك.. بأمومتك ومحبتكِ.. (مسحت يدها المتربة بثوبها) اشتاقكِ ماريا.. اشتاقكِ..... لقد ظننت انني ملكت كل شئ.. انني تصالحت مع الوطن، انني هزمت الحرب بالحب.. لكنني خائفة .. خائفة جدا ان تكون الحرب قد هزمتني ومن قبل البداية حتى !
حين انتهت من زيارة قبر اختها بحثت بين القبور الغير مرتبة.. المتهدمة.. على قبر مصطفى.. ثم وجدته.. كان اسمه على الشاهد يشبه الصفعة.. لقد مات بذات القدر الذي ماتت به ماريا.. فقدر الموت في العراق واحد وان تعددت اشكاله!..
جلست امام قبره: مصطفى.. رفيق احلامي في هذا الوطن.. اشتاقك مصطفى .. رباه.. كم اتمنى ان تكون الان موجوداً .. ان أحتمي بكَ رغم كل شئ.. أن أرى فيكَ املاً للعراق.. آآآآآه مصطفى .. اخاف أن تكون على حق.. اخاف أن اكتشف اليوم انني تزوجت رجلاً قتل احد ابناء بلدي.. اخاف ان اتحول الى خائنة.. (شهقت باكية وهي تضع خدها على قبره) مصطفى، مصطفى..
حين غادرت أنجل المقبرة.. كانت تعرف جيداً.. أن قبور أحبائها ليست تلك التي كانت تبكي على حجارتها قبل قليل.. بل تلك الموجودة في قلبها.. والتي تفوح منها رائحة الموت دوماً!
في الساعة الواحدة ظهرا.. كانت انجل تتوسط غرفة الأستقبال في بيت سامح محاطة بترحيب هدى زوجة سامح الملئ بالدموع وضجيج زينة وزينب اللتين كبرتا كثيراً واصبحتا في عمر المراهقة..
مازحتها زينة: هل ما زال جوزيف يقول "كولييييش زينا"؟
ضرب وجع كبير قلبها.. كلما ذكر احدهم اسمه تشعر بسكين حاد يدخل الى اضلعها ويحترق شئ ما في صدرها بحطب الاشتياق والخوف
تدبرت ان تجيب: ما زالت عربيته معوّجة
علقت زينب: لا فائدة منه ..
وسط هذا الجو المرح لم تستطع انجل ان تسترخي كثيراً.. كانت تتحرق لتعرف الحقيقة بالقدر الذي تخشى ان تعرفها.. وبينما كانت تتناول الغداء بين أفراد العائلة التي حمتها يوماً مع يوسف.. طافت عيناها بحنين في ارجاء البيت متذكرة يوسف .. لقد صرخت عليه كثيراً في هذا البيت.. شتمته واهانته .. وصبت الملح فوق رأسه حين حاول ان يكون لطيفاً وطبخ لها.. رباه.. ان كل ركن منه يذكرها بالصعوبات التي واجهتها مع يوسف.. ورغم ان البيت قد تغير كثيراً بسبب التحسينات التي قام بها سامح ، لكنه ما زال يحمل ذكرياتها .. لم تستطع ان تتناول سوى عدة لقيمات.. وهي تنتظر بصبر ان تنتهي الوجبة لتسأل سامح.. وبعد وقت بدى لها ساعات طويلة اختلت اخيراً بسامح.. سألته أولاً
-هل كل شئ بخير يا سامح؟
-تقصدين الجمعية الخيرية؟
هزت رأسها: كل شئ كما اوافيكم به.. المساعدات توزع حسب الاولوية.. لا تقلقي
ابتسمت ابتسامة مرتجفة: انا واثقة من ان كل شئ بخير طالما هو تحت اشرافك
ثم ارتجف صوتها وهي تقول: سامح سأسألك شيئاً واحداً فقط واريد ان تجيبني عليه.. لكن قبل ان تجيبني تذكر ان راحة ضميري تعتمد على ما ستجيبني به.. لذا أرجوك قل الحقيقة.. مهما كانت
قطب سامح وهو يستشعر خطورة ما ستسأل: أعدكِ ملاك..
تحشرج السؤال كثير في صدرها قبل ان يخرج ضعيفاً ، ومرتجفاً ومليئاً بالخوف: هل قـ.. قتـ.. قتل يو.. يوسف مدنياً من قبل؟
اتسعت عينا سامح بدهشة وهتف: جوزيف؟ مستحيل!!
موجة غامرة من الراحة اجتاحتها.. لكن الفلاش المختبأ في حقيبة يدها لم يسمح لراحتها بالاستمرار..
-سأريكَ شيئاً ما...
اخرجت الحاسوب المحمول الصغير من حقيبتها ومعه الفلاش.. وعرضت عليه الفيديو.. كان سامح يشاهد بصمت وعلامات الدهشة على وجهه .. ما ان انتهى الفيديو حتى سأل : كيف وصلكِ هذا الفيديو؟
-لا اعرف من ارسله الي.. لكن يا الهي سامح.. ان يوسف يطلق النار هنا على مدني.. هل يمكن ! هل هذا معقول؟
قطب سامح: انه لا يطلق على مدني ملاك.. هذا جانب من التدريبات التي يقوم بها الجيش لمجنديه وقد شهدت بعضها.. انها ساحة تدريب اعرفها جيداً .. الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية هو مجند أيضاً.. والرصاص ليس حياً..
شهقت انجل .. احساسان هائلان عبرا جسدها.. احساس بالسعادة والراحة واحساس مضاد بالغباء لأنها شكت بأن يوسف .. يوسفها هي .. يمكن أن يفعل شيئاً بشعاً كالقتل..
علق سامح: إن من ارسل لك هذا المقطع .. لا يريد خيراً ملاك..
قالت بخوف: يا الهي.. لكن من ؟
هز سامح رأسه: هذا سؤال لا استطيع الأجابة عليه..
رجته: هل يمكن ان استخدم هاتفك.. علي أن اجري مكالمة مستعجلة.. علي ان اخبر يوسف .. عليه ان يحمي نفسه من اي احتمالات..
قدم لها سامح الهاتف على الفور ودون تردد كانت تتصل برقم يوسف.. لكن لا اجابة.. خفق قلبها برعب.. عادت تتصل مرة أخرى.. وبعد رنات طويلة اجابها اخيراً ودون ان تنتظر منه كلمة: يوسف .. عـ..
لكن صوت تينا الباكي قاطعها: أنجل.. أين أنتِ؟
نهضت انجل من مكانها وهي تهتف برعب: تينا اين يوسف .. لما تجيبين بدلاً عنه؟
-إن يوسف في المستشفى أنجل.. لقد اصيب برصاصة فوق قلبه (ثم شهقت باكية بصوت اعلى) كاد ان يموت أنجل.. كادت ميراندا ان تقتله
صاحت انجل بفجيعة.. شعرت بالرصاصة التي اخترقت جسد زوجها تخترق جسدها هي.. ميراندا.. ميراندا.. عادت ميراندا لتنتقم.. من بين صرخاتها اسم واحد كانت تناديه بلوعة "يوسف.. يوسف"... ثم سقطت غارقة في الظلام
أنت تقرأ
رقصة سما(الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملة
Romansaرواية بقلم المبدعة بلقيس علي(مشتاقة) الجزء الثاني من سلسلة حـــ"ر"ــــب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة بلقيس علي