كل الأنظار كانت تائهة في قصتها الخاصة، عيون مصوبة نحو الأمام، أو في بعض الأحيان إلى الأرض، لكنها لا تبصر حقيقة سوى خيالاتها التي تطفو على سطح الواقع على شكل ابتسامة، أو تكشيرة، أو جفنين متعبين ناعسين.
كنت أتفحص تقاسيم أوجههم بنهم، أحاول تقمص أدوارهم التي لا أعرف عنها شيئا، وحين تلتقي نظراتنا، كنت أحب إطالة النظر، بابتسامة خافتة، وكأنني أخبرهم سرا أنني جزء منهم، وأنني أدرك تماما أنهم أيضا يعيشون.
كان ذلك طقسا صباحيا لا يفوتني، أمارسه كل صباح خلال عبوري الشارع الفرعي المؤدي إلى الشارع الرئيسي.
أما الشارع الرئيسي فقد كان مخصصا لتأملي الخاص، تأملي لذاتي، هناك أحدث نفسي بصوت عالٍ تؤنسني أصوات حفيف السيارات الذاهبة والآتية، ولا أحد يسمعني سواي وخالقي، إذ أن الرصيف كان يخلو عادة من المارة.
في سني هذا، السادس عشر، أصبحت أقتات على الأفكار، بشكل نهم وجشع، أصبحت أفصل أفكاري إلى اثنين، اعتقدت من قبل أنهما واحد: النظر المجرد للأمور، والنظر إلى الأمور من خلال انعكاسها على ذاتي. ومع أن الأولى قد تساعدني على فهم حقيقة الأمور، فإن الثانية بوجود سابقتها تجعلني أفهم ذاتي أكثر.
في الوقت ذاته الذي أحببت بطيش، أؤمن أنني كنت أطيش تحت أنظار ترصدني، أنظار نفسي المحللة التي تبحث عن حقيقة الأمور. في الوقت الذي كنت أخطئ، كنت أتماهى في الخطإ وكأنه لا أحد يلومني، لكنني كنت تحت أنظار نفسي المحللة أيضا. مع ذلك، أعتقد أنني كنت أنفصل بذاتي المخطئة والمحللة عن أسرتي، مع أن جانبي المخطئ كان واضحا لهم، وذلك يظهر جليا في ضغطهم علي وعدم رضاهم، كنت أظهر فقط على هيأة تلك الابنة العنيدة التي تقاوم كل شيء، وترغب في المزيد من العناية، أنا بطيئة في تصحيح أخطائي، ومتسامحة مع أخطائي بشكل غير سليم. لأنني لست قوية كفاية. لكنني أعاند فقط من أجل إبقاء ذاتي المحللة والمراقبة مستيقظة. في بعض الأحيان أقع في فخ التبرير، أقع حتى تنتشر أشلائي في كل مكان، لكن ذاتي المحللة المراقبة هي فقط من يجمع أشلائي ويعيدني إلى واقعي المليء بالأخطاء والهفوات والطيش، والعتاب أيضا.
من أجل معانقة واقعي البسيط، كنت دائما أكتب حتى أفرغه من جوفي، فأجعله محسوسا، ثم أعانقه، بدفء، أذرف على كتفه دموعا قليلة، يربت على صدري بحنية، بابتسامة من غريب عابر، أو مشهد سريالي قفز من كتاباتي الخيالية ليتجسد حقيقة، وفي بعض الأحيان، بسلام عابر لطيف كنسمة.