الفصل التاسع
جمد الدم بعروق كواكب وهو تستدير لأبنها الذي يقف لا يبدي رد فعل بعد سؤاله بينما هو يشعر بضياع الكلمات من رأسه الشيء الوحيد الذي يتحرك لديه هو صدره الذي يعلو ويهبط بسرعة كمن ينقطع الهواء عنه في هذه اللحظات والدنيا حوله تزداد قتامة هل هو مستوى السكر أرتفع بدمه أم أن جسده كله يعلن انهياره الأخير!! تخطى للداخل ينظر للهاتف بيدها كانت سعيدة بموت شريكها!! عاد ينظر لأثير بعدم تصديق لفعلته والذي بادل شقيقه الصغير بنظرات توضح ذنبه بالسكوت طوال كل هذه السنوات ...اراد أن يقترب من نهشل كي يفهمه حقيقة الأمر ليأتي كلام كواكب يقطع سكون اللحظة ويزيد الطين بلة
"أسمع بني لقد كان خطأ قديم لا يمكن أن تحاسبني... "
لم تكمل جملتها المستفزة فقد وصل اليها نهشل يسحبها من يدها وغادر مسرعاً... صرخت ربى وهي ترى احتقان وجه أبن عمتها كما لم يحدث من قبل ليركض أثير ورائه فتذكر أنه بملابس البيت... عاد بسرعة للغرفة تساعده ربى بخطوات قلقة ومرعوبة فالوضع هذه المرة لا يبشر بخير مطلقاً !!
كان نهشل سريعاً بخطواته وصل البوابة غير مبالي بنظرات الخدم والحرس صوبهم ...ادخلها السيارة فلم تعترض بل كانت تكتم ما تشعره أنها خائفة الأن على صحته لتنتظر أن يهدئ ويستعيد صوابه... انطلقت السيارة مخلفاً عجاجا بعدها كان أثير يلهث وهو يخرج ينظر للشارع الفارغ يعلم انه تأخر وكان لابد للحقيقة أن تنجلي ليصل عبد البر يتمتم قربه
"واخيراً شهدنا سقوط آل النهشل وزوالهم"
"خالي...!!"
"ماذا!! لا تنكر هذه العائلة دمرونا وذلونا فقط لأن لديهم قدرة علينا يستحقون أكثر من هذا أنا أشعر بسعادة اليوم وكأنه يوم التحرير!! "
لينتبه اثير لمغادرة عدد من الخادمات والعمال القصر ناداهم بقلق
"الى أين ؟"
رد خاله بدل عنهم ومازال يرسم ابتسامة شامتة
" كواكب انتهت والشعب سيأتي لقتلها أكيد... فلينجوا بحياتهم أفضل ...افتح هاتفك وانظر للأخبار!!"
"اعرف بموت مكرم لكن ما شأن هذا بالفوضى داخل القصر!!"
شخر عبد البر
"لم تعد أخبار موت النائب مهمة ففضيحة السياسية وسيدة الأعمال الخيرية وعلاقتها مع سائقها تحتل الصدارة ... الحمد لله لم يكتب أسم والدك علناً والا لكنا ضعنا معها"
لم يستطع اثير أن يصدق أن الخبر انتشر بل الأسوأ من فعل ذلك!!
تنظر ربى ببؤس من خلف نافذتها وقد شاهدت الاخبار الفظيعة...القصر يخلو من الجميع تساءلت وهي توجه نظرات حزن لزوجها الذي يقف أمام البوابة يشعر بالدمار
" هل سيتركها أيضاً بعد أن أنتهى كل شيء!!"
كان أثير يتصل بنهشل دون فائدة ليعود يتصل بكواكب والأخرى لا ترد!!التفت بيأس لزوجته القابعة بالقصر أنه خائف وعاجز لقد وعد أن يحميهم ماذا يفعل الأن فبعد فضيحة كواكب التي تستروا عليها جميعاً كيف سيكون مصيرهم ياترى!!
..............................
وصل نهشل لمقبرة المدينة!! ترجل من السيارة أنزل والدته بقوة ليقفا أمام مسكن آل النهشل الذي يجمع قبور عائلته جميعاً بينما يحيطهم من الخارج قبور خدمهم مثل سعاد وابتهال والجدة وحتى من يفترض أنه والده الحقيقي حكمت!! خمن أن أحد القبور المتوزعة عشوائياً اكيد لليال... حتى بالموت يميزون أنفسهم وينامون بقبور مبنية من الرخام الاسود وأسمائهم مزخرفة ويملأ المسكن الورود والأثاث الفاخر ليكون مصباح العيد وقت رياء والدته وهي تذبح الذبائح وتوزعها بأسمائهم دعاية لسلطانهم الزائل ...بينما قبور الفقراء لا يميزها إلا شاهد خشبي موضوع بعشوائية ...لا يقف على قبورهم أحد ولا يقرأ عليهم الفاتحة لأن لا قريب لهم ليتباهى حولهم فالطبقية المقيتة لحقتهم هنا ولم ترحمهم أحياء كانوا أم أمواتا!!
دخل المسكن و كل عصب بداخله على وشك الانفجار حتى أنه لا يسمع ما تغمغم به والدته كان ينظر لقبر عاصي لتشب النار بصدره وكلماتها لأثير قد أنهت أخر أمل له بهذه العائلة فيطلق نداء مدوي ارعبها
"لماذااااااا!! "
استدار وعيونه تطلق شرراً مخيفاً ...جرها للداخل ليجعلها تركع قرب القبر
"قولي أنك لم تخونيه ...اخبريني أني أبنه ...أخبريني أن أمي لم تكن عاهرة لأنها ستكون قصمة ظهري والتي لا يمكنني الوقوف بعدها!!"
تنزل رأسها لا تشعر بالموت البطيء الذي بدأ يزحف داخل جسد أبنها ليعلو صراخه يهز أركان المقبرة الساكنة كسكون قاطنيها
"انهضوا يا آل النهشل وأخبروني أننا عائلة ننتمي لصنف البشر أخبروني أننا لسنا سفلة لتلك الدرجة التي لا يمكن لأي انسان تحملها"
يشعر أن قلبه سيخرج من مكانه فناره المستعرة لا تنطفئ بهتاف أو حسرة أو ألم ليطلقها أخيراً وبعد سنوات غبراء مريرة
"آاااااااااااااااااااه يا أمي ...."
رفعت نظرتها المستاءة اليه وهو يطلق آهات موجعة ...أبنها العاقل كيف تغير!! وقفت تحاول تهدئته أرادت احتضانه ليتراجع خطوة عنها وكأنها مرض معدٍ فيتمتم بلوعة
"كم تمنيت أن أفخر بك...كم تمنيت أن ترتسم البسمة على شفاهي وأنا اسمع صوتك عند باب المنزل ... لكني كنت أحني رأسي أمام الكل وتنقبض نفسي دون أن أشعر بوجودك...!!"
وضعت يدها على أذنها
"كفى .... "
ضرب صدره بقوة يذرع المكان كالمجنون تجزم أنه يحطم اضلاعه من قوة ضرباته الغير واعية تواً
"جعلتني أتمنى الموت بطفولتي والهرب منك بمراهقتي وذللتني بشبابي و ما زلت صاغراً ذاعناً بسببكِ ... اخذت كل شيء مني أنت لم تحبي رؤيتي سعيداً ...ضربت حبيبتي وتركتها للموت وبقيت قربك ...تزوجت مكرم وتعرفين أنه يطوق رقبتي ويهنني وصمت ... كنت ساذج ومازالت أصدق أن النفوس الشريرة تتطهر ويمكن للعاصي أن يتوب ...كنت أكذب على ذاتي وأقول سيأتي يوم وتعي أفعالها وتطلب المغفرة!!"
فلتت دمعة أليمة من عينيه
"أتعرفين قبل أيام عندما عادت ورقاء تمنيت أمنية لأول مرة بحياتي التعيسة هي أن تأخذ بيدي وتبعدني عنكم ...كيف حولتموني بسنوات لقليل حيلة وحالي كحال النساء!! ...لكن الأن أرى صعوبة ابتعادي فنهشل أبن كواكب ولن يكون غير ذلك... أسمي سيحمل عارك للأبد ... "
اخذ نفساً مؤلماً
"فهمت الأن شعور ورقاء عندما تمنت أن أمها قتلتها ...يا ليتك قتلتني ايضاً يا ليتني لم أولد أبداً... يبدو أنك ولدتني ليحكم علي بالتعاسة الابدية وختم علي باللون الاحمر أن لا أعيش كالبشر!! "
هز رأسه بوجع ينظر لأسم من اعتقد أنه فخره يناشده بشجن
"ألم تكن أبي!! اذاً أنا مجرد نتيجة لليلة شيطانية غير مرغوب فيه حتى!!"
وفجاءة يشعر بحاله مثير للشفقة وكم أنه شعور مقزز ...ضرب رأسه ينظر صوبها بمقت ما الذي يفعله ليرتاح...ما الذي يزيل هذه الصخرة القابعة على صدره ... يعيد ضرب رأسه مجدداً وبقوة لتمسك يده تحاول السيطرة على جنونه
"توقف حبيبي !!"
لتصرخ وأخيرا تدافع عن نفسها بعد رؤية أبنها الذي يبدو أنه سيموت
"والدك أقصد "عاصي" كان سيئاً جداً ولم يحبني أبدا كنت مضغوطة ومكتئبة بسببه... بعد زواجنا اكتشفنا صعوبة الحمل بصورة طبيعية وجربت التلقيح الصناعي فلم ننجح ...أهملني بعدها وكان كل يوم مع أمرأه هذا غير حبه الذي كان يضمره بقلبه لسعاد الدنيئة ...وقتها كنت أرى حكمت سائقي الذي كان يهتم بزوجته ابتهال تمنيت ايضاً أن أتلقى الحب والاهتمام مثلها... أبي لم يرضى ان أحصل على الطلاق وأخي كان عار على العائلة لذلك جدك حملني مسؤولية سمعتنا والطلاق معناه الموت بعدها قمنا بتجربة أخيرة للإنجاب كنت وضعت عليها أملي ومستقبلي ففشلت بعد ساعات فقط من سوء حظي!!...لم أخبر أحداً فكرت أني سأعيش هكذا دون تحقيق سعادتي ... استبد الحزن بي بعدها فقد علمت بحمل ابتهال وشعرت كأنها النهاية ...اعترف أني جننت وارتميت بأحضان زوجها فقط كان أول شخص واساني ...الوحيد من كان يشعر بألمي ويفهم نظرات عيني قبل أن أبوح بشيء ...بعدها عرفت بحملي منه عندها عاصي تغير وبدأ يهتم بي ...اعتقدوا جميعاً أن التجربة نجحت العائلة فرحت وقتها فأحببت الحياة بني ومن فرحتي عفوت حتى عن سعاد وغيرها من خدمي وبدأت أتقبلهم ووعدت نفسي أني سأغير من نفسي لأجلك ... لكن حكمت لم ينسني ففكرت لما أرفض من يرغب بي بشدة ولما أحرم نفسي من الاهتمام الذي أتوق له!!"
كان فاتح فاه بشدة أنها لا تسمع ما تقوله ليتحدث بمقت
"وقتلت عاصي بأخباره بفجورك..."
"لم أعرف ابداً من أخبره..."
نظر بعين خائبة اليها
هتفت بصدمة وأخيرا وضحت الصورة
"مكرم !! يا الهي كيف لم يخطر على بالي !! إلى جهنم اذاً لقد ارتحنا منه"
في هذه اللحظات المؤلمة هو متأكد أنها غير طبيعية ...أنها تذهله بردودها مازالت غير مبالية لما فعلته به!!ليتحدث باستسلام فلم يعد يشعر حتى بها
"تعرفين ما سيحدث الأن يا سيدة كواكب ..."
صمت طويل حل ينظران لبعض وأخيراً الحبل السري الخفي الذي يربط أي أم بأولادها أنقطع بينه وبينها وصارا غرباء !!
كان هاتفها يرن ولم يتوقف وهاتفه أيضاً هزت رأسها ترفض نواياه لتفتح هاتفها وعلامات غضب من أبنها بانت عليها... قرأت رسالة أحد مساعديها لتصرخ بقوة
"لا... لا يمكن!! "
عبس وهو يحدق بها يتساءل مع حاله أيمكن للإنسان أن يبغض المرأة التي ولدته!! لقد تمنى أن تبكي وتتوسل الرحمة... تمنى أن يراها يوماً تدعو أو ترفع رأسها للسماء كان يعمي نفسه عن شيطنتها عمدا فبالنهاية هي أمه لكن حقيقتها واضحة كوضوح الشمس ... وقع الهاتف من يدها ليتبدل وضعها كلياً كمن شاهدت شبحاً!! كواكب لم تفزع هكذا بحياتها ومهما واجهت ماذا حل !!اختطف نظرة للأرض مكان جهازها ليجد صورتها تحت عنوان كبير بفضيحتها واجرامها وضعت يدها على فمها تنظر بذعر اليه ليأتي اتصال اثير فيرد مضطرباً من هول الخبر
"نهشل ...هنالك أمر بألقاء القبض على أمك... السفارة الفرنسية تريدها الخبر بكل مكان...امك أصبحت ارهابية على مستوى دولي!!"
واخيراً هرب اللون من وجه كواكب وبان ارتعادها... ها هو ما كانت تخافه فقط بهذه الدنيا "سمعتها وإزاحتها من عرشها العالي " ...كان نهشل يفتش بهاتفه يبحث عن اخبار أخرى فتبدل حاله أيضاً لم يصدق كيف الأخبار انتشرت كالنار بالهشيم وكيف انتهى آل النهشل بثانية والذين باتوا بالنسبة للشعب مجرد حثالة ويجب القضاء عليهم ...سمع تمتمتها المرتجفة
"لن...لن أنحني ولن أسمح لهم بجعلي أركع أبدا "
خرجت من المسكن لحقها نهشل يهتف بألم
"اعتقد حان الوقت للتكفير عن اخطائنا فلتحصدي نتيجة زرعك لسنوات .. "
كانت تعدو بسرعة ترفض الانصات بهزة من رأسها لتهتف ببؤس
"كان عليهم أن لا يسمحوا للفرنسيين بملاحقتي ...كان عليهم أن يتذكروا خيري عليهم وقت الانتخابات شعب بائس ناكر للجميل!!"
وأخيراً وصلت السكة الحديدية التي تفصل شرق المقبرة عن غربها ونهشل يمشي ورائها يخبرها أن تتوقف ليطلق صرخة عتاب
" صحيح عليهم شكرك فيكفي أنك خلفتي أبن عالة وبغيض لهم!!"
استدارت ونبرة الشموخ بصوتها كانت مناقضة لوقفتها الكسيرة
"لم تكن عالة يوماً بل أنك ستكون أفضل طبيب هنا وأبداً لم تكن مبغوض ...كانوا يحبونك ...كل من عرفك عشق قلبك وروحك الطيبة... حكمت ابتهج عندما علم أنك أبنه وعاصي مات بنوبة قلبية لأنه عرف أنك لست كذلك وحتى تلك اللقيطة أبنة جلال احبتك وعادت بتهور تزيح جودي ولم أفهم كيف تفعل شيء غبي فقط لتريني مدى عشقها لك!! أنا من لم يحبني أحد حتى أنت...!!"
انزل رأسه والوجع يتصاعد داخله
"أمي أنا..."
" أش حبيبي اعرف ...فقط تذكر أنني احبتك مثلهم وتذكر أيضاً أن كواكب ابتسمت يوماً فعلاً من قلبها يوم ولدت يا نهشل... لكن هذه عيشتنا وهذا عالمنا لا يمكن أن نكون من العوام ولا نختلط بهم ولا يمكنهم أن يحملوا " نسلنا "هذا هو ما قاله أبي ...علينا أن نبقى عاليا لأخر يوم بحياتنا ويجب أن ندوس على البشر حتى لا يدوسونا وعندما تحين ساعة الهزيمة... نرحل بعزة وإباء!! "
سمع نهشل صوت ضجيج من بعيد لتتمتم وهي تنظر للسماء
"الغروب وقت جميل للرحيل !!"
لتجهش بالبكاء وهي ترفع يدها تلوح له فتثير الريبة بقلبه
"أمي ماذا تفعلين ؟ "
مسحت دموعها لن يكون أخر شيء يراه دموع ذلتها
"وداعاً يا أنقى شيء تركته لهذا الدنيا المقيتة"
واخيراً وضح الضجيج انه صوت قطار يأتي مسرعاً لتستقر بمنتصف السكة ...علم ما تريد فعله ليركض نحوها يصرخ أن تبتعد لكن ما حدث بثانية جعله يقف متسمراً والقطار هشم جسد والدته أمامه ولم يبقي إلا بقاياها المتناثرة حول المكان !!
................................
يقف أثير بالحديقة بعد ذهاب الضباط والذي وصل توتره اعلاه كأن الحرب اندلعت فجأة والاحداث حوله تتصاعد ولا شيء يلوح بأن القادم يسير!! ليسمع صوت خاله
"لم يبقى أحد لنرحل أنا وأنت أيضاً"
ينظر للحقائب بيد عبد البر يبدو أنه لم يكن يمزح
"وزوجتي وأخي وورقاء هل نسيت أنهم عائلتي!!"
شخر عبد البر بمقت
"كلهم يحملون دم القذارة وصاروا وباء الأن علينا...لننجو بحياتنا أنت تعرف ما هو مصير من يحيط بالسياسيين الذين يسقطون سنذبح معهم ... لقد اخذت ما بخزنة كواكب وهيا قبل أن يكتشفوا فعلتنا"
نظر لخاله بأسى وهو يرى حقيبة مليئة بمجوهرات ونقود وسبائك آل النهشل!! تكلم من بين أسنانه وقد ضاق صبره بنذالة من حوله ونفوسهم القبيحة
"ستعيد كل شيء يا خالي..."
وفجاءة ذهول يصيبه وهو يرى قنبلة مسيلة للدموع ترتطم بوجه عبد البر تحطمه وتلقيه بعيداً مبعثرة النقود والمجوهرات حوله تلحقها طلقات نارية صوب القصر...صراخ ربى ينتشله من تشوشه ليصرخ وهو يركض يحاول الاحتماء من هجوم مباغت لا يعرف مصدره!!
"ابتعدي عن النوافذ "
بينما مطلق الرصاص لا يتوقف فأوامر مكرم أن يقتل كل من له علاقة بكواكب...هبطت ربى السلالم بسرعة لكنها تسمرت وهي تنظر للباب الخارجي... شعرت بحبات عرق باردة من صدغها ومنظر اغتيال والدتها يعود لرأسها لتمسك بالدرابزين تحتضنه تنادي برعشة "أثير تعال... "
شاهدت طيفه أمام الباب ...زفرت نفسها بقوة كان يحاول في هذه اللحظات أن يصل للمقبض ليشعر بشيء بارد يخترق ظهره!!
يعلم أنه تم اقتناصه وحقق الرامي هدفه لكن كل ما كان يخامر ذهنه في هذه اللحظة القاتمة "لا يمكن أن أموت وربى وحيدة!!"
فتح الباب بصعوبة فتلاقت نظراتهم ...كانت تجلس ترتعد على السلم أمامه لتأتي الطلقة الأخرى تنشر البرود بجسده فتتثاقل قدمه أصبحت صورتها ضبابية فأيقن أنه لن يستطيع أن يوفي عهده... وقفت ربى وزوجها يسقط أرضا دون حراك !! تناديه وقد توقف الهجوم لكن بركة من الدماء انتشرت تحته ...صراخاتها علت وصدحت بالقصر الملعون لكن من يسمعها ...تراوح بمكانها كطير ذبيح بالقفص لا تستطيع حتى الخروج اليه !!ضربت رأسها ومازالت تهتف وكأن هتافها سيجعله ينهض!! لكن الليلة لم تكن انتهت فبدأت الجولة الأخيرة و القنابل النارية تمطر عليها من كل حدب وصوب تخترق نوافذ القصر تحطمها لتبدأ نيران حقد من يرميها تأكل كل ما يحيطها ...تنظر أمامها لمن رحل وتركها وحولها لعالمها الذي ينتهي فتجلس مستسلمة لمصيرها الذي رسمه شر البشر ...نزلت دموعها صامتة لتعي أن هذا القصر كان مولدها ولحدها ايضاً ...وأخيرا تحولت منطقتهم التي منذ سكنها الوزير لمنطقة دامسة مرعبة والذي منع من حوله أن يعيشوا بحرية فرحلوا مرغمين عادت ليملأها الضياء وانقلب ليلها نهار بسبب كتلة النيران المتصاعدة من القصر تلتهم كل نجاسة وكل خطيئة وكل فساد حصل ودار خلف أبوابه المعتمة ... كانت نهاية اعادت تحرير صرخات الابرياء المحبوسة بين أركانه الذي شهدت تدنيسهم وتعذيبهم وكتم أنفاسهم النقية دون رحمة أو انسانية !!
..............................
بهذه الأثناء بالجانب الأخر من المدينة تتصل ورقاء بجميع من تركوها فجأة ولا يوجد من يبل ريقها بإجابة وأخيرا واصف يرد
" مصيبة يا ورقاء ...جدك أتصل يقول مكرم على قيد الحياة!!"
نهضت من سريرها بقوة
" اذاً هل هو من بلغ وفضح كواكب !!"
"أجل ويقول انه اتصل به يريد أن يحول له نقود مستعجلة فلقد وصل للبلد منذ نصف ساعة.. نحن ذاهبون لنبلغ عنه وسنقدم كل مستند ضده ...علينا إيقافه وإلا كانت العواقب وخيمة ...يبدو أنه وصل حد الجنون على أبنه وينوي الانتقام من كواكب بأبنها لا تبارحي مكانك مفهوم "
اغلق معها فركضت خارجة وجملة واصف هزتها لتتوقف خارج المشفى تبحث عن سيارة بهذا الليل كيف تبقى ونهشل بخطر !! كانت تحمل الهاتف تتصل به تتلفت يميناً ويساراً تشعر بقلة حيلتها وعجزها تتساءل بإحباط حتى لو جدته كيف تحميه وهي ضعيفة مثله ليأتي رده يرفع الأمل قليلاً داخلها هتفت ملهوفة
"نهشل!!"
سمعت صوت أنفاسه القوية ...اكيد حاله سيء بعد الأخبار ليتمتم بحزن أخترق روحها
"أمس عندما قلت أن ليال قتلت نفسها لم أخبرك أنني استئت منها تساءلت كيف كانت غير مؤمنة هكذا !!الان أتفهم حالها لقد كانت تتمسك بقشة رقيقة جداً ... ورقاء أرجوك عالجي نفسك وعيشي حياة سعيدة لأجلي ..."
تشعر بوخزة قوية بقلبها تعلم هذه النبرة اليائسة وحفظتها
"نهشل انصت لي مهما حدث.. "
"أمي انتحرت يا ورقاء!! "
شعرت بالأرض مادت تحتها ليتابع بغمغمة
"اعتقد أنه حان وقت زوال آل النهشل كما يقولون ...رحيلنا هو تنقية العالم من الفساد والتلوث "
" لا تقل هذا أرجوك أنت لم تؤذي أحداً..."
"كيف لم أؤذي!! احببتك فلعنتك ...تزوجتك ففجعتك... لتفقدي كرامتك وحريتك وأحلامك البريئة وبعدها كنت سبب بأذية جسدك وقلبك وروحك كنت اعتقد أن بأفعالي انقذك وأحميك لكني دوماً آذيتك وعرضتك للمخاطر...لترتاحي الأن فقد أنتهى سواد الماضي "
شهقاتها عبر الهاتف تعلمه بأنه لا يريحها هكذا
"أسف ليس بيدي حيلة... أنا حزين عليها أريد أن أبكيها فمنظرها تتمزق تحت القطار حطمني وأعرف أنك ستكرهينني فأفعل أرجوك والعنينا أنا وهي وكل عائلتي"
سيطرت على نشيجها تبتلع الغصات التي تخنقها
"بل أبكي يا نهشل...أصرخ...نادي عليها بأعلى صوتك وزلزل المكان أنها أمك يا أحمق كيف لا تحزن عليها!! نحن بشر...انسانيتنا لم تمت كي لا نتأثر ...لكن تعال الي وأبكي عندي سأواسيك وسنعبر هذه المرحلة البائسة معاً "
لتنطلق صرخاته رغماً عنه وبحة صوته المكلوم تجعلها تبكي معه فتلفت نظر من حولها ...ليركع قرب السكة
" في هذه اللحظات أريد امساك يدك يا ورقاء لم أعد أقوى على الاستمرار أمي حطمتني بخيانتها وأجرامها وأخيراً بقتلها نفسها ... نيران خطاياها تطوقوني انا أحمل وزها على كاهلي لكنه ثقيل جداً... أريد الخلاص"
"لاااااااااااااااااا"
صرخة يتخللها استهجان مؤلم منها اخترقت أذنه ليتمتم بقهر
"لقد تفهمت حالتك واعتبرت انتقامك هو حق بسيط لما شهدته فلما لا تتفهميني وتعطيني العذر أيضاً!! "
" لأنك أخبرتني أننا سنحقق حلمي ...أنت مسؤول لتعوضني عن كل ما سلب مني ...هذه المرة نتزوج بعرس اسطوري وستعوضني طفلي بعشرة غيره وستبدل ذكرياتي الموجعة بأخرى سعيدة فقط!!"
عيناه التي جمدها المنظر المهول قبل قليل أخيراً ذاب جليدها وبدأت دموعه تنزل حارقة لكنها كانت أهون من دموع قلبه الدامي
"ورقاء..."
جاء اسمها يحمل نبرة الوداع لتهز رأسها تناديه بحزن
" يا روح ورقاء وكلها... تكلم وسأسمعك أمد الدهر..."
"هنالك بقايا منها على وجهي وجسدي!!"
لم تستطع الكلام قطعت النفس لثواني ليتابع
"هل تعرفين ما يؤلمني أنا لا أعرف هل هذه بقايا قلبها أم عينيها أم ماذا!!"
عضت شفتيها بصورة مؤلمة أنه يعاني صدمة تمنت لو كانت قربه لتخرجه من قوقعته المظلمة التي لف نفسه بها ...أنه يحتاج لعلاج عاجل لنفسه قبل جسده وإلا سيجن... هذا ما فعلوه لها جدها وواصف كانوا جنبها يواسوها لكنه وحيد الأن من معه ليطبطب عليه ويبعده عن المنظر المهول أمامه!!
كانت تحاول بث أمل مزيف داخله كي لا تتركه لهواجسه السوداء
"سينتهي ألمك هو يبدأ كبيراً لكنه سيتلاشى مع الأيام ... ستشعر بالاختناق ...ستعشر وكأنك تموت وستعتقد ان غداً سيكون أسوء من اليوم ولا فائدة من العيش لكن لا ...كل وجع وكل حزن له نهاية فقط الليلة تعال وأبكي على كتفي كما فعلت سابقاً لكن اياك وتركي إياك يا نهشل ...حبك هو من كان يجعلني أقاوم وأحيا كي أعود وأظفر بك...أنت من كان يعظني أمس لا يمكن أن يهزمك الشيطان الأن!!"
"الشيطان!! تعتقدين أنني لست كذلك ...يوماً ما سأتحول واصبح مثلهم!!"
تحدثت وهي تعتصر قلبها بيدها الحرة
"اتعرف لما تهورت يوماً وعدت اليك!!"
يبدو أنها حازت على انتباهه أخيراً هي تستعمل نفس أسلوبه عندما اختطفته ...تلعثم بالسؤال
"ما...ماذا!!"
كانت تذرع الرصيف أمام المشفى بهستيريا لتتحدث بوجع
"لأنني نظرت لوجهك بالجريدة يوم خطبتك كنت بين كواكب وجودي وأبيها ...كانت نظرتك تخبريني أنك تحتاج لمن يخلصك من شلة العفن هذه ... أنت أبدا لم تكن مثلهم بل أنك أطهر مني حتى...لقد رميتُ نوبات غضبي عليك و شككت بنواياك واحتقرتك ولم تدافع عن نفسك بل احتويتني وساعدتني لأحيا لتفعل هذا بي عسى أن تتغلب على وجعك كما تغلبت أنا عليه!!"
"لما أغضب عليك؟ ... أنت ضحيتي..."
"لست ضحيتك!!"
تأكيد بقوة أطلقته يصاحبه بكائها المرير لتضيف بحزن
" أنا من جرك للزواج وأمك هي ظلمني ما ذنبك لتتحمل آثامها!!"
"أنت لا تفهمين !! هل تعتقدين بقاء امثالي خير ...هل تعتقدين فعلا أني سأسعدك وأحميك أنت لم تصدقي كلامي!! أنا صمت سنوات وخضعت لهم ...صبرت نفسي وكل يوم اقول غداً أجمل وانظري لغدنا القبيح !! اتضح أن من يموت هو فقط من يرتاح أحسدهم من تحت القبور"
بللت شفتيها التي جفت وهي تحادثه عله يخرج كل ما بداخله فيخفف عبئ وجعه
"اصدق بكل قلبي أنك ستفعل المستحيل من أجلي!!كلنا لدينا جرح ملتهب نحتاج فقط من يبرئه انت مثلنا ضحية وعلينا الأن أن نعيش ونسعد وهذا هو انتقامنا اليس هذا قولك !! نهشل..."
واخيرا تنطقها بكل كيانها وروحها
" انا أحبك ولم أتوقف يوماً عن هذا فلا تفجعني برحيلك ...آه!!"
كانت آهة موجعة اطلقتها بنهاية حديثها جعلته ينهض بقوة... استندت على سيارة واقفة قربها تمسك ببطنها تبكي بقوة فيشعر بمرارتها وكم كان غبي ليؤلمها بتفاهته مرة أخرى ليستدير مسرعاً وأحدهم يسأله من الواقفين حول السكة
"أتعرف من مات !!"
وكأنه فقد نظره لثواني والأن أبصر للمنظر ليرد بأسى
"امرأة مسكينة عاشت وماتت وهي ضالة دربها!! "
ليتحدث لورقاء يمسح دموعه
"انتظريني حبيبتي أنا عائد لطريقي وأنت دليلي المنير "
اغلق الهاتف يمشي بخطى سريعة للسيارة ليأتي اتصال من رقم يعرفه جيداً فيفتح عيناه بقوة وهو يرد ... جاء صوته على الجانب الأخر يثير الغثيان والمقت
"مفاجأة...آه يا أبن كواكب أين كنت أنا ورجالي نبحث عنك!!"
ارتجفت عضلات وجهه حتى أنه لا يعرف ماذا يقول
" ماذا تريد لقد انتهينا!!"
غضب مكرم جاء واضحاً عبر الهاتف
" لم ينتهي شيء إلا بموتك وجعل أمك تموت قهراً وهي بالسجن"
هز نهشل رأسه لكن ما قاله بعد ذلك جعل حواسه مستنفرة
"نحن متوزعون بين قصر النهشل شرق المدينة وداخله أثير وربى وبين مشفى عاصي غرب المدينة وبداخله ورقاء وأصدقائك ومرضاك لنلعب لعبة ...ما رأيك بإنقاذ احدهم على حساب الثاني !!"
"أنت مجنون ....!!"
ضحكة مكرم جعلته يشعر بغضب عارم فيتابع الرجل الكبير
" في هذه اللحظات شقيقك أبن حكمت يموت على أرض القصر وأبنة خالك المجنونة النار تحيطها وستلتهما حية وسينتهي قصر المجون ... أما قرب مشفى العار فسيارتان مفخختان توقفتا تحيطانه والجميل بالموضوع أن زوجتك الحبيبة تستند على أحدهما وتبدو كمن تنتزع منها الروح وهي واقفة بملابس المشفى تبحث عن أحدهم ...يبدو انها تتأمل مجيئك!!"
تنفس نهشل بحدة وعلامات الهلع بانت على وجهه وجسده
" أنت تريدني ...تعال ألي أنا بالمقبرة...!!"
" اذاً كنتم هنالك حسناً لا تغلق معي كي لا تبلغ أحدهم وتنبهم للفرار ...ومع ذلك حتى لو كلمت ورقاء أو ربى لا أعتقد أنهما ستنجوان!! "
"هم لا ذنب لهم بقتل أبنك من قتلتهم رمت نفسها تحت القطار "
نفس مريح أطلقه مكرم وبانت غبطته لكنه لم يؤثر بقراره
"لا يهم ما دمت يا حفيد النهشل تتنفس ودمكم مستمر اذاً لن أهنأ يوماً"
صرخ نهشل بقوة
"لا افهمك لما تحملت آل النهشل اذاً... لما لم تتركهم ..."
تحدث الرجل من بين أسنانه
"الم اخبرك من قبل أهلا بك لعالم السياسة ...كل تناقض وكل شذوذ وكل غرابة ستجدها عندنا...فلتعلم يا ساذج زمن العبيد لم ينتهي لا بل أصبح أكثر احترافية فهل سمعت بالعبيد يوماً اعتقهم أسيادهم !! عندما نقرر العمل تحت يدي سياسي نكون عندها وعوائلنا ملك لهم ...عقولنا واجسادنا وضمائرنا وكل شيء فينا يعود لهم يستبيحونا كما يحلو لهم فتنتهي انسانيتنا وكرامتنا... جدك وعائلتك كلها يحبون سرقة سعادة من هم ادنى فئة منهم فسلبت أمك حكمت السعيد مع زوجته وسلب عاصي ضحكة سعاد بينما يتصدر قائمة السفالة جلال وما فعله بالمسكينة ليال أما من رباهم... "وزيري" كان مختلف بانحطاطه كان يجعلنا نتسابق لتقديم نسائنا له ولو وقع اختياره على زوجة أحدنا أو أخته أو أبنته نفخر ونفرح وأن رفضها أذا معناه نهايتنا ...يجعلنا المنحرف نقف خارج غرفته حتى ينتهي ويعيد شرفنا إلينا بتربيته قوية على ظهورنا ومبلغ يزيد من أرصدتنا بسويسرا ... لكننا نبتلع حقدنا ونظل نحترمه ونعزه للمات حتى ينفجر يوماً سوادنا على نسلهم ومن يخلفونهم ...هل تعرف كان علي أن لا أتركك تعيش و لا أمك أيضا على الأقل لم أكن لأخسر ولدي انا تحملت الذل من أجلهما والأن راح واحد والأخرى بطريقها إليه!!"
يستمع لمكرم وجنونه من مدة لم يعد يعرف حسابها ليضع نهشل الهاتف بجيبه فيستدير ويجد عدد من سيارات حماية النائب تحيط المكان والذي ترجل من أحداها فبانت أثار الانفجار على وجهه وقدمه العرجاء ...تقدم ناحيته ينظر للتجمهر البعيد قرب السكة ...ركض أحد اتباعه ليتأكد فعاد يومئ بصحة الأمر تحدث نهشل بأسى
"أنت لن تتركهم حتى لو قتلتني ..."
ضحك مكرم يشير لمساعديه
"صحيح أنت بت تعرف من أنا.... لن أترك أحد منكم للأسف وقد جهزت نفسي لموت أحفاد النهشل اليوم وقبل أن يبرد دم أبني"
ضرب الحراس نهشل وجروه لمنطقة مظلمة بعيداً بين القبور يكبلونه من كلتا ذراعيه فيطبق مكرم على رقبته بيده ينتزع روحه دون أن يقاوم فتنتفخ العروق بوجهه وقد برزت خطوط عيونه الدموية ...يرفع نهشل رأسه للسماء وطيف احبابه يمر على باله يدعو يا ليت معجزة تنقذهم !!
............................
في هذه الاثناء الوقت الذي حدد لمن يحمل جهاز التحكم عن بعد للسيارات المخففة قد أنتهى ...ينظر من بعيد لمن تقف قرب السيارة متوترة وخائفة انها هي ورقاء المنشودة بالاغتيال لتلتقي عينها به للحظة وكأنها علمت بالنهاية فاحتضنت جسدها بقوة...اخرج الجهاز وضغط بقوة ليتحول المكان حوله لكتلة من الدخان والفوضى والدمار !!
وهكذا كانت هذه نهاية يوم أليم بدأ بالموت وأنتهى بالموت... في ذلك اليوم الشجي أسدل الستار الأسود منهي حكاية وجع أستمر طويلا...لتحلق النفوس التائهة جميعاً تبحث عن طريقها الذي تاهت عنه سنون فجفت العيون الباكية وارتاحت القلوب المكلومة ورقدت الأجساد المنهكة وأنتهى عهد آل النهشل "العائلة الفاسدة" ومن معها والتي حامت على مواطنيها طويلاً كغيمة سوداء وكان لابد من انقشاعها يوماً من الأيام .
............................
أنتهى الفصل
أنت تقرأ
واذا البتول تمجنت الجزء الرابع من سلسلة بتائل مدنسة لكاتبة مروة العزاوى
Romanceوإذا البتول تمجنت وقل حَيائها وتمردتْ فالويل لكل من ضرها ستصيبكم أسهم حقدها فلا تبتغوا رأفة منها فشقاكم سلوى حزنها وخزيكم متمة ثأرها