قطفت زهرة

56 7 20
                                    

"لا تليق الجنائز في فصل الربيع "

همست فاطمة بجانب أذني فأملت برأسي نحو الأم الأربعينية منهارة البكاء على إبنتها المتوفاة

نعم ..أظنني أوافقها ،لم أكن أعلم أنني سأكتسي بأسود وسط بتلات الورد المتفتحة بجمال ألوانها المتنوعة في مساءٍ ربيعي بعد أن إتصلت بي والدتي وسط عملي تخبرني بهذه الفاجعة

أزحت نظري و أنا ألقي نظرةً على ذلك الطفل و هو يقطف من الورود ما ينال إستحسانه مجتمعين بكفه ..للحظة حسدته و أنا مجبورة على حمل منديل الأبيض أدَّعي به مسح دموعي التي لم تتحرك إطلاقاً

لحظة ..هل أنا مجبورة ؟

أملت بظهري نحو فاطمة و أنا أدس بكفها ذلك المنديل

"سأغيب، تداركي وجودي حتى أعود .."

حاوطت أصابعها الرقيقة خاصتي و هي ترمقني بنظرة حائرة فحاولتُ رسم إبتسامة على شفتاي و أنا أطمئنها

" لن أطيل الغياب .."

بآخر حروفي إستلمت أصابعها المنديل و هي تغير نظرتها برسالة " حسناً ..لا تعبثي كثيراً "
لأرد عليها بنظرة " لا تقلقي ،لن أفعل .."

و كسارق يحاول أن لا يُكشف تسللت على أصابع قدمي بإتجاه الرصيف المؤدي للحديقة الكبيرة

خمسة ، ستة ، سبعة ..ألقيت نظرة ..و أطلقت الريح لرجلاي ..ها أنت حرة صوفيا !
لم أكن أعلم أن قبعتي الكلاسيكية ذات الدانتيل الشفاف سقطت و لا أن شعري تفتَّح و إنساب و بسبب في الرياح الكثيفة

و خطوتُ أول خطواتي نحو تلك الأزهار البراقة بفتنة ..زهرة بكل جمالها تأمرك أن تقطفها و تجمعها بورق الجرائد ذات أخبار تعيسة لتقديمها لحبيب لن يبالي إلا ببتلاتها

"توقفي آنستي !.."

إلتفتُ شبه منزعجة و خائفة ..أظنني سأخون وعدي لفاطمة ..شبعت ملامحي بقوة و أنا أستدير لذلك الشاب طويل الطلعة و مليح الوجه و حاد العيون كأن سهم إخترقني و هو يرفع سبابته نحو أزهاري الجميلة

" لا تقطفيها "

عقدت حتجباي بنوع من التهكم و أنا أقول رافعة أنفي للسماء لدرجة تكاد تُكسر بها رقبتي

" هل تأمرني ! "

و كانت نبرتي مغلفة بإستنكار أكثر من كونه سؤال إعتلت ملامحه السخرية و هو يجيب

" إعتبريه كذلك .."

و للحظة طغت علي فكرة واحدة ..هذا الشاب يتحداني

تكلمت بنبرة مدافعة

" لكنني أحببتها و أريد أخدها .."

كتف يديه وراء ظهره و هو ينافسني بإرتفاع أنفه للحظة سأحرم من الإطلاع على وجهه المليح

"لو أحببتها لإعتنيتِ بها، لا قتلها بقطفها "

عاندته بعقد يداي أمام صدري و أنا أدافع عن ما لا أدركه

" موتها آتٍ لا محالة إما الآن أو غداً..تقطف الآن أو تذبل غداً ..أيهما أحسن ؟ "

و دون أن يفكر أجاب ناطقاً بنبرة حادة كنخجر عينيه

"تذبل غداً؟!"

إزداد إنعقاد حاجباي و أنا ألوح بيمني متسائلة

"سيحيى شغف الإعتناء بها حتى غداً "

"هل موت وردة واحدة يفقد شغف الإعتناء بكثير غيرها "

هز رأسه نافياً و يديه المتشابكتين وراء ظهره كعجوز و هو يقول بنبرة هادئة

" الفرد هو المجتمع و المجتمع هو الفرد "

و قبل أن تسنح لي فرصة التكلم إستدار رأسي نحو فاطمة التي تصيح بإسمي على بعد أمتار و يدها تلوح بقبعتي..و دون أدنى شعور كانت يداي فوق رأسي و حاجباي مرتفعان و أنا أهمس لنفسي

" وقعنا بمشكلة يا صوفيا .."

و للمرة الثانية أطلقت الريح لرجلاي ..

قصصحيث تعيش القصص. اكتشف الآن