-٢-
*لسعات الشتاء الباردة*تجعلنا الحياة نتذوق لذة العِشق، نذوب بمن نعشقهم، نغرق بالعشق حتى أننا لم نُلاحظ أن هناك ساعة سيتوجب علينا الأفتراق بها بإرادتنا أو رغمٍ عنا، يَعمينا الحب عن رؤية حقيقة أن لكل بداية نهاية، ليس شرطًا أن تكون النهاية سعيدة كالأفلام، مُمكن أن تكون مؤلمة، حارقة، حارقة كجمراتٍ من نيرانٍ وأنت تقبض عليها بين قبضتك ومهما تعالت صرخات آلامك لا تستطيع تركها، تشعر بألمٍ يجعلك تتساءل لماذا وضع الله كل هذا الحب بقلبك إذا كان سيجعلك تتجرع مرارة الفراق وبهذه الطريقة البشعة!
أغمض " يونس " عينيه على دمعة حارقة غافلته وسالت على وجنته، لكن هذه الدمعات التي تغافله بين الحين والأخر لا تشفي آلام قلبه المكلوم، يرزح تحت وطأة الألم منذ وفاتها أو بمعنى أصح مقتلها، لقد قُتِلت الأنسانة الوحيدة التي أحبها منذُ أن تعلّم معنى الحب، تركته يتجرع مرارة الفقد وحده..=بابا أنا جيت.
ليس وحده تمامٍ بل هُناك روحٍ أخرى بريئة عرفت معنى أن يصبح الأنسان يتيمًا مُبكرًا جدًا، فتح " يونس " عينيه ليُطالع طفله الحبيب " يوسف " قطعة منه ومنها، قطعة أخذت جميع ملامحه و.. وعيناها، أبتسم لطفله أبتسامة واهية قائلًا بنبرة ضعيفة وهو يفتح ذراعيه ليركض الصغير نحوه ويستقر بين أحضانه براحة:- حمدلله على سلامتك يا حبيبي، أتبسطت عند خالتو " سالي "!
أومئ الصغير برأسه قائلًا بنبرة بريئة:- أيوة بس " مازن " و " ريتاچ " ولاد خالتو " سالي " قالولي حاجة ضايقتني.
عقد " يونس " حاجبيه قائلًا:- حاجة إيه يا حبيبي!
لمعت عينا الصغير بعِبرات تُهدد بالتحرر من سجنها ثُم همس قائلًا بنبرة حزينة:- قالولي إني مش هشوف ماما تاني، مش أنت قولتلي إنها مسافرة وهترجع.
أغمض عينيه بألمٍ، آلامه تتضاعف بشدة ولا طاقة لهُ لمواجهتها، يُريد أن يختفي عن العالم أجمع ويبكي، يصرخ، يحطم كل ما حوله لكن ما يمنعه هو " يوسف " الصغير الذي تبقى لهُ منها، كما أن مازال عليه أن يأخذ بثأرها، دفن وجهه بخصلات شعر الصغير يستنشقها ثُم فتح عينيه بعد أن أخذ نفسٍ عميقٍ وهمس قائلًا بنبرة حانية:- " يوسف " أنت كبير دلوقتي ولازم تعرف الحقيقة اللي مش هقدر أخبيها عليك كتير.
أعتدل الصغير صاحب الست سنوات ونظر إلى والده ببراءة لكنه هتف قائلًا بنبرة جادة وكم كان يشبهه وقتها:- أنا فعلًا كبرت وممكن تحكيلي كل حاجة ومتخافش مش هعيط.
أبتسم " يونس " أبتسامة حزينة، تفوح منها رائحة الألم ثُم أردف قائلًا بنبرة هادئة:- مش أنت حبيبي عارف إن ربنا هو اللي خلقنا، ربنا بيخلق كل إنسان عشان ليه رسالة على الأرض، خلقنا عشان نعمرها، ولما رسالتنا دي بتخلص بيرجع ياخدنا عنده تاني، ودلوقتي ماما خلصت رسالتها وراحت عند ربنا.
أطرق الصغير برأسه قليلًا يفكر في حديث والده ثُم رفع أنظاره نحوه قائلًا بتساؤل:- طب إحنا مش هنشوفها تاني؟
تحكم " يونس " بدمعة كادت أن تتحرر من سجنها وتسيل أمام الصغير ثُم نفى برأسه قائلًا بخفوت:- لا مش هنشوفها تاني بس هي شايفانا وحاسة بينا.
أطلق الصبي صيحة حماس قائلًا:- شايفانا، يعني هي شايفانا دلوقتي وإحنا بنتكلم!
أشفق عليه بشدة لذلك هتف قائلًا بأبتسامة بسيطة:- أيوة شايفانا وهتكون مبسوطة أوي لو شافتك كويس، بتاكل أكلك، وبتذاكر دروسك، وبتروح التمرين، والأهم من دة كله هتتبسط أكتر لو شافتك مبسوط ومش بتعيط.
نظر الصبي حوله ثُم صاح قائلًا ببراءة:- أنا هسمع الكلام وهاكل أكلي وهذاكر ومش هعيط أبدًا يا ماما عشان تبقي مبسوطة مني، بس ممكن تجيلي في أحلامي.
تواثبت دقات قلب " يونس " أصبحت آلامه لا تطاق، لا يستطيع التحمُل، يشعر بالأختناق بهذه اللحظة تحديدًا، شعور بالذنب يجتاحه كلما فكر أنها قُتِلت بسببه هو، كان يجب أن يموت هو لا هي، حاوط جسد الصغير بذراعيه ثُم طبع عدة قبلات على رأسه قائلًا بحنو:- طبعًا يا حبيبي هتجيلك في أحلامك، عشان تقولك أنت قد إيه طفل جميل وهي بتحبك.
نظر إليه الصغير بأبتسامة لطيفة قائلًا بنبرة طفولية:- وأنا كمان بحبها أوي وبحبك أنت كمان يا بابا.
أبتسم لهُ وكاد أن يجيب عندما صدح صوت رنين جرس المنزل، أنتفض الصغير من بين أحضان والده وركض نحو الباب ليفتح ثُم يعلو صوت صياحه قائلًا بسعادة:- تيتة " زينب " وجدو " توفيق " هنا.
مسح " يونس " وجهه ورسم أبتسامة زائفة على شفتيه وهو ينهض مُرحبًا بوالديه وبعد تبادل التحيات جلس ثلاثتهم بغرفة المعيشة بعد أن طلب " يونس " من " يوسف " أن يتوجه إلى غرفته لكي ينهي واجباته المدرسية، بدأت السيدة " زينب " الحديث قائلة بنبرة حزينة على حال ولدها الوحيد:- وبعدين معاك يا " يونس "، هتفضل على الحال دة لغاية أمتى!
أبتسم أبتسامة واهية قائلًا:- مالي، مانا زي الفل أهو.
هتفت قائلة بنبرة أمومية حنونة:- أوعى تفتكر إن الضحكة اللي مرسومة على وشك دي هتخدعني، أنا أمك وأكتر واحدة فهماك، حبيبي " سارة " فات على وفاتها أربع شهور دلوقتي وأنت زي ما أنت حابس نفسك في البيت ومش بتشوف حد ولا حد بيشوفك.
تنهد " يونس " بضيق قائلًا:- عايزاني أعمل إيه، أنزل أخرج وأتفسح وأقضيها بالطول والعرض وأنسى مراتي اللي دمها لسة مبردش، ولا أنسى أنها ماتت بسببي وكان المفروض أكون أنا اللي مكانها دلوقتي.
تدخل السيد " توفيق " بالحديث قائلًا بجدية:- مفيش داعي تكلم والدتك بالأسلوب دة، هي مقالتش حاجة غلط، ولا بتقولك عيش حياتك وأنسى مراتك، بس على الأقل أنزل شغلك، مكتبك اللي متعرفش حاجة عنه من شهور دة مش جيه الوقت اللي ترجع تهتم بيه، لو مش هتعمل كدة عشانك أعمل كدة عشان إبنك اللي أكيد مستغرب من شكلك وقعدتك في البيت وأكيد هيجي يوم ويسأل.
أغمض عينيه بتعب، يشعر بآلام نفسية وجسدية لا توصف، يريد أن تنتهي هذه الدوامة ويكون كل ما حدث ويحدث حتى الأن مجرد كابوسٍ بشع وسيستيقظ منه ليجدها بجانبه تبتسم لهُ أبتسامتها التي يعشقها فيذوب معها في بحر الغرام، فتح عينيه ونظر إلى والديه اللذان يطالعانه بقلق بالغ، تنهد قائلًا بنبرة بألم لا يعرف طريقٍ لشفائِه:- أنا أسف، أنا حقيقي مش قادر أخد خطوة، مش عارفة أتخطى اللي حصل، عايز شوية وقت بس وأكيد هرجع تاني وأشوف شغلي.
حاولت السيدة " زينب " أن تتحدث وتعود لأقناعه لكن السيد " توفيق " قبض على كفها ليمنعها ثُم نظر إلى ابنه قائلًا بنبرة حانية واثقة:- أنا عارف إني خلفت راجل قوي يقدر يواجه أحزانه بشجاعة ويهزمها مش شخص ضعيف بيستخبى ويعيط في الزاوية، خُد كل الوقت اللي محتاجه المهم ترجع تاني وأقوى من الأول.
أومئ لهُ " يونس " وهو يبتسم أبتسامة بلا معنى، كيف سيعود أقوى من ذي قبل ومن كانت مصدر قوته ذهبت بلا عودة، ذهبت وتركته يُعاني من لسعات الشتاء الباردة بمفرده دون مصدر للدفء، كيف سيواجه الحياة بدونها، فقط لو يعرف كيف....
أنت تقرأ
عالمان
Romance" الشيطان يمتلك الكثير من الأيادي كــالأخطبوط، إذا قُمت بقطع واحدة تجد أخرى تلتف من حولک، احذر تلك اليد الخبيثة التي تمسک بک، قد تكون نجاتک أو هلاکک.. "