الفصل الثالث عشر

132 17 5
                                    

                                     -١٣-
                    *خفقات قلب يأبى النسيان*

" وكأنکِ شمسي الخاصة، كُلما تغيبين تعودين من جديد لتنشري أشعتکِ الدافئة بكوكبي البارد، تُضيئي ظلامي بضوئکِ الوهاج، لا تهجريني شمسي وتجعليني أعود إلى عُزلتي الموحشة.. "

لقد أصبح على حفا شعرة أو أقل من الجنون، التفكير لا يرحمه والأسئلة تنهش عقله من كثرتها ولا يجد أجابةٍ لها، ما يعيشه الأن هو الجنون بحد ذاته، خرج من المنزل البسيط دون أن يجيب على نداء السيدة المُسنة، استند على حائط البناية من الخارج بتعبٍ، يلهث بعنفٍ وأنفاسٍ مسموعة، أغمض عينيه يحاول أن يهديء من روعه ويتماسك حتى يستطيع أن يفكر بشكلٍ سليم، بعد مرور عدة دقائق كان قد تماسك قليلًا لذلك أول ما فعله هو أنه هرع نحو سيارته وأستقلها سريعًا ووجهته معلومة، وصل إلى منزله ولم يهتم حتى بصف السيارة بمكانها، ركض بخطواتٍ سريعة نحو الطابق الذي يعيش بهِ، توقف أمام باب منزله يلهث بعنفٍ، هو لا يفتح باب منزله الأن بل يفتح باب الجحيم، أخرج مفاتيحه وقام بوضع المفتاح بالباب، تنهد تنهيدة متعبة فور أن أستمع إلى صوت الباب يُفتح، دلف إلى الداخل بخطواتٍ هادئة حتى لا يثير فزع صغيره، كما توقع وجدها بمنزله تلعب مع صغيره الذي عاد من المدرسة منذُ قليل، رأها الصبي وركض نحوه قائلًا بسعادة:- بابا جيت بدري النهاردة يعني.
لم يقوى " يونس " حتى على حمله بين ذراعيه، نظر إليها وهي تعطيه ظهرها ولم تنظر نحوه حتى الأن لكنه أستطاع أن يلمح أهتزازة جسدها فور أن علمت بوجوده، رأها تنهض وتلتفت لتنظر إليه بأبتسامة هادئة قائلة:- حمدلله على السلامة يا أستاذ " يونس ".
حتى لو أختلفت الملامح، لو أختلف الصوت لا يمكن أن يغيير من حقيقة الأمر شيءٍ، نظر إلى طفله ثُم هتف قائلًا بنبرة مُتحشرجة:- روح كمل لعب يا " يوسف ".
ركض الصبي نحو ألعابه بينما هي وقفت أمامه تتطلع نحوه قليلًا بعينيها الرمادية المُزيفة بالطبع وعندما لم يتحدث همست قائلة بتساؤل:- حضرتك نازل تاني ولا هتفضل موجود مع " يوسف "؟!
لم يُجيبها على الفور بل نظر إليها نظراتٍ مُبهمة جعلتها تتوتر وبعد صمت دام لدقيقة أو أكثر همس قائلًا:- قاعد.
أومأت لهُ قائلة بهدوء:- طيب همشي أنا، " يوسف " أتغدى وأخد الشاور بتاعه، حضرتك عايز مني حاجة تانية!
لم يجيبها وعندما يأست من أن يجيب ألتفتت لترحل لكنها تجمدت بمكانها عندما صدح صوته القوي قائلًا بنبرة صلبة:- " علياء "!
رفع الصبي نظراته بلهفة ليرى " علياء " لكنه لم يجد سوى " ورد " ووالده، سلط نظراته البريئة عليهما وراقب ما يحدث، تجمدت بمكانها ولم تعرف ماذا يجب عليها أن تفعل، تواثبت دقات قلبها برعبٍ، أنتفض جسدها بتوتر زاد أكثر فور أن شعرت بهِ يقترب منها ويلتف حولها حتى وقف أمامها مباشرةً، رفعت أنظارها نحوه لكنها لم تجد سوى الغموض والجمود، أبتسم قائلًا بسخرية:- كنتِ فكراني مش هعرف ولا إيه! بس أحب أحيکِ أنا فعلًا مكنتش هعرف لو مكنتش مشيت وراکِ النهاردة وإنتِ خارجة من شغلك لغاية الحارة اللي روحتيها.
أغمضت عينيها تتمنى لو تختفي من أمامه الأن لكن ليست هي من تُعنف أو يُرهبها أحدهُم وتصمت، وبمنتهى الهدوء فتحت عينيها ونظرت إليه بلا تعبير ثُم رفعت ذراعيها نحو وجهها وبحذرٍ قامت بخلع القناع المُزيف الذي ترتديه عن وجهها لتظهر " علياء " أمام " يونس " وطفله الذي بمجرد أن رأى ما حدث شهق بصدمة ولم يعُد يستوعب ما يحدث لكنه صمت ولم ينطق بحرفٍ على الرُغم من أشتياقه لها، ثُم قامت بخلع الشعر المستعار لتنساب خصلاتها بحرية على ظهرها وبعدها قامت بخلع العدسات الطبية اللاصقة التي ترتديها ليظهر لون عينيها الطبيعي، نظرت " علياء " إلى " يونس " المذهول قائلة بنبرة ساخرة كسخريته:- وأهو أنت عرفت، براڤو عليک.
أستشاط غضبٍ من سخريتها وأستهتارها بالأمر، لم ينتبه إلى وجود طفله وهدر قائلًا بشراسة:- إنتِ مصنوعة من إيه فهميني، مش حاسة بالكارثة اللي إنتِ عملتيها! إنتِ بقالك شهور بتلعبي بيا.
فزع الصغير إثر صراخ والده، نظرت إلى " يونس " بغضب ثُم أعادت نظراتها إلى " يوسف " قائلة بأبتسامة ناعمة:- " يوسف " حبيبي إيه رأيك تدخل أوضتك دلوقتي عشان أنا وبابا بنتكلم وأوعدك أول ما هنخلص كلام هاجي وأكمل لعب معاك.
لم يجادلها الصغير بل ركض نحو غرفته حتى تنتهي تلك المناقشة الغريبة التي أخبرته بها " ورد " أو " علياء " لا يعلم تحديدًا، بينما هي عادت ملامحها إلى الجمود مرة أخرى وهي تنظر إليه قائلة ببرود:- بتقولي إني لعبت بيک، صح!
نظر إليها صامتٍ ينتظر أن تُلقي ما بجبعتها وبالفعل رأى نظراتها تتحول إلى أخرى شرسة ثُم همست قائلة بنبرة حادة لكنها لم تخلو من الألم:- أنا اللي لعبت بيک! أنا اللي دخلت حياتك وعاملتك كبديل لحُب قديم راح وأنتهى، أيوة أنتهى يا " يونس "، "  سارة " ماتت ومبقاش ليها وجود.
إذا كانت تعتقد أنهُ سيثور ويغضب لأنها تخبره أن حبيبته ماتت ولم تعُد موجودة إذًا فهي مُخطئة، لم تتغيير تعبيرات وجهه أو يبدي أي ردة فعل سوى أنه همس قائلًا بنبرة خافتة:- الله يرحمها.
تعترف أنها أجفلت قليلًا من ردة فعله لكنها لم تترك نفسها لمشاعرها وأفكارها الأن، عليها أن تخرج من هذا المأزق، أبتسمت قائلة بسخرية مريرة:- الله يرحمها! بجد مقتنع أنها ماتت، " سارة " ماتت بالنسبة للعالم دة بس لسة عايشة جواك، أنت كنت عايز تفضل عايش معاها من خلالي، مش شايفني أنا شايفها هي.
كانت تلهث من فرط أنفعالها، صمتت حتى تهدأ قليلًا وقبل أن تتحدث مرة أخرى هتف هو قائلًا بنبرة هادئة هدوء ما قبل العاصفة:- هو إحنا ليه بنتكلم عن الست اللي بين إيدين ربنا دلوقتي، مش المفروض برضه نتكلم في المصيبة اللي حضرتك عملتيها!
أتسعت عينيها بعدم تصديق لهدوئه الذي يتحدث بهِ الأن، لكنها همست قائلة بنبرة حادة:- أنا معملتش حاجة غلط، أنا بعمل شغلي ومش من حقك تلومني على دة.
هدر قائلًا بجنون:- شغل إيه اللي بتتنيلي تعمليه! إنتِ بترمي نفسك في حضن الخطر والمصايب وبتقولي شغل! فاكرة نفسك هتغييري العالم لوحدك!
لم تجيب بل نظرت إليه ببرود جعله على وشك أن يفقد أعصابه، غطى وجهه بكفه يحاول أن يهدأ حتى لا يقتلها وبعد دقيقة نظر إليها بملامح أكثر هدوءًا قائلًا بنبرة جادة:- أنا عايزك تقعدي دلوقتي وتحكيلي كل حاجة من أولها، كل حاجة يا " علياء " من غير ما تخبي عليا تفصيلة واحدة.
هزت رأسها برفض قائلة بهدوء مُغيظ:- مينفعش، دي أسرار شغل ومينفعش أقولك عليها.
اقترب منها خطوة سريعة جعلتها تجفل وتتراجع عدة خطوات إلى الخلف مما جعله يقف مكانه ينظر إليه بغضب، ألتفت حوله وبدأ يركل الأثاث بقدمه وهو يتفوه بألفاظٍ لم تسمعها من قبل، بعد قليل كان قد عاد إلى هدوئه من جديد، نظر إليها رأها تنظر إلى ثورته ببرودها الجديد عليها كليًا وكأنها تنتظر أن تنتهي تلك المسرحية السخيفة لترحل، اقترب منها حتى توقف على بُعد خطوة واحدة فقط ثُم تنهد قائلًا بأكثر نبرة هادئة يمتلكها:- بصي يا " علياء " إنتِ مش قدامك غير حل واحد وهو إنك تقعدي وتحكيلي كل حاجة من البداية، يأما صدقيني مش هتشوفي الشارع تاني حتى لو طلبوا البوليس ووقف برة البيت عشان يخرجوکِ من هنا مش هيحصل يا " علياء ".
نظرت إليه بتفحص تستشف مدى جديته وعندما دققت النظر بملامحه أدركت أنه جاد تمامٍ، لذلك تنهد بأرهاقٍ ثُم توجهت نحو أريكة الصالون وجلست عليها ثُم بدأت تقص عليه القصة كاملة من البداية، وبعد أن أنتهت من سردها كان هو على وشك أن يقتلها من شدة غضبه منها، هدر قائلًا بنبرة قوية كالزلزال:- إنتِ أكيد مجنونة، إزاي تعملي حاجة زي كدة، إزاي تروحي بنفسك لغاية عندهم وتبقي واحدة منهم، إنتِ فكراهم هيسموا عليکِ لما يكشفوكي!
نظرت إليه من جلستها ثُم همست قائلة بخفوت:- أنا مش لوحدي، " مراد " معايا وبيكون في رجالة من الشرطة معايا كل مرة كنت بروح أقابل فيها " رشاد "، يعني الموضوع أمان.
أتسعت عيناه على وسعهما قائلًا بذهول:- أمان، إنتِ إيه مفهومك عن الأمان بالظبط!
زمت شفتيها بضيق ولم تجب بينما تنهد بعمقٍ يحاول أن يسترد أنفاسه الهاربة منه، بعد ثوانٍ نظر إليها ليراها شاردة بحزنٍ وهي تتطلع بالمكان من حولها، جلس على ركبتيه أمامها وألتقط كفيها بين كفيه ثُم نظر إليها قائلًا بترجي:- " علياء " حاولي تسمعيني وتفهميني، أنا مش هقدر أخسرك، أنا خسرت مرة واحدة وكنت على وشك إني أتدمر لولا إنتِ ظهرتي في حياتي، أرجوکِ يا " علياء " أبعدي عن الموضوع دة عشان أرتاح.
تأملت ملامح وجهه التي تنضج بالحُب لكن بالتأكيد ليس حُبها هي بل حب " سارة " التي يراها بملامحها، همست قائلة بنبرة باهتة:- إزاي كل المرات اللي جيت فيها بيتك مشوفتش صور لـ " سارة " ولا مرة!
أجفل قليلًا من سؤالها المفاجيء لكنه أجاب قائلًا بهدوء:- أنا شيلت كل صورها اللي في البيت بعد وفاتها عشان " يوسف " كان كل ما بيشوف صورها بيعيط، الصور موجودة بس في أوضتي ومعتقدش إنك دخلتيها قبل كدة عشان تشوفيها.
ألمها قلبها بشدة لكن هي من تعمدت هذه المرة أن تتألم، يجب أن تتألم حتى تستيقظ من دوامة عشقه، شعر بكل ما تعانيه لذلك همس قائلًا بلهفة وهو يرغب في أن يمتص كل آلامها لكي ترتاح هي:- متوجعيش نفسك أكتر، أنا كنت غبي لما فكرت إنك إنتِ وهي واحد، بس طلعت غلطان إنتِ مش هي خالص، جايز شبه بعض في الملامح بس الشخصيات مختلفة، روحك مختلفة يا " علياء ".
سحبت كفيها من بين كفيه بعد أن رمقته بنظرة مجروحة وكأنها تخبره عن خذلانه لها ثُم همست قائلة بحزنٍ وهي تنهض من مكانها:- أنا لازم أمشي.
تحركت بخطواتها المرهقة نحو باب المنزل لكنها تجمدت مكانها بصدمة عندما شعرت بأصابعه تتمسك بكتفيها، يقف خلفها مباشرةً ويكاد أن يلمسها بينما أنفاسه الساخنة كانت قريبة جدًا من بشرة وجهها البارد، أرتعش جسدها بتوتر وأرتفعت وتيرة أنفاسها حتى أنها شعرت بأنها عاجزة عن التنفس، أغمضت عينيها بعد أن سمعته يهمس قائلًا بنبرة رجل عاشقٍ حد النخاع:- أنا بحبک، بحب " علياء " اللي عرفتها في خناقة، " علياء " الصحفية البنت المسترجلة اللي بتركب موتسيكل ومش مهتمة بنظرات الناس أو كلامهم، وحبيت " علياء " الطفلة الرقيقة الضعيفة اللي نفسها حد يحس بيها ويكون سند وأمان ليها، حبيتك وإنتِ بتتخانقي وصوتك عالي، وحبيتك وإنتِ ضعيفة وبتعيطي، حبيت ضحكتك، وشعرك الأسود الطويل المجنون اللي بيطير حواليکِ طول الوقت، حبيت لون عينيك اللي شبه عيون الغزلان، حبيت كل تفاصيل " علياء " ومش عايز غير " علياء ".
تراجعت خطوة إلى الخلف إثر الدوار الذي أصابها بسبب كلامه لتستند عليه وهي تلهث بعنفٍ من هول ما تشعر بهِ الأن بينما هو تلقفها بين ذراعيه بقوة، حاوط جسدها الصغير بين جسده الضخم يسندها ويدعمها بكل قوته وكأنه يخبرها إذا كنتِ على وشك السقوط أنا جدارك الصلب الذي ستتكأي عليه، دفن رأسه في خصلات شعرها من الخلف يستنشق عطرها ولم يتحدث ولا هي حتى حاولت وكانت تلك اللحظة من أجمل اللحظات التي مرت عليهُما سويًا منذُ بداية علاقتهما....

عالمانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن