الفصل الثالث

217 21 12
                                    

                                   -٣-
                                 *مــاذا لــو*

في بعض الأحيان يصعب عليک تصديق كل ذلك الكم من البشاعة من حولک، هل يجب أن تعيش كل هذه الأوجاع! حتى لو لم تكُن أوجاعها هي بالفعل بل هي مجرد قضايا أصبحت تغرق بهُم كل يوم عن الذي قبله، تتأثر بما تراه وتعلم أن تأثُرها لن يحدث فرقًا، تتجلد بسلاح القسوة لكن من داخلها هي هشَّة وضعيفة للغاية، وقفت " علياء " أمام نهر النيل تتأمل حركة المياه الرتيبة، شاردة في هذا الجمال البديع، لطالما عشقت الوقوف أمام هذا النهر العظيم، تعلم أن بداخله ثائر لكنه خارجيًا هاديء، يشبهها بالضبط، هي أيضًا تبدوا من الخارج هادئة، قاسية لكنها من الداخل ثائرة ترغب في تحطيم أي شيء وكل شيء، لماذا يجب على هؤلاء الأبرياء الصغار أن يقعوا تحت وطأة مصيرًا كذلك المصير، أن يتعذبوا كل هذا العذاب على أيدي هؤلاء الوحوش، تنهدت بغمٍ ثُم همست قائلة بعزمٍ:- لازم أوصل لزعيم الشبكة هنا في مصر على الأقل عشان أحس إن ناري بردت شوية.
أنهت حديثها وصدح صوت رنين جرس هاتفها، أخرجت الهاتف من جيب سترتها الصوفية وأجابت على المتصل، أستمعت إلى الحديث على الطرف الأخر وبعد أن أنتهى صمتت هي لثوانٍ معدودة ثُم أجابت قائلة:- مممممم، تمام أنا جاية دلوقتي.
أغلقت الخط وتوجهت نحو دراجتها النارية، أستقلتها وأنطلقت بأقصى سرعة تمتلكها نحو مركز الشرطة، وصلت إلى هُناك وبمجرد أن دلفت إلى المكان لاحظت حالة التوتر السائدة بالمكان لكنها لم تعلق، توجهت نحو مكتب الضابط " مراد " الذي بمجرد أن لمحها أبتسم بسخرية قائلًا:- متوقعتش تيجي بالسرعة دي، الظاهر إنك مجندة حد كفاءة في القسم هنا.
جلست على المقعد المقابل لمكتبه ووضعت ساقًا فوق الأخرى قائلة بأبتسامة ساخرة تشبه خاصته:- هو أنت فاكرني بلعب أو عندك شك في قدراتي ولا إيه!
تنهد بتعب فهو في مزاجٍ لايسمح لهُ بمجاراتها بأفعالها الأن لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يهتف قائلًا بغيظٍ:- في يوم من الأيام هحطك بإيدي في الحبس إنتِ واللي بيوصلك الأخبار.
رمقته بنظرة أستخفاف وتجاهلت حديثه كليًا قائلة بجدية:- الأخبار الأخيرة دي معناها إن حادثة المحامي اللي ماتت فيها مراته بفعل فاعل، صح!
أجاب قائلًا بعملية:- اللي وصلنا ليه إن المحامي قبل الحادثة بفترة كانت بتوصل ليه تهديدات كتير، تحديدًا من أول ما بدأ يبحث في القضية دي بس هو تجاهلها تمامًا، ومن بعد الحادثة وهو أختفى.
أتسعت عيناها بصدمة قائلة:- مات!

=لا، المعلومات اللي وصلتلي بتقول إنه بيعاني من حالة أكتئاب شديدة، اللي عرفته كمان إنه كان بيحب مراته جدًا ومتعلق بيها أوي عشان كدة مقدرش يستحمل صدمة موتها، مختفي عن كل اللي حواليه تقريبًا هو وابنه.

ارتفع حاجبيها بصدمة قائلة:- ابنه! هو عنده ابن!
لم يكُن هذا الجزء موجود بالملف الخاص بهِ، أومئ لها قائلًا بهدوء:- أيوة عنده ابن، قدرنا نعرف إنه قبل الحادثة بيوم وقع تحت إيده ملف فيه دليل عن شخص مهم متورط في القضية دي.
عقدت حاجبيها قائلة بتساؤل:- وقدرتوا تعرفوا مين الشخص دة؟!
حرك رأسه نافيًا قائلًا:- لا للأسف، بس لو الملف اللي مع المحامي دة قدرنا نوصله هنقدر نعرف هو مين وكمان هيكون دليل قوي في إيدينا يقدر يوصلنا للشبكة كلها اللي موجودة في مصر.
صمتت " علياء " قليلًا تفكر في هذا الحديث، أمامها طريقة واحدة حتى تستطيع أن تصل إلى ذلك الملف، نظرت إلى " مراد " قائلة بجدية:- أنت عارف إننا حتى لو قدرنا نوصل للشبكة الموجودة في مصر يستحيل هنقدر نوصل للي برة مصر كمان.
تراجع بظهره إلى الخلف ثُم تنهد بضيقٍ قائلًا:- للأسف عارف، موضوع بيع أو خطف الأطفال دول مش بيتم في مصر بس، دة البيع أو الخطف بيحصل في دولة، والضحية بتتهرب على دولة تانية، والفيديوهات دي بتتصور في دولة تالتة خالص، ومش كل الدول للأسف في بينهم أتفاقيات تسليم المجرمين أو حتى في بينهم تعاون، المجرمين دول أذكية جدًا وعارفين هما بيعملوا إيه وعارفين صعوبة إنهم يتمسكوا في وضع زي دة.
ازداد ضيقها من كل شيءٍ، مقدار الألم الذي تشعر بهِ الأن مُميت، كانت تعرف أن الأمر ليس بمثل هذه البساطة، تعرف أنها لن تستطيع أن تصل إلى الأيادي الخفية البعيدة التي تتلاعب بزمام الأمور، تعرف أن هذه الجرائم ستستمر إلى يوم الحساب وهي ليس بيدها شيءٍ لتفعله أكثر مما تفعل، ظهر الحزن جليًا على محياها الجميل، يتأملها وهو جالسٍ أمامها يبدوا عليه التفكير بالقضية هو الأخر لكنه يتأملها هي، يعترف أنها جذابة لكنها أنثى قوية أكثر من اللازم وهذا ما لا يفضله، ليس حبًا في النساء الضعيفات ولكنه يرغب في أنثى هادئة، حنونة، ناعمة و " علياء " أبعد ما تكون عن هذه الصفات، ها هو ينظر إليها ويتأمل حزنها، حتى بحزنها قوية وصلبة، ترى كل يوم أبشع الأمور بسبب عملها لكنها لم تنهار بل تواجه كل شيء بقلبًا ميت وروحًا قاسية، صلبة، عاد من شروده على صوتها المشاكس وقد نفضت عنها حزنها قائلة:- مش خايف وأنت بتحكيلي كدة أروح أنشر كل حاجة عندي في الجريدة.
تأملها بنظرة سريعة حتى توقفت نظراته عند شفتيها المُبتسمتين قائلًا بنبرة جافة:- معتقدش إنك من الشخصيات اللي بتخلف وعدها يا أنسة " علياء "، دة غير إن أي معلومات هتتنشر دلوقتي مش في صالحك وإنتِ عايزة توصلي للمجرمين دول النهاردة قبل بكرة، والأكيد إنك مش هتخاطري وتنشري عشان حتت سبق صحفي هياخد يومين وسط الناس ويتنسي.
تحولت أبتسامتها إلى أخرى هادئة ثُم أومأت برأسها دون حديث، بعد الحديث عن بعض العمل نهضت من مكانها قائلة:- أنا هستأذن بقا عشان أتأخرت.
هتف " مراد " قائلًا بجدية:- بتمنى يا أنسة " علياء " إنك متفكريش تاخدي خطوة من غير ما ترجعيلي وأفتكري إننا بنشتغل مع بعض مش ضد بعض.
رمته بغمزة شقية قائلة بمرحٍ:- أعتبر دة أعتراف غير مباشر منك بقدراتي كصحفية.
رماها ببسمة مُستخفة ولم يجيب، ضحكت هي ضحكة تشبه زقزقة العصافير وألقت السلام وهي تضع حقيبتها على كتفها وترحل، رحلت تاركة إياه غارقٍ في عمله الذي لا ينتهي....

عالمانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن