الفصل الرابع عشر

142 15 4
                                    

                                      -١٤-
                     *داء الــــقــــلــــب ودوائه*

" شعرة فاصلة بين الحياة والموت، لحظة واحدة تكاد بها أن تتوقف ضربات قلبک، يختفي نبضک، لحظة واحدة تكاد بها أن تفقد حتى نفسک، ثُــــم ينظر الله إليک فــــتــــنــــجــــو.. "

لا يعلم كيف وصل إلى المشفى سليمٍ، لقد كاد على وشک أن يلقي حتفه أكثر من مرة على الطريق من شدة هلعه عليها، بعد أن خرج من منزلها شعر أنهُ تسرع بردة فعله، " ياسمين " لم تكُن تستحق أن يتركها هكذا ويرحل، كان يجب أن يبقى ويتجاهل إهانات والدتها المستمرة لهُ، المرأة لا تحبه وهو يعرف هذا منذُ اليوم الأول، كان يجب أن يتحمل من أجل " ياسمينته " الغالية، لكنه بالنهاية رجلٍ حرًا ولا يقبل أن يُهان من قِبل امرأة حتى لو كانت والدة الأنسانة الوحيدة التي يحبها، بعدها قرر أن يهاتفها حتى يعتذر منها ويصالحها، لم تجيبه وذلك أصابه بالجنون وبعد ما يُقارب الساعتين وصله أتصال هاتفي من السيد " سمعان " يخبره بما حدث وأنه قام بنقلها إلى المشفى بسيارة الإسعاف، وها هو يجلس أمام الغرفة التي تنام بها بعد أن قام الأطباء بأنقاذها، يتجرع مرارة الذنب بمفرده، شعر بوالدها يجلس بجانبه وقد ظهر العجز والتعب على ملامحه مما جعله يبدوا أكبر من عمره الحقيقي بأضعافٍ، كان يستند بظهره على الحائط ينظر إلى باب الغرفة بعينان تلمعان بالعِبرات، همس قائلًا بنبرة خافتة متحشرجة:- أنا السبب باللي حصلها، مكنش لازم أمشي وأسيبها وأنا عارف إنها هتتضايق.
لم ينظر إليه السيد " سمعان " لكنه هتف قائلًا بخفوتٍ ضعيف:- لا أنت ولا هي السبب، أنا السبب عشان محطتش حد لمراتي من البداية، بنتي كانت هتضيع بسبب ضعفي مع " حفصة ".
أغمض " مراد " عيناه بندمٍ ثُم هتف قائلًا:- لو مكُنتش مشيت مكَنتش أنتحرت.
نظر إليه السيد " سمعان " قائلًا بنبرة قوية رغم الضعف الذي يشعر بهِ:- متحملش نفسك فوق طاقتها، أنا وأنت عارفين كويس إن أي راجل مكانك كان هيقوم يمشي بعد اللي حصل، أنا عايزك تجمد وتتماسك عشانها لما تفوق، بنتي هتكون محتجالك عشان تتخطى اللي حصل.
صمت لثوانٍ ثُم همس قائلًا بنبرة حزينة:- وبعدها لو حبيت تسيبها سيبها.
فتح عينيه سريعًا ثُم نظر إليه بنظراتٍ مُشتعلة بالإرادة والتصميم قائلًا بنبرة تُقطر قوة وعزم وعشق:- أنا مش هسيب " ياسمين " لأخر يوم في حياتي.
نظر إليه الرجل الأخر بتدقيق لثوانٍ ثُم أبتسم أبتسامة ضعيفة ولم يجيب، في تلك الأثناء خرجت الممرضة من الغرفة قائلة بنبرة عادية:- المريضة فاقت وطالبة تشوف والدها.
دلف السيد " سمعان " إلى غرفة ابنته بهدوء ثُم اقترب من فراشها وهو يتأمل جسدها المسجي عليه بضعفٍ أوجع قلبه عليها، فتحت عينيها بمجرد أن شعرت بهِ ونظرت إليه نظرات حزينة مُتعبة بينما عينيها عِبارة عن بركتين من الدموع، همست قائلة بصوتٍ ضعيف:- بابا!
أنحنى قليلًا حتى اقترب بشفتيه من جبهتها وطبع قبلة حانية عليها قائلًا بنبرة تقطر حزنٍ:- حمدلله على السلامة يا حبيبة بابا.
أبتعد عنها ونظر إليها قائلًا بعتاب:- كدة برضه يا " ياسمين "، حد يعمل كدة في نفسه يا بابا!
سالت عِبراتها على وجنتيها ثُم همست قائلة بنبرة واهنة:- أنقذتني ليه!
أتسعت عيناه بذهول وأجابها قائلًا:- أنقذتك ليه! أمال كنتِ عايزاني أسيبك تموتي!
بكت أكثر قائلة:- أنا عايزة أموت، مش عايزة أعيش تاني.
أنتفض قلبه ألمٍ عليها، نظر إليها بصدمة قائلًا:- عايزة تموتي، للدرجادي يا " ياسمين "!
أومأت برأسها بضعفٍ قائلة:- أيوة للدرجادي، أنا محدش بيحبني.
هتف قائلًا بلوعة قلب الأب:- أنا بحبك يا قلب أبوكي، وخطيبك بيحبك، إنتِ مش شايفاه قاعد برة وهيتجنن عليکِ إزاي.
أغمضت عينيها بشدة وتذرف المزيد من الدموع قائلة بمرارة:- بس ماما مش بتحبني.
تصنم السيد " سمعان " بمكانه ولم يعرف بما يجيب بينما هي أردفت بنبرة أشد مرارة:- عمرها ما حبيتني، أنا بحس بيها وبعدم حُبها ليا، أنا مش عايزة أعيش وأتجوز وأخلف أطفال يشوفوا مامتهم بتتهان طول الوقت من جدتهم وبيتقلل منها قدام كل الناس، مش عايزة أخلف أطفال ويجوا يحضنوا جدتهم تبعدهم عنها أو تعاملهم وحش طول الوقت زيي، و " مراد " ذنبه إيه في كل دة، أكيد هيجي يوم ويزهق ويسيبني، أنا مش عايزة أعيش لليوم اللي يسيبني فيه ويبعد عني يا بابا.
عجز الأب عن الحديث أمام كل ذلك المرار الذي تحمله ابنته بداخلها، دمعت عيناه بتأثر وحزنٍ على ما أوصلتها إليه المرأة التي أنجبتها، بتلك اللحظة صدح صوت " مراد " الهاديء قائلًا:- تسمحلي أنا أكمل من هنا يا عمي!
نظر إليه الرجل بعجزٍ لكنه أومأ لهُ وخرج من الغرفة تاركًا ابنته تتطلع إلى وجه خطيبها ببكاءً وألم، اقترب منها بخطواتٍ واثقة ثُم جلس على حافة الفراش قائلًا بنبرة تقطر ندمٍ:- أنا أسف.
أبتسمت " ياسمين " بسخرية مريرة قائلة:- مين اللي المفروض يتأسف من التاني!
أجاب قائلًا ببساطة:- أنا.
كادت أن تتحدث لكنهُ قاطعها قائلًا:- " ياسمين " ممكن تسمعيني ومتتكلميش.
أومأت لهُ برأسها بضعف لتسمعه يهتف بنبرة هادئة خافتة لا تخلو من عشقه لها:- أنا مش هتكلم في تصرفات مامتك لأن مهما أتكلم دة مش هيغير من الواقع شيء، أنا هتكلم عني أنا، بتقولي هسيبك وهزهق، صح! أحب أقولك إن دة عمره ما هيحصل، عارفة ليه! لأني ما صدقت لاقيتك، إنتِ البنت اللي عيشت طول عمري بدوار عليها وكنت مستنيها، " ياسمين " أنا مكنتش كدة، أنا مكنتش بالحنان والنعومة اللي بتشوفيهم معايا دول، طبيعة شغلي بتجبرني أكون خشن وعنيف ودة كان بدأ يظهر في شخصيتي العادية بس مجرد ما شوفتك حسيت إن قلبي أتحرك من مكانه، لما بشوفك بحس إني أنسان تاني، إنتِ بتطلعي كل الحلو اللي جوايا ودي حاجة عمر ما في واحدة غيرك قدرت تعملها.
صمت لثوانٍ يلتقط أنفاسه ثُم همس قائلًا بأبتسامة عاشقة:- أنا بحبك ومش هبعد عنك لأخر يوم في حياتي.
بكت " ياسمين " بشدة بعد أن استمعت إلى حديثه الذي ربت على قلبها وجعلها تهدأ وتستكين ثُم همست قائلة ببكاء:- وأنا كمان بحبك.

عالمانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن