الفصل السادس د-ما قبل الأخير]]
"الإيمان بالقُدرة يجعل منكَ أسطورة والإيمان بالعجز يؤدي إلى الموت؛ فكلٌّ يلقى جزاء ما آمن به. فقط اختر بماذا تؤمن أثناء طريقك!".
انقضى شهرٌ كاملٌ لا يوجد فيه جديد سوى ملاحقة الشرطة لهما وتفقد أثرهما في كُل ثانية ورفض "عزيزة" التحدث إلى ابنتها أو رؤيتها حتى فمنذ ذلك اليوم الذي عرفت فيه بزواجها من السفاح لم تنتظر ثانية وعادت إلى بيتها في الحال وحينما استجوبتها الشرطة عن سبب غيابها عن البيت ليومين قالت بأنها ذهبت للبحث عن ابنتها لدى أقاربها، لم تقتنع الشرطة بإجابتها ووضعت حراسة مُشددة على بيتها أربعٍ وعشرين ساعة، قصت "عزيزة" ما تعرفه بأكمله عما دار مع ابنتها وأنها بريئة من كل تُهمة موجهة لها ولكنها لم تدلي عن مكانهما لأحدٍ وهذا بالضبط ما سعت إليه سبأ حينما تزوجته؛ فإدلاء أمها عن مكانه يعني أذية ابنتها لذلك لم تفعل.
في غضون هذه الأحداث لم تحفل "عزيزة" مُطلقًا بأحوال ابنتها الصُغرى التي تذهب وتأتي من المدرسة باكيةً كُل يوم ثم تجلس بجوار والدتها وتكتب بمشاعر طفلة يخنقها شيء ما..
“حسن"
هكذا تخط بأناملها الصغيرة على ورقة كل يوم وتضع الورقة على حجر أمها التي تظل شاردةً طوال الوقت وحينما تنظر إلى الورقة تنظر بخواءٍ وتلقيها بعيدًا ظنًا منها أن ابنتها غاضبةً من أحد مدرسيها بالصف ولم تلحظ أبدًا نفسية ابنتها التي تسوء يومًا بعد الآخر.
ولكن هذه المرة حاولت أن تفهم مَنْ حسن؟! وما الذي يبكيها بقهرٍ هكذا كل يوم؛ لذا عقدت النية على الذهاب إلى المدرسة غدًا والبحث في الأمر الذي يزعج ابنتها.
•~•~•~•~•~•~•
إنها الساعة الثانية عشر تحديدًا بعد الظهر حينما فتح عينيه بإعياءٍ وراح ينظر إلى الفراغ من حوله وتذكر ليلة أمس وبكائها داخل غرفتها طوال الليل لأن والدتها لم تجب على اتصالاتها ولا ترغب في سماع صوتها.
تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ، فعقله ساخطًا على تصرفه الذي يهتم لأمرها؛ فمنذ متى وهو يحفل بمشاعرٍ الناس أو يلقى لها بالًا!!
استقام جالسًا على الأريكة ثم تحول بعينيه إلى غرفتها المغلقة طوال اليوم ولا تخرج منها أبدًا فلم تبصرها عيناه بالأمس على الإطلاق، فلم يجد بُدًا من دق بابها والاطمئنان عليها.
نهض بثُقل ملأ أطرافه واقترب من الباب وقال طارقًا عليه بخفة:
-إنتِ صاحية!!
رفعت رأسها الساقطة على ركبتيها وردت بنبرة خنقها البكاء:
-قولت لك إني مش جعانة!
تيَّم يزفر بحنقٍ:
-طيب افتحي وإلا هدخل!
صرخت على الفور تمنعه برفض:
-يعني أيه تدخل وأنا مش سامحة بدا.. سيبني في حالي بقى.. كُل وجع أنا فيه بسببك أصلًا.
اشتدت قبضته وراح يدق على الباب بحركة قوية ويتابع بصوت خشنٍ:
-اخرجي من الأوضة دلوقتي حالًا!
هبت من مكانها وأسرعت تنهض بغيظ كبير، اندفعت نحو الباب تفتحه ثم أردفت وهي تقف أمامه مُباشرةً:
-إنتَ فاكر إنك جوزي بجد.. تتحكم فيا زيّ ما إنتَ عايز!!
رمقها بنظرات نارية ثم صاح بملامح مُتشنجة:
-ما أنا فعلًا جوزك بجد.. وغضب عنك تطيعي أوامري.
سبأ وهي ترمقه بنظرات متحدية ثم تقول:
-دا مش هيحصل لأنك ببساطة سفاح وقاتل ودمرت لي حياتي وكسرت قلب أمي عليَّ.. حتى شبابي ودراستي وسمعتي قضيت عليهم.
أسرع بالقبض على ذراعها ثم قال بأنفاس مُشتعلة ينظر صوب عينيها بقوة:
-أنا سفاح وإنتِ حرمه.. دا واقع وعيشيه بقى زيّ ما هو.. ولا نسيتي إن دا كان قرارك قبلي.. أيه مكنتيش تعرفي إن دي النتيجة ولا افتكرتي إن أمك هتصقف لك وتقول لك براڤو كدا هنقدر نضمن وجوده!!
سبأ وهي تصرخ باكية في قهرٍ:
-إنتَ مؤذي.. الأذى النفسي اللي أنا فيه بسببك مش قادرة استحمله وطالما حياتي كلها هتفضل بالشكل دا يبقى الموت أهون عليا..
انتشلت ذراعها من بين قبضته ثم هرولت بسرعةً داخل المطبخ وراحت تلتقط السكين بانهيارٍ واستسلام وما أن وضعت يدها على السكين حتى كانت يديه قابضة على كفها وجسده مُلتصقًا بقوة في ظهرها.
-بلاش جنان!!
صرخت في هذه اللحظة بانهيارٍ وكأن العالم من حولها أظلم أو ربما هي فقدت بصيرتها على التمييز قبل بصرها، ظل مثبتًا إياها بين ذراعيه وللوهلة الأولى شعر برغبة جامحة في البقاء هكذا للأبد، كانت أنفاسه تلتقط عبير عنقها بصدمة ولا وعي بل وحالة من السُكر والانتشاء، راقه قربها واشتمام عبير شعرها، سبح خلف رغبته في القرب منها فلا إراديًا هز كفها حتى سقطت السكين على الأرض فأسرع بعقد ذراعيها أمام صدرها وضمها من الخلف طابقًا على ذراعيها بذراعيه، هدأت انفعالاتها قليلًا بينما عينيها لم تهدأ فراحت تذرف الدموع في صمتٍ بينما دفن هو أنفه بين عظام عنقها لتقول هي بصوت مخنوقٍ:
-أنا تعبت يا تيَّم!!
أنزل كفيه ببطء حتى قبض على خصريها ثم ألفها حتى أصبحت مقابلة لوجهه، كانت الدموع تسقط من عينيها بلا توقف فثبت هو مُقلتيه داخلهما ورفع أنامله يزيل الدمع عن عينيها، في هذه اللحظة فتحت فمها لتتكلم بنبرة واهية فجذبها بسرعة إليه ثم التقط شفتيها بشراسة وأخذ يقبلها بحالة من الجنون والتلذذ، بدأت تقاومه بذراعيها محاولةً إبعاده ولم تستمر هذه المقاومة كثيرًا لتتحول إلى استجابة واستمتاع في غضون دقائق وما أن شعر هو برغبتها فيه كما يرغب فيها حتى أبعد وجهه قليلًا ثم بدأ يتفرس ملامحها الهادئة الساكنة بينما أنامله تتحرك ببطء حتى وصلت إلى كتفيها ليبدأ في إزاحة حمالات بلوزتها بينما هي خاضعـــــة له تمامًا!!!
•~•~•~•~•~•~•~•
دخلت المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي لاصطحاب ابنتها وفهم موضوع ذلك المعلم الذي يضايقها كُل يومٍ، تحركت نحو غرفة المديرة للتحدث في الأمر وما أن وصلت هناك وبدأت تسأل عن ذلك المُعلم المدعو "حسن" حتى وجت الرد صادمًا؛ فلا يوجد في المدرسة معلم بهذا الاسم وبعد قليل من التحريات أخبروها بأن "حسن" هو ابن بواب المدرسة ويأتي بين حين وآخر لتنظيف فناء المدرسة، زوت "عزيزة" ما بين عينيها في استغرابٍ وراحت تسأل نفسها في خوفٍ حول سبب خوف ابنتها منه إلى أن استبد بها الشك فطلبت منهم معرفة الطريق إلى فصل ابنتها وما أن دخلته حتى وجدته فارغًا من الطلبة لأن هذا الوقت هو وقت الانصراف.
التاع قلبها فزعًا حينما لم تجدها؛ فأسرعت إلى الفناء تنظر في كُل رُكن به ولا تعلم ما الذي خاطبها أن تذهب إلى حديقة المدرسة الخلفية وما أن تجاوزت السور الذي يفصل الفناء عن الحديقة حتى جحظت عيناها في صدمة وخرجت منها شهقة عالية حينما وجدت ابنتها تبكي في الزاوية بينما يقف أمامها شاب كبير يبدو في نهاية العشرينات أو ربما أكثر يحاول نزع بنطالها عنها، صرخت صرخة مدوية رجت أرجاء المدرسة واندفعت تهرول إليه بكل ما تحمل في صدرها من غلٍ وما أن أبصرها حتى وقفت مصدومًا لقليل من الوقت لتقبض "عزيزة" على ياقته وتبصق على وجهه وما أن أدرك المأزق الذي وقع فيه دفعها بقوة إلى أن سقطت على الأرض وفر هاربًا ولم يكن شاهدًا على هذه الحادثة إلا أباه البواب الذي جاء جريًا حينما وصله صراخ عزيزة.
ظلت تصرخ بأعلى صوتها كبركانٍ طاف على جانبيه وتضرب فخذيها بأقصى ما لديها من قوة بينما ارتمت الصغيرة في خوف بين ذراعي والدتها التي ضمتها بقوة والألم يسيطر على جميع حواسها والدموع لا تبرح عينيها.
•~•~•~•~•~•~•
بدأ يقلب المكان رأسًا على عقبٍ، يبحث عن مبتغاه بشغف جنوني ورغبة جامحة في الوصول إليه، أخذ يضغط أسنانه بملامحٍ مُكفهرة يملأها الشر والوعيد قائلًا في هذه اللحظة من بين أسنانه المُطبقة:
-حطها فين دا، أنا مُتأكد إنها مخرجتش من المكان.
قرر ألا يستسلم وعليه إطفاء نيران غضبه والانتقام بطريقة قاسية جدًا فبدأ ينبش كُل مكان وشيء يُقابله بفوضوية إلى أن مرَّت العديد من الدقائق وهو يلف في أرجاء المكان بحنقٍ حتى لمعت عيناه فجأة وهو ينظر إلى مبتغاه بانتصارٍ ويقول بضحكة ماكرة:
-وأخيرًا!!
لم يستمر على حالته السعيدة تلك حينما جاءه أحد الرجال ووقف أمامه مُباشرةً ليقول بآخر كلمات كان يود سماعها:
-الحق يا رضوان بيه.. في كارثة حصلت.
حدق فيه متوجسًا خِيفة من كلامه الذي لم ينطقه بعد بينما استمر الرجل يقول بضيقٍ:
-في واحد راح النيابة وقدم دليل براءة البت من نص ساعة.
•~•~•~•~•~•~•
-إنتَ بتتكلم جد يا زير؟!!
اعتدل قافزًا في نومته حتى جلس وهو يردد هذه الكلمات بسعادة غمرت صدره فيما تابع الأخير يقول بحماسٍ:
-أنا زيَّك اتفاجأت، بس دي خطوة حلوة لصالح مدام سبأ.. كدا النيابة هتعيد نظر في القضية وبنسبة كبيرة هتبرأها أو الاحتمال الأضعف إنهم هيكملوا تحريات في القضية بس وهي حرة مش مسجونة.
أخرج "تيَّم" زفيرًا حارًا وكأن جبل من الهموم قد إنهار من فوق أكتافه، تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وهو ينظر إلى زوجته النائمة بعُمقٍ وراحة بجواره ثم تابع باهتمامٍ بالغٍ:
-متعرفش مين الراجل دا!!!
أكمل "الزير" بنبرة سعيدة:
-لأ لحد دلوقتي مفيش تصريحات عن شخصه ولكن أنا والمتر متابعين القضية حتة بحتة وإن شاء الله لمَّا ياخدوا قرار بخصوص حالة مدام سبأ هبلغك.
أغلق الهاتف فورًا في تفاؤل وأمل بصدد خروجها من هذه القضية اللعينة، يعلم أن تبرئتها بيديه ولكن ليت كان باستطاعته أن يذهب ويصرخ عاليًا بأن زوجته بريئة براءة الذئب الذي أُتهم زورًا بتمزيق العزيز، لم يكُن يجرؤ أحدٌ على الاقتراب من قلبه الذي بمثابة بئر موحش شديد الظُلمة إلاها؛ فهي الوحيد من أدركت أنه مكان ضحل فقط لا عمق له وجربت اقتحامه ولم تخشى السقوط.
وحدها من استطاعت أن تكسر قوانينه جميعها، لم يؤنبه ضميره الذي أخمده من زمن إلا عندما رأى عذابها في غياب والدتها وحياة الهروب التي تعيشها بسببه؛ ولكن عليه أولًا أن يضمن تشريف هؤلاء الحثالة إلى زنزانة السجن قبله؛ فهو ليس لُقمة سهلة الاستساغة كي يتكفل وحده بجميع جرائمهم.
مال بجسده قليلًا حتى وضع جبهته على خاصتها ثم بدأ ينظر إليها عن قُرب وفي نفسه رغبة جامحة للوصول بها إلى بر الأمان، استقام ظهره مرة ثانية ثم بدأ يهمس بصوت لين يعكس طبيعته تمامًا:
-سبأ!!.. سبأ!
كرر اسمها أكثر من مرة حتى فتحت أهدابها شيئًا فشيئًا تحاول استيعاب أن اسمها يأتي من فمه ولم يقل "أنتِ" أو يأمر دون ذكر اسمها، كانت هذه المرة الأولى التي يقول فيها اسمها منذ أن ألتقيا، بدأت تستر جسدها بالغطاء في هدوء ثم تقول وهي تبتسم خجلًا دون أن تنظر إليه:
-أول مرة تناديني باسمي!!
ضوى بريق في عينيه وكانت هذه المرة الأولى التي تنبسط فيها عُقدة حاجبيه وقال:
-سبأ في أمل كبير في ظهور براءتك من غير ما أكون أنا السبب فيها.
تهللت أسارير وجهها ثم رددت بتساؤل:
-حصل جديد في القضية؟!
أومأ وقال بثبات:
-في شخص قدم دليل براءتك للنيابة، بس أنا معنديش أي معلومات بخصوصه لسه، بنسبة كبيرة إنتِ هتبقي حُرة من تاني يا سبأ!
سكت هنيهة ثم تابع بملامح استحالت إلى أخرى متجهمة:
-يعني تقدري في أي وقت ترجعي وتحكي لهم كُل حاجة حصلت معاكِ ومبقيتيش محتاجة تضمني وجودي.
تغيرت ملامحها السعيدة إلى أخرى تعيسة ثم أردفت بصوت مخنوقٍ يتخلله بوادر بكاء:
-وإنتَ!
ابتلعت غِصة مريرة في حلقها وأكملت:
-مش ناوي تسلم نفسك؟ اوعدك إني هقف جنبك لآخر دقيقة وهنحاول نلاقي دليل إدانة العصابة أنا وزميلك، بس الهروب مش حل بل بيأزم الوضع!!
رماها بنظرة ثاقبة قبل أن يعطيها ظهره ثم يكمل بصوت خشنٍ عاد إلى طبيعته:
-أنا مش هشيل الليلة لوحدي ومش هكون الطُعم للعصابة، وإنتِ من اللحظة دي مش مُجبرة تكوني على ذمتي.. حُرية الاختيار ليكِ!.
كسا الحُزن ملامحها البسيطة فأطفأها، تجمعت الدموع في عينيها وطفقت تقول بصوت مهزومٍ:
-يعني أيه مش مُجبرة أكون على ذمتك يا تيَّم؟
لم تجد منه سوى صمتٍ ضاري فباغتته بضربة خفيفة على كتفه وتابعت بنبرة خفيضة متأثرة من صمته:
-متدنيش ضهرك إنتَ كمان، بص لي وقول لي تقصد أيه؟!!
ظهرت خطوط وجهها وهي تصرخ فيه باكيًا وتكرر:
-لف وبص لي، إنتَ فاهم أيه اللي حصل بينا من دقايق بس!!.
جذبته بقوة كي يستدير ناظرًا إليها ليتكلم أخيرًا بلهجة حازمة:
-مش دا كان شرطك قبل ما نتجوز.. إنك تضمني وجودي بجوازنا لحد ما تتبرأي!!.. دلوقتي براءتك بتظهر وخلاص مش هتحتاجيني ولو كان وجودك معايا لأنك مُجبرة على دا؛ فخلاص مبقيتيش من اللحظة دي مُجبرة على وجود سفاح زيّ في حياتك.
ضربت صدره بقبضتيها ثم صرخت بلوعةٍ:
-بس أنا حبيتك.. أنا عارفة إني بحرق نفسي بقربي منك.. بس مقدرتش أتجاوزك.. أنا بحبك!!!
تجنب نظراتها مجفلًا عينيه بلوعةٍ أو بالأحرى يتفادى السقوط في بئر عينيها السوداوين فيضل طريقه، يخشى أن يتشبث بها بكُل ما أوتي من قوة فتحترق معه، يخشى أن تطولها براثن جرائمه وتبعات أفعاله ولكن في النهاية قد لاح عشق في الأفق يختصها به وكانت هي أول من يغلبه في حلبة المصارعة التي يخوضها طوال حياته.
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقه وهمست بصوت يملأه الترجي:
-بقول لك بحبك.
رفع عينيه إليها ثم ردد بأنفاس تحترق في وجعٍ:
-أنا يمكن معرفش يعني أيه حب أو أيه الشعور اللي ممكن أحس بيه علشان أجزم إني حبيت، بس الجُزء دا من جسمي مش في طبيعته، حاسس إنه عصاني وفقدت السيطرة عليه، في فوضى جوايا، فوضى أول مرة استلذ بوجودها، في دقة.. دقة عنيفة بترج جسمي كُله لمَّا بتقربي أو عيني تلمحك.
قبض على كفها ثم وضعه على قلبه، لترمي هي رأسها على صدره ثم تبكي بخليط من السعادة والخوف من المجهول الآتي.
في هذه اللحظة رن هاتفه المحمول، فقام بالتقاطه على الفور وهو على علم بالمتصل لأنه الوحيد الي يعرف هذا الرقم السري، رد بفضولٍ:
-في جديد يا زير!!
ابتعدت في هذه الأثناء عنه ثم بدأت تكفكف دموعها بينما أجاب الثاني بحماسه المعتاد:
-الراجل اللي راح النيابة وقدم دليل براءة مدام سبأ هو سواق الأوبر اللي وصلها ليلة الحادثة وهناك شهد إنها اليوم دا كان معاها طلبية أكل وقدم صورة بوقت اتصالها بيه فيها التاريخ وكل البيانات والمحادثة اللي بينهم ولمَّا النيابة استعلمت عن صحة الصورة وهل هي حقيقية فعلًا مش مزورة وتأكدوا إنها مش مزورة بلغوا المحامي إن في جلسة نظر في الحكم الصادر على مدام سبأ خلال اليومين الجايين.
انفرجت أسارير وجهه ثم أغلق في وجه الأخير وراح ينظر إليها قائلًا بنبرة متريثة:
-سواق الأوبر.
حدقت فيه مصدومةً وتابعت:
-بجد؟!
تيَّم يومىء مُضيفًا:
-شهد إنك كُنتِ هناك بطلبية أكل وهو اللي وصلك وقدم المحادثة اللي بينكم والتواريخ وحاليًا النيابة بتعيد نظر في الإجراءات اللي تخصك.
في هذه اللحظة، ضيقت عينيها قليلًا في تيه قبل أن تنظر مركزةً في عينيه وتقول بتذكرٍ وفم مفتوح:
-تليفوني!!
قطب حاجبيه يحثها على الاستمرار فتابعت بعينين متسعتين:
-تليفوني عليه دليل مهم.. أنا صورتك فيديو وإنتَ قاعد مع راجل تاني وبتتكلموا بخصوصي وكان بيعترف في الفيديو بأنه المسؤول عن حادثة التجمع وساعتها طلب منك قتلي وإنتَ رفضت.
جحظت عيناه ينظر إليها بذهول ثم قال بفضولٍ:
-وفين تليفونك!!!
مطت "سبأ" شفتيها تجهل الجواب ثم رددت بحيرة:
-مش عارفة، آخر مرة كان معايا في الأوضة اللي كنت محبوسة فيها!!
ضرب "تيَّم" الحائط بقبضته في انفعالٍ ثم زمجر بغضب جامحٍ؛ فهيهات أن يعثر عليه مرة ثانية بعدما وقع في يد هؤلاء الرجال.
كان هذا اليوم مليء بالأخبار والمغامرات كذلك؛ لحظات من الصمت والتفكير الطويل سيطرت على الجو العام من حولهما إلى أن رن هاتفه من جديد ولكن هذه المرة كان رقم غريب، تردد للحظات قبل أن يُجيب بشجاعة دون أن يفرق معه شيء ليجد صوتًا مبحوحًا يقول في حُزن:
-اديني بنتي!!
التفت "تيَّم" إليها ثم مد يده لها بالهاتف دون أن ينبس ببنت شفةٍ، وضعت الهاتف على أذنها وأردفت بنبرة مترددة:
-مين؟!
جاءها صوت والدتها تقول في بكاء مريرٍ:
-الحقيني يا سبأ.. الحقي أختك.. أختك بتضيع مني زيّ إنتِ ما ضيعتي، ليه الناس بتستضعفنا وبتاكل في لحمنا؟!، ليه عرضنا رخيص بالنسبة لهم حتى لو كُنا بنمشي جنب الحيط، كل دا علشان ملناش ضهر ياكل قلوبهم لمَّا يأذونا!!
خفق قلبها هلعًا وراحت تقول بنبرة فزعةً:
-مالها يقين يا أمي.. فيها أيه؟!
عزيزة وهي تهزي بكلمات غير مُرتبة:
-أول ياخد براءتها.. عيلة صغيرة مسلمتش منهم.. ابن البواب كان عايز يغتصب بنتي.. أنا شوفته بعيني.
صاحت "سبأ" بصدمة كبيرة:
-يغتصبها!!!
التفت "تيَّم" إليها بسرعة البرق ثم نظر بعينين ناريتين وراح ينتشل الهاتف منها ثم يقول بصوت حادٍ:
-يقين؟ حد حاول يغتصبها!!
أومأت في حالة من الهذيان وعدم التصديق؛ فيما تابع هو بلهجة آمرة وهو يجذبها من الفراش:
-قومي البسي خلينا نتحرك.
سبأ وهي تبتلع ريقها وتقول في استغرابٍ:
-هتعمل أيه؟؟
•~•~•~•~•~•~•
لم توافق "سبأ" على ذهابه والمخاطرة بحياته بهذه السهولة وطلبت منه أن يتريث قليلًا في قراره، اتفق مع "عزيزة" أن تسأل عن عنوان بيت البواب وأن تُبلغه به في أسرع وقت، وكانت هذه المرة الأولى التي تتجاوب معه بالحديث فنفذت ما قاله وأتت له بالعنوان وأخبرته به عبر الهاتف لأنها لا تستطيع الخروج من البيت لوجود حراسة مشددة على بوابة البناية تحظرها من الخروج حتى أنها كي تتواصل مع ابنتها تذكرت الورقة التي كتبت فيها "سبأ" رقم "تيَّم" وطوتها وألقتها في حقيبتها ذلك اليوم فأخذتها "عزيزة" ثم التجأت إلى جارتها التي سمحت لها باستخدام هاتفها الشخصي.
رفضت ذهابه وحده وأصرت على الحضور معه، طلب منها أن تتنكر بشكل جيدٍ حتى لا يتم التعرف عليهم وكانت هذه مخاطرة منه ولكنه أصر على هذا المشوار بكُل جوارحه، نزل من سيارة الأجرة على ناصية الحي الذي يعيش فيه البواب وأولاده ثم سأل عن مكان البيت تحديدًا فدله الناس على غرفة موجودة فوق سطح إحدى البنايات وما أن وصل إلى السطح حتى وجد سيدة تلتهي في تحضير الطعام وشاب يجلس أمام هاتفه في شرود ومجموعة من الأطفال يلهون في المكان، عقد "تيَّم" ذراعيه أمام صدره ثم تحرك بخطوات هادئة وسط نظرات الأم المندهشة إلى أن وقف أمام الشاب وقال بلهجة حادة:
-حسن!!
رفع نظراته إلى الواقف أمامه ثم قطب حاجبيه بقلقٍ غمر كل ذرة به، اِبتلع ريقه على مضض ثم هز رأسه بتوجسٍ ليندفع "تيَّم" على حين غرة من الأخير ثم يقبض على عنقه جابرًا إياه على الوقوف، أخذ يضغط على عنقه بقوة ضارية بينما يحدق الأخير بعينين جاحظتين والدماء قد هربت من عروقه وأنفاسه أوشكت أن تنقطع، فيما بدأت الأم تصرخ باستغاثة وعويلٍ وهي تقول:
-إنتَ مين وعايز من ابني أيه؟!!
تركهُ في هذه اللحظة قبل أن يسقط صريعًا وراح يردد وهو يكيل له لكمات عنيفة في أنحاء جسده:
-أنا السفاح.
ارتطم جسد الشاب بالأرض فأخذ يحبو على قدميه محاولًا عبثًا الفرار منه ولكن دون جدوى فأسرع "تيَّم" بركله بمقدمة قدمه في فمه ليصرخ الأخير بوجعٍ مميتٍ حينما رأى الدماء تتناثر من حوله وهنا تابع "تيَّم" وهو يقبض على عنقه من الخلف مرددًا بنبرة شرسة:
-إنتَ عارف أنا بعمل فيك كدا ليه؟!!.. طيب عارف يقين؟ العيلة الصغيرة اللي استغليت إنها مش هتعرف تصرخ أو تستغيث زيك كدا!!!
أحكم قبضته ضاغطًا على خصلات شعره ثم أمال رأسه حتى صدمها بالأرض في قوة ليخرج الثانية تأوهات تنبعث من بين طيات الوجع وهنا أكمل "تيَّم" بانفعال هائجٍ:
-اصرخ، على الأقل إنتَ لمَّا اتوجعت عرفت تعبر عن وجعك بالصريخ، بس هي معرفتش.
في تلك اللحظة، أسرعت الأم بالقبض على قدم الأخير تترجاه في استجداءٍ فاستغل "حسن" قبض والدته على قدم "تيَّم" وهرول يجاهد نفسه على الإسراع بينما أخذت الأم تبكي بمرارة:
- حقك عليا يا بني لو عملك حاجة، بس علشان خاطري سيبه!!
أفلت ساقه من بين يديها ولم يلتفت لها مُطلقًا ثم أسرع خلفهُ مُصرًا على القضاء على ما تبقى منه من أنفاس، هرولت "سبأ" تتبعه ولأول مرة لا تغضب من رؤية تصرف همجي وعنيف أمامها؛ فالشاب الماثل أمامها قبل قليل ليس مُراهقًا على الإطلاق والكارثة أنه يبدو في أوائل الثلاثين!!
بحث عنه "تيَّم" في كُل مكان ولكنه كفص ملحٍ وذاب في لحظة، هدد الأم بكلمات غاشمة وأقسم بأنه سيعود مرة ثانية ولكنها ستكون نهايته ثم أمسك بكفها وغادر على الفور قبل أن يلفت أنظار الناس لهما.
علمت "عزيزة" بما فعله من أجل ابنتها ولكنها لم ترغب أبدًا في الإعراب عن امتنانها أو شكرها تجاهه؛ فهي ترى أن "حسن" و "تيَّم"؛ هما وجهان لعملة واحدة.
عاد بها إلى الشقة مرة أخرى، القى بجسده على الأريكة في إنهاكٍ فيما التقطت هي هاتفه وحاولت التواصل مع أمها للاطمئنان على شقيقتها ولكن الهاتف كان مُغلقًا، مشت بخطوات هادئة إليه ثم جلست بجواره مُباشرةً وبمشاعر فياضة التقطت كفيه ثم تابعت وهي تبتسم بامتنانٍ:
-إنتَ عارف إن دي أول مرة أشوف فيها حد ميت على رجوع حقنا.. أول مرة أشوف نظرة شر لحد ضايقني.. أول مرة أشوف حد بينتفض لوجعي أنا وأمي وأختي.. معاك حسيت احساس الأول مرة في كُل شعور.. حتى شعور الاحتواء اللي عمري ما دوقته في حُضن أبويا.. دوقته في حُضنك.. أنا وبرغم قصتنا الغريبة وبرغم رفض المُجتمع والناس ليك.. بس أنا شايفة فيك خير مش هبرره لحد مش عايز يشوفه.
ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وأكملت:
-كان نفسي نتقابل في ظروف أحسن من كدا.. كان نفسي نهاية قصتنا تبقى زيّ الروايات.. ألبس فستان أبيض وتلبس بدلة ونعيش حياة سعيدة ومعانا أطفال كتير.. كان نفسي تبقى في حياتي أكول وقت ممكن.. أنا يمكن حبيتك بسرعة ويمكن تكون إنتَ مستغرب أصلًا أنا ليه حبيتك.. بس أنا كان جوايا شروخ وإنتَ داويتها من يوم ما رفضت تضحي بواحدة مكنتش تعرفها ومكنتش جبان وقتها ولا فرق معاك تعرف اسمك أو لأ.
أشارت بهدوء إلى قلبه ثم استأنفت:
-إنتَ جواك نور.. أنا شيفاه واهتديت بيه واختارتك.. مش ندمانة إني حبيتك.. بس كان نفسي تفضل معايا للنهاية.
سقطت دمعة ساخنة من عينيها فأسرعت بمحوها، بينما كانت نظراته ترق لكلماتها تارة وتقوى أخرى كي لا يستسلم لضعفه ويبوح بكُل الآلام التي تشبعت بها روحه، فقد أقسم أن يموت بهذه الأسرار وليس مستعدًا أن يخبرها عنها!
طرقات هوجاء للغاية على باب الشقة اقتحمت حديثهما وصوت "الزير" يأتيهما من الخارج، فُتح الباب بسرعة ليتابع "الزير" لاهثًا وعلامات الاختناق بادية على وجهه:
-تيَّم، أنا لازم أتكلم معاك في موضوع لوحدنا!
قطب حاجبيه ثم تبادل النظرات معها قبل أن يلتفت إلى صديقه ويقول في لهجة حادة:
-تقدر تقول قدام سبأ، مفيش أسرار هنا.
ابتلع "الزير" ريقه على مهلٍ قبل أن يتمتم بصوت مُتلعثم خافتٍ:
-الفيديو بتاع مدام سبأ!.
حدق كلاهما فيه ليتابع الأخير بمرارة:
-انتشر على كُل مواقع التواصل الاجتماعي!
يتبع
#حَرم_السفاح
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
حَرم السفَّاح.
Actionنوڤيلا 2023 (حَرم السفاح) تأليف/علياء شعبان كاملة. ••••••••••••••••• "مُقدمة" أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاس...