الفصل الثامن عشر".
“كالحلمٍ الخاطف لجُزءٍ من الثانية، هكذا كان تصادمه مع حقيقة اتساع دائرة الأرواح المتعلقة في رقبته وعليه ابقائها آمنة لا يزورها الروع".
•~•~•~•~•~•~•~•
اضطر "الزير" على الذهاب من أمام قسم الشرطة، بعد أن أخبرته "آماليا" بضرورة الحضور من أجل أمر هام يتعلق بعائلة "سبأ"، فعليه اصطحابها إلى هناك، سمح "كمال" له بالمغادرة، فغادر وبقى فكره مشغولًا بصديقه الذي غاب في الداخل ولا يوجد خبر منه، بينما طال انتظار "كمال" ورجاله قرابة الساعتين ماكثين على الجانب الآخر من المكان في ترقُبٍ هالكٍ للأذهان ومُبدد لكل مقاومات الثبات الانفعالي لديهم، وبعد مرور الساعتين بدقائق، خرج "تيم" ومعه فتاة شابة وامرأة كبيرة، قادها حيث السيارة القابعة بالجانب الآخر قابضًا على ذراعها كمُجرمٍ يخشى هروبه، لم يفتأ يصل إلى السيارة التي لاحظ غياب "الزير" عنها حتى وجد شخصًا يلمس مؤخر رأسه بفوهة سلاح ويتابع بلهجة شديدة:
-مش عايزين نعمل شوشرة.. خليل بيه عايز بنته وبس!
شهقت "عظيمة" بهلعٍ ورددت فورًا:
-لأ.. معين مش هتروح مع حد.
التفت "تيم" بهدوءٍ يتواجه مع المتكلم، لتُصبح فوهة السلاح ملاصقة لجبهته، ابتلعت "مَعين" ريقها على مهلٍ ووقفت تفرك كفيها بتوترٍ بالغٍ حاولت التغلب عليه وهي تنتظر ما سيأتي من ردٍ على لسان الأخير، رفع "تيم" أحد حاجبيه وقال ببرودٍ:
-بس أنا شوقي جاي على شوشرة!!
تجهمت معالم وجه الرجل، فمد ذراعه إليها محاولًا القبض على ذراعها وجذبها إليه ليتفاجأ بالأخير يسبقه في سحبها نحوه، دفعها "تيم" للوراء فوقفت وراءه تنظر بعينين مترقبتين، تنحنح "تيم" بخشونةٍ قبل أن يوزع نظراته بين الرجل والاثنين الواقفين على جانبيه، وبابتسامة جامدة قال وهو يتوجه بنظراته إلى سيارة رئيسهم الذي فضل أن يُتابع المباراة عن بُعد:
-يا ترى خليل بيه شوقه جاي على أيه؟! مش ضروري نسأله لأنه في موقف صعب دلوقتي.
نظروا فورًا إلى "خليل" الذي بقى مُحاصرًا من قِبل "كمال" ورجاله، حيث صوب "كمال" السلاح إلى رأسه بعد أن اقتحم السيارة وجلس جواره وأبقى رجاله يحومون حول السيارة متأهبين لإشارة منه، كان "خليل" ينظر باستياءٍ للوضع من حوله، فقد ظن أن "تيم" غير مُحاط بحراسة مشددة تثبط محاولته النيل من عَنجهيته وكِبره، زفر بغيظٍ مُقررًا سحب رجاله من الأمر قبل أن يتفاقم، فرفع ذراعه مشيرًا في دعوة واضحة منه بالانسحاب، أنزل الرجل سلاحه عن رأس "تيم" الذي ابتسم ابتسامة خبيثة والتفت إلى "مَعين" قائلاً بهدوءٍ بعث الاستفزاز في نفس الثاني:
-اركبي.
أومأت منصاعةً وهي تولج داخل السيارة، أشار للسيدة أن تفعل أيضًا ثم استدار وركب مستقرًا على مقعد القيادة ليقوم بعمل "الزير" ويقود السيارة مُنطلقًا، فقد ظن أن صديقه برفقة كمال ورجاله الذين سيتبعونه بعد إنهاء الأمر مع "خليل" الذي يحتاج إلى نصيحة شديدة كيلا يعترض طريق الآخرين فارضًا سيطرته مرة أخرى.
رفعت "مَعين" أحد حاجبيها ثم قالت بنبرة حماسية:
-لأ بس طلعت خِطر.. الله أكبر.. حاسه إني في فيلم أكشن مع عصابات المافيا.. هو إنت بتشتغل أيه يا تتـ تـ!!
نظر إليها عبر المرآة الأمامية وقال حانقًا:
-لتكوني يا بت فاكرة إني مقتنع بالشويتين اللي اتعملوا عليا دول.. إنك تكوني بنت چيهان فدا مش معناه أي حاجة ولا له قيمة عندي.
تلوى شدقها بغيظٍ واستنكارٍ لتصبح بلهجة حادة:
-لأ اسم الله أنا اللي هموت وتطلع أخويا؟! وبعدين أنا لا أحب يكون ليا أخوات ولا حد يتحكم فيا، دا أنا في كابوس من لحظة ما عرفت إنك أخويا.
حدجها بنظرةٍ جامدةٍ وقال:
-سمعيني صمتك لحد ما أوصل وأشوف معاكِ حل.
رمقتهُ بسخطٍ، كانت "عظيمة" تتابع ما يجري في صمتٍ شاعرةً بالحزن من سيطرة الجفاء على قلبيهما تجاه بعض، لم تزرع "چيهان" في قلبيهما مثقال ذرة من رحمةٍ، فألقت به في ملجأ رغم تذلله لها ألا تُفرط به وهو الصغير الذي لا تقوى روحه الواهنة على مفارقة جنبات أمه، فكانت نقطة تحوله من صغير تودد لنيل رحمة والدته بقلبه إلى رجلٍ لا يرق حاله لكُل شيءٍ يدعوه أن يكون رحيمًا، كذلك هي، لم تكُن بأهون منه حالًا، فقررت "چيهان" أن تتخلى عن دورها كأمٍ لها وتركتها في أمانة امرأة تعتني بها وكانت تكتفي فقط بأن تُرسل ما تحتاجه "عظيمة" لإبقاء الفتاة شبعة، فنشأت "مَعين" بلا أبوين ولم تجد من يشاركها مراحل يفوعها أو يهتم لأمرها أو يحثها على التعليم وتطوير نفسها، فقررت ترك التعليم في المرحلة الثانوية وسلكت دروبًا جعلت منها فتاة متمردة مهزوزة الثقة وضعيفة العزيمة لا تعرف ماذا يعني الانتماء للعائلة وسلك ممرات الأحلام.
•~•~•~•~•~•~•
تنهدت "سبأ" تنهيدة منهكة بعد أن فقدت الأمل في إقناع والدتها وخالاتها بضرورة الذهاب إلى بيت خالها والاطمئنان على "هاجر"، حاولت مليًا أن تجعلهم يضعون الخلافات جانبًا ويستحضرون ضمائرهم الرؤوفة، فالفتاة تصرفت تصرفًا أهوجًا يُشير بوضوحٍ إلى اختلالات نفسية عويصة تعيشها الفتاة برفقة والديها.
-أنا مش فاهمة أيه العناد دا كله؟! يا خالتو من فضلك افهميني.. دا واجب علينا ولازم نعمله ومش معناه خالص إنكم سامحتوا في أكلان حقكم.
حُسن وهي تنزل كوب الشاي عن فمها وتقول بضيقٍ:
-أمال معناه أيه يا دكتورة سبأ؟!!
أجابتها بنبرة هادئة:
-معناه إن البنت بنتنا وعايزين نتطمن عليها.
تدخلت "أمل" التي تُعدل من حجابها في تأهبٍ:
-أنا مع الرأي دا.. أنا هروح معاكِ يا سبأ.. أنا مقدرش أفرط في هاجر أبدًا.
كانت "عزيزة" تتابع ما يجري بنصف عقل، فبالها مشغول بما تتعرض له هذه الأيام من محاولات ابتزاز توشك أن تفضح أمرها الذي ظنت انتهائه بانتهاء الأزمة التي مرَّت بها ابنتها، بينما تكلمت "حنان" الخالة الرابعة مُضيفة بغطرستها المعتادة وهي تضع قدمًا فوق الأخرى:
-إننا نعبره يعني إننا عايزين نرجع العلاقات، ودا مش هيحصل إلا برجوع ورثنا، خليه يعرف إنه في كل أزمة هيكون لوحده وإنه خسر سنده في الحياة.
رمقتها "حُسن" شقيقتها بإعجابٍ وقالت بإطراءٍ يتخلله السخرية:
-أوقات بتقولي كلام ألماظ يا حنان.. أوقات ياختي مش دايمًا.
التوى شدق "فاطمة" التي توجهت بحديثها إلى "سبأ" الناظرة إلى خالاتها في استياءٍ:
-أنا بقول كل محاولاتك دي حرق على الفاضي.. طالما دا اللي في دماغهم يبقى مفيش قوة على وجه الأرض هتغيره.
زهراء وهي توزع نظراتها بينهن قبل أن تستقر على "فاطمة" وتردد بمكرٍ:
-قولتي لي إن مفيش قوة على وجه الأرض هتغيره!!!
ضيقت الفتيات أعينهن مدركات ما خطر على عقل "زهراء" وانتقل إلى أذهانهن، فحُسن الوحيدة القادرة على تغيير قرارات شقيقاتها وتوجيه الدفة نحو ما ترغبه ولا تقبل أن يُفرض رأي عليها، إلا أن ورغم تسلطها وسيطرتها قد خلق الله رادعًا لها يوجه الدفة رغمًا عنها، فهو الوحيد القادر على إجبارها أن تتجه يمينًا رغم رغبتها في سلوك الاتجاه المعاكس.
رفعت "زهراء" أحد حاجبيها ثم أومأت بابتسامة فاترة قبل أن تنهض وتتوجه صوب غرفة "أنس" وسط نظرات "حُسن" المحدقة فيها بناريةٍ:
-لمَّا نشوف بقى مفيش قوة إزاي.
هاجت انفعالات "حُسن" التي صرخت غيظًا في وجه شقيقتها:
-شايفة بنتك اللي متربيتش يا حنان، بتحرض ابني عليا!!
ضغطت "حنان" أسنانها وهي تهتف هادرةً في ابنتها التي توشك أن تطرق الباب:
-وحياة أمك لو عرفتي أنس لأكون مقرقشاكِ بسناني.
صاحت "حُسن" بها في انفعالٍ:
-وبعدين إنتِ بتهدديني بأنس يا بنت صالح؟! أنا امتى خوفت منه؟! على آخر الزمن الأمهات اللي هتخاف من عيالها، ليكونوا هم اللي ولدونا وأنا معرفش!!
تنهدت "زهراء" بضيقٍ وهي ترى مكابرة سليطة منها، فأسرعت تضرب بتهديد والدتها عرض الحائط وطرقت بغيظٍ على باب الغرفة، تلوى شدق "عزيزة" التي استفاقت على عراكهن يمينًا ويسارًا موقنة من اندلاع ثورة عارمة في غضون الدقائق القليلة القادمة، تشخصت أبصارهن إليه وهو يخرج من غرفته مردفًا بقلقٍ:
-خير يا زهراء؟!
تكلمت فورًا بنبرة ثابتة:
-ساعتين بنقنع خالتي حُسن تروح تزور هاجر وتعمل الواجب ومش قادرين عليها وبتقول إن مفيش حد يقدر يغير قرارها على وجه الأرض.
ضغط "أنس" على أسنانه قبل أن يتجه بنظراته الثابتة نحو أمه ويقول بنبرةٍ هادئةٍ:
-قومي يا ماما شوفي هاجر لو دقيقة حتى وارجعي.
رفعت سبابتها بانفعالٍ شديدٍ وصاحت:
-على جثتي أروح هناك وبعدين بنت صالح نُص بتهددني بيك.. هو أنا يعني من امتى خوفت منك؟!!!
تكلم "أنس" مرة ثانية بنفس هدوئه:
-لا عاش ولا كان اللي يهددك يا ست الكُل.. يلا يا قمر.. كلها دقيقتين تعملي فيهم الواجب وتيجي.
أومأت نافيةً وقالت:
-على جثتي و...
-ما تيلا يا أمَّا ما تعمليش فيها المرأة المتمنعة.. هو حرق جاز وخلاص!!!
انتفض جسدها ذعرًا وأنزلت قدمها عن الأخرى وهي تبتلع ريقها برعبٍ، لم يكتفِ بتوجيه أوامره لوالدته فقط، بل وزع نظراته بينهن وقال بلهجة شديدة:
-فِزي إنتِ وهي بدل ما أوريكم شغل الظباط.. فِزي منك ليها وحصلوا أمي.. ولا أقول لكم...
سكت لبُرهة وهو يوليهم ظهره متوجهًا صوب غرفته:
-خليكم قاعدين.. الكرباج اللي جوه لسه جايبه جديد مجربتوش لحد دلوقتي.
ما أن أنهى جملته حتى نهضن مسرعات وأخذن يهرولن خارج الشقة، وأيضًا "حُسن" التي لاذت بالفرار وهي ترتدي عباءتها بطريقة عشوائية راكضةً خلفهن من براثن ابنها الغاضب، انخرطت "سبأ" في ضحكٍ هستيري حتى أنها لم تقوَ على رفع جسدها عن الأرض خاصة أن الصغير ينام على ساقيها، حاولت "فاطمة" التماسك من وسط قهقهتها وقامت بتناول الصغير منها حتى تستطيع النهوض براحةٍ أكثر ليأتي "أنس" وهو يرمقهن قائلًا بحدةٍ:
-هم فين؟! راحوا فين؟!!
منار بقهقهة:
-جريوا.
ضيق ما بين عينيه متسائلاً في مزاحٍ:
-وإنتوا يعني قلبكم ميت؟! مجريتوش معاهم ليه؟!!
زهراء بضحكةٍ واسعةٍ:
-ادينا دقيقة معلش يا أستاذ أنس.
لاحت ابتسامة عريضة على وجهه، همَّ أن يعود إلى غرفته مرة أخرى لإتمام حزم أمتعته استعدادًا لعودة إلى أكاديمية الشرطة فجرًا، ولكنه توقف في مكانه على إثر سؤال "سبأ" التي تساءلت باستغرابٍ:
-هو إنتَ مش هتروح تشوف هاجر إنت كمان ولا أيه؟!.
أومأ سلبًا وهو يستكمل سيره صوب غرفته:
-اتطمنت عليها خلاص.. بلغوها سلامي لأني لازم أنام علشان هصحى الفجر.
تقبلن عدم رغبته في الذهاب مقدرات لمجهوده على مدار اليوم وما تعرض له من إجهاد عصبي لحظة محاولتها القفز من فوق الكوبري، دخل "مُنذر" لحظة انسحاب الفتيات لخارج الشقة، وزع نظراته في البيت قبل أن يقول مصدومًا:
-معقول أقنعتهم يروحوا بيت الفسخاني؟!!
أنس وهو يولج داخل غرفته:
-أنا ما بقنعش.. أنا بلسوع على طول.. تحب تجرب!!
نظر إلى السوط ليصيح "مُنذر" متقهقرًا فورًا للوراء:
-روح الظابط حضرت على حظي أنا!!
ضحك "أنس" وتوجه إلى آخر حقيبة له كان يهم بحزمها، ألقى "مُنذر" بنفسه على السرير وتمدد عليه في تعبٍ وبنبرة متعجبة أردف:
-مش المفروض تروح تشوف هاجر، إنتَ بقيت البطل المغوار اللي أنقذ الأميرة من الموت، يمكن خالك عصام الفسخاني يرضى عنك ويجوزها لك ونبقى ضربنا عصفورين بحجر واحد، رَجعنا ورثنا واستولينا على ورثه.
أغلق "أنس" سحاب الحقيبة وهو يردد بنبرة ممتعضة:
-أه يا وصولي يا حقير.. أخوك من امتى بيتقرب لحد علشان مصلحة أو هدف؟! وبعدين أنا مش بتحايل على حد علشان يرضى عني ولا محتاج رضاه من أساسه ولو كنت عايزها في يوم من الأيام فدا علشان بحبها، ومعنديش تارجت عايز أوصل له من الجوازة دي غير إنها تبقى في بيتي، دا جواز يا حبيبي مش وظيفة قايمة على التارجت والبونص.
رفع "مُنذر" أحد حاجبيه وردد حانقًا:
-يا عم والله أنا لو مكانك وقلبها معايا لكنت نفضت خالك عصام دا وخليته على الحديدة، كنت خدت منه كل المحلات التجارية بتاعته بما فيهم محلات الفسيخ والرنجة اللي عمال يتوسع فيهم وكأنه خبير في علم الذرات وكنت خدت منه البيوت والشقق اللي متنطورة في كل محافظة في مصر، دا راجل جشع يستاهل يتغدر بيه، علشان مش شبعان فلوس فجار على ورثنا ولهفه وسايبنا جيوبنا مفيهاش خمسة جنيه.
أومأ "أنس" برأسه مُعترضًا وقال:
-دا الحمد لله إنك مش مكاني.. الغضب اللي إنتَ فيه دا لازم له سيطرة.. ولو على حقنا فعند ربنا وبعدين أخد الحق صنعة.. لكن استغل بنت خالي علشان أرجع حقي من أبوها؟! فين رجولتي وأنا بخليها طرف في لعبة رخيصة وهي كل اللي عملته إنها حبيتني ووثقت فيا!
سكت هنيهة قبل أن يستكمل وهو يتمدد بجوار شقيقه:
-امسك العقل يا زوز.
سكت هنيهة قبل أن ينظر إلى عيني شقيقه ويقول:
-عارف إن في فترة غيابي الحمولة بتكون تقيلة عليك في ظل الأوضاع المادية اللي إحنا فيها وقلة الشغل، بس متأكد إنك هتسد في مكاني أحسن مني مليون مرة، وبإذن الله لمَّا أعلق ظابط رسمي هعوضك وهروق عليك.
ابتسم "منذر" ابتسامة هادئة وقال:
-متفقين يا كبير.
أنس متابعًا بعد تنهيدة ثقيلة:
-أمك وأختك أمانة عندك لحد ما أنزل أجازة واستلم الشيفت منك.
قهقه "منذر" بمرحٍ، ليقترب منه "أنس" رابتًا على كتفه بدعمٍ، فأخوه منقاد إلى دروب سوداوية عن الحياة التي يراها غير عادلة بحالهم، بل وقاسية على شباب مثلهم يشقون طريق يُكابدون فيه الأهوال والعقبات التي تقسم الكاهل وتشيِّب الرأس بداية من سوء الأحوال المعيشية لهم، غلاء الأسعار، البطالة التي يعانيها الشباب المسؤولين عن أُسر كاملة، شعور العجز الذي يلقاه "مُنذر" في مسؤوليته تجاه عائلته يجعله ساخطًا على الحياة والظروف وعلى خاله الذي تفضل عليهم بأربعة حيطان تحتويهم وهم الذين يمتلكون من العقارات والأراضي ما لا يُعد ولا يُحصى.
“على الجانب الآخر، داخل بيت عصام القط".
وزعت "نهلة" نظراتها الساخطة عليهن بعد أن تكدس المكان بالعائلة بأكملها، جلسن في غرفة "هاجر" التي عجت بهن، تفرقن جالسات في كل زاوية بالغرفة، فوق الفراش، على الأريكة، حيث لم يعد هناك مكان آخر يمكن الجلوس به، شعرت "هاجر" بسعادةٍ غامرةٍ وهي تراهن يلتففن حولها باهتمامٍ، على عكس والدتها التي رددت بنبرة باردةٍ:
-تشربوا أيه؟!
أجابتها "حُسن" على الفور بنبرة كيدية:
-ولا حاجة يا روحي.. إحنا مش ضيوف علشان نتعزم.. إحنا في بيت أخونا.. لو عايزين حاجة هنقوم نجيبها.
تكلمت "نهلة" بغيظٍ من بين أسنانها المطبقة:
-طبعًا يا حبيبتي.. بس بردو لازم تشربوا حاجة.
تكلمت "منار" بضحكةٍ فكاهيةٍ:
-نحب نشرب فراخ يا مرات خالي.
جلجلن ضاحكات، فتدبرت "نهلة" ابتسامة مصطنعة جاهدت في إظهارها لمواكبة مزاحهن السخيف، أومأت وهي تقول فورًا قبل أن توليهن ظهرها:
-خلاص هعمل لكم حاجة تشربوها على ذوقي.
أسرعت خارج الغرفة ثم تمتمت بنبرةٍ ساخطةٍ:
-كمان عايزين تاكلوا.. حار ونار.
تبادل كلًا من "حُسن" و "حنان" نظرات ذات مغزى، لتقول "حُسن" على الفور لابنتها:
-قومي يا فاطمة ساعدي مرات خالك.. خلي الليلة تعدي على خير.
أومأت "فاطمة" مُنصاعةً وقبل أن تخرج من الغرفة، أوقفتها والدتها وهي تغمز لها بطرف عينها:
-متتعبيش مرات خالك.. اعملي إنتِ الشاي.
فهمت "فاطمة" ما ترمي إليه والدتها، فأسرعت صوب المطبخ لمساعدة الأخيرة التي لم تكن ترغب في مساعدتها ولكن تحت إصرار "فاطمة" استسلمت هي للأمر، نظرت "سبأ" إلى "هاجر" ورددت بنظرة حانية:
-عاملة أيه دلوقتي يا هاجر!!
أومأت الثانية ورددت:
-لمَّا شوفتكم بقيت أحسن.
التفتت "هاجر" إلى "حُسن" وتساءلت بقلبٍ خافقٍ:
-أنس قاعد تحت مع بابا؟!.
رأرأت "حُسن" بعينيها قليلًا قبل أن تقول بهدوءٍ:
-أنس بيجهز شنطته علشان مسافر الفجر.
زهراء بابتسامة ودودة:
-طلب منَّا نبلغك سلامه.
تجهمت معالم وجهها إلى حزنٍ كاسحٍ، أومأت دون أن تنبس ببنت شفةٍ وبعد لحظات همَّت بالنهوض وهي تردد:
-هروح التويلت وراجعة تاني.
انطلقت بخطوات حثيثة خارج الغرفة، ضيقت "حُسن" ما بين عينيها وقالت:
-أيه التويلت دا؟!!
شهقت "حنان" مصدومةً وردت:
-الحمام يا جاهلة.. فعلًا العلم نور.
تدخلت "أمل" فورًا تقول بنفاد صبرٍ:
-ماشي يا ست المتعلمة.. ممكن بقى تسمعونا صمتكم!!
في هذه اللحظة، جاءت "فاطمة" تحمل صينية عليها أكواب الشاي ثم وضعتها على الطاولة القابعة بمنتصف الغرفة لتردد "حُسن" بضحكةٍ واسعةٍ:
-مدوا ايديكم يا بنات وخدوا كوباياتكم.. طقم شاي بمذاق السحر المشروب.
ضحكن بينما تابعت "فاطمة" وهي تعض على شفتها السفلى:
-يا ماما وطي صوتك أنا اللي عملاه.. عيب كدا.. هاجر تزعل.
قالت "حنان" بتهكمٍ:
-لأ وإنتِ حويطة أوي.. هي المرأة الثعبانية دي لو عايزة تغفلك وتحط لنا حاجة في الشاي هتغلب!!
جاء "عصام" في هذه اللحظة ثم وقف على باب الغرفة وردد بابتسامة ثابتة:
-منورين الدنيا.
أجبنه في هدوءٍ، فأكمل سيره وهو يصيح بلهجة شديدة وجهورية:
-إنتِ يا هانم.. شاي أيه اللي عملاه قبل العشا!!
همست " منار" بضحكة مكتومة:
-كدا بقى سحر مأكول.
رفعت "حنان" أحد حاجبيها ثم تساءلت بفضولٍ كبيرٍ تتصنع مدى أهمية ما تسأل حوله:
-تفتكري أيه مدى تأثير دخول السحر المأكول على السحر المشروب؟!
حُسن وهي تجيبها بابتسامة عريضة:
-قُرحة في المعدة.
ضحكت "عزيزة" رغمًا عنها، وأخيرًا رددت بعد تنهيدة:
-ربع روقانك إنتِ وهي.
في هذه الأثناء، صدح رنين هاتف "سبأ" التي نظرت إلى شاشته بقلبٍ خافقٍ، فكان زوجها، أعطت "غيث" لوالدتها قبل أن تتحرك خارج الغرفة لتتمكن من الرد عليه:
-تيم.. رجعت القصر صح؟!.
جاءها صوته يقول بضيقٍ:
-ينفع أرجع وملاقكيش ولا ألاقي غيث!!
تكلمت فورًا بودٍ:
-غصب عني.. أكيد الزير قال لك.. إنت كويس أهم حاجة؟!
تكلم فورًا بنبرة أكثر ضيقًا:
-كويس إزاي وأنا مش شايفكم.. يلا الزير مستنيكم قدام البيت.. هاتي غيث وتعالي.. مش عارف أقعد دقيقة من غيركم.
سكت لبُرهة ثم قال:
-ولا أجي أنا أخدك؟!!
تكلمت فورًا:
-متتعبش نفسك.. إحنا هنيجي.. سلام.
عادت إلى الغرفة من جديد بملامحٍ منيرةٍ وعينين تبرقان في انبساطٍ، توجهت إلى والدتها ثم حملت صغيرها وقالت بنبرة هادئة:
-أنا اتأخرت ولازم أمشي.
عزيزة وهي ترمقها بضيقٍ:
-الأوامر العُليا صدرت خلاص!
تنهدت "سبأ" ببعض الضيق قبل أن تتدبر ابتسامة باهتة:
-أوعدك هاجي أقضي يوم كامل معاكِ وأبات كمان بس مش النهاردة.
أومأت "عزيزة" دون كلامٍ، فتوجهت "سبأ" لخارج العرفة، لتصبح "فاطمة" التي ذهبت خلفها:
-استني أنا جاية معاكِ.
سارت "فاطمة" معها، حاولت مواساتها قليلًا عمَّا تفعله "عزيزة" لإزعاج ابنتها التي تنعم بحياة زوجية سعيدة، حيث تُبكتها في كل مرةٍ تراها فيها لوقوعها في شباكٍ رجلٍ خطيرٍ أوهمها العشق وستكون هي أول ضحايا حبه لنفسه، تحاول "سبأ" في جانبين؛ إما إقناعها بمزايا "تيم" الذي لا يدخر جهدًا لإبقائها وصغيرها في مأمنٍ واعتبارهما أولوية أولى وأخيرة له أو تركها تظن فيه ما يحلو لها، فقد خابت آمالها في تغيير نظرة والدتها عن زوجها.
-أنا خلاص اتعودت.. بس اللي تاعبني بجد.. إنها بتضغطني من ناحية إني بحاول أرضيها وفي نفس الوقت أحافظ على علاقتي بتيم وبيتي.. هي لمَّا بتشوف اجتهادي في حماية جوزي وبيتي بتضايق.. ودا ضغط كبير عليا منها.
أومأت "فاطمة" مُتفهمةً، حاولت "فاطمة" التخفيف من حدة الأمور، فسارت تكلمها بإيجابية وتحثها على الاستمرار فيما تراه صائبًا لها ولصغيرها، وصلتا إلى بوابة البيت فكانت سيارة "الزير" في انتظارها، ودعت الأخيرة قبل أن تتجه إلى باب السيارة المفتوح من أجلها، تدبرت ابتسامة هادئة وهي تهم بالولوج داخل السيارة ولكنها تفاجأت به يجلس ناظرًا إليها بحبٍ، شهقت "سبأ" مصدومةً ورددت:
-تيم!!
-وحشتيني.
قالها وهو يمد ذراعه نحوها، مالت قليلًا حتى لمس كفها كفه، حثها برفقٍ على الركوب، ففعلت وهي تحتضن صغيرها بالذراع الآخر وما أن جلست جواره حتى قَبَل ظاهر كفها بشغفٍ قبل أن ينزل بعينيه إلى صغيره ويقول بلهفةٍ:
-أسد بابا.. تعالى قول لي.. بتاخد بالك من ماما في غيابي ولا لأ!!
قام بحمله بين ذراعيه وشرع يقبله قبلات متتالية وكثيرة ثم وضعه على حِجره وأسند ظهره على بطنه وكأنه سيقود السيارة معه، كانت "سبأ" تنظر إليهما نظرات براقة يغمرها الابتهاج حتى أنها ودت لو تبقى تتأملهما هكذا دون كلل أو ملل ودون وجود ما يُنغص حياتهما ويكدر صفوها.
-قول لي بقى.. عملت أيه في النيابة؟!
مسح "تيم" على وجهه قبل أن يضع قبضتيه على مقود السيارة ويقول بحسمٍ:
-مش محتاج أقول.. إنتِ هتشوفي بنفسك.
زوت ما بين عينيها ولكنها فضلت تأجيل أسئلتها حتى يأتي ما ستراه كما أخبرها، قاد السيارة منطلقًا إلى القصر وكان بين السفينة والأخرى يسرق نظرة إليها ويُقبل كفها ويُداعب كذلك وِجنة صغيره الممتلئة، انقضى الوقت سريعًا، هرع الحارس ما أن توقفت السيارة أمام القصر، نزل "تيم" حاملًا صغيره بعنايةٍ ثم أعطى الحارس المفاتيح، استدار إلى باب السيارة الجالية بجواره ثم فتح الباب لها وما أن نزلت حتى تأبطت ذراعه متجهين للداخل، ليتفاجأ بسيارة "آماليا" تصطف للتو بالقرب من المرأب، فعلم على الفور بقدومها حديثًا حتى أنها ربما لم تلتقِ بضيوفها بَعد.
ابتسمت "آماليا" ابتسامة عريضة وهي تتحرك صوبهما، فقامت على الفور بالتقاط الصغير لإشباع شوقها إليه، ليردد "تيم" بعتابٍ زائفٍ:
-القصر جاله ضيوف وربة القصر آخر من يعلم.
زوت "آماليا" ما بين عينيها ثم تبادلت نظرات تساؤلية مع "سبأ" التي مطت شفتيها بجهلٍ حول ما يتحدث عنه، فرددت "آماليا" باستغرابٍ:
-ضيوف عندنا؟! محدش بلغني.. مين؟!.
وضع كفه على ظهرها ثم حثها برفقٍ على السير:
-تعالي نتكلم جوا.
ولجوا معًا داخل القصر، فجاءت ربة المنزل "عنايات" مسرعةً إليهم، قامت بحمل الصغير ورددت فورًا:
-دقايق والعشا يكون جاهز يا تيم بيه.
تساءل "تيم" بهدوءٍ:
-الضيوف اتعشوا!!
أشارت "عنايات" بأصابعها الإبهام، السبابة والوسطى مرددةً:
-تلت مرات حتى الآن يا تيم بيه.
انفلتت ابتسامة هادئة من بين شفتيه ثم أومأ وقال:
-وهم فين دلوقتي؟!
أكملت:
-مريحين في أوضة الضيوف.
أمرها بعد تنهيدة ثقيلة:
-بلغيهم إني عايزهم في الصالون.
أومأت في انصياعٍ، توجهت تضع الصغير أولًا في مهده بعد أن نام في الطريق، ثم سارت إليهما وأخبرتهما بضرورة النزول إلى حجرة الصالون كما يأمرهما "تيم"، نزلتا وراءها، كانت "سبأ" تجلس بجواره وتجلس "آماليا" على مقربة منهما، وقفت "مَعين" في منتصف الغرفة ترمقهم بأعين ثاقبة، فأسرعت "آماليا" تقول باستغرابٍ:
-مين دول؟!
تكلمت "مَعين" على الفور بابتسامة عابثة:
-مَعين الجلاد.. أخت تيم السفاح.. إزاي وحصل إمتى؟! أنا ذات نفسي معرفش.. عظيمة اللي قالت.
جحظت عينا "سبأ" في نتوءٍ وهي تنظر إلى زوجها الذي يرمق شقيقته بنظرات مُستسلمة لما تقوله، ابتلعت "آماليا" ريقها على مهلٍ وقالت:
-إزاي؟!
تكلمت "عظيمة" بارتباكٍ توضح الأمر:
-أخوات من الأم "چيهان".
التفتت "سبأ" إلى زوجها وقالت بدهشةٍ:
-بجد يا تيم.. هي أختك بجد؟!!
مسح "تيم" على غُرة رأسه وقال بتنهيدة:
-تقريبًا كدا.
سكت لبُرهة ثم أشار لهما أن تجلسان، وزعت "مَعين" نظراتها بينهم ثم قالت بابتسامة عريضة:
-ما تعرفنا على المزز يا شقيق!!
حدجها بنظرةٍ جامدةٍ بينما امتعض وجه "آماليا" فورًا من بذاءة قولها، فتبدو فتاةً عشوائيةً للغاية، فأجابتها "سبأ" فورًا ببعض الحماس الذي تغلب على صدمتها:
-أنا سبأ مرات تيم.. ودي آماليا هانم.. تبقى مامة تيم.. اللي ربته يعني.
هبَّت "مَعين" من مكانها واقفةً ما أن لمحت الحماس في عينيها، تمشت إليها ثم مالت تعانقها مرددةً بنفس الحماس:
-مرات أخويا حبيبتي.. يا زين ما اختار والله.. وشك سِمح.
سعدت "سبأ" بحديثها، فأكثر ما كانت ترغبه أن تمنح "تيم" عائلة حقيقية يرق لها قلبه، وظهور "مَعين" سيُضفي على شخصية زوجها تغييرًا جديدًا رغم علمها أن صمت زوجها ليس معناه تقبل الأمر، بل محاولة للتأني في أمر استبعادها عن حياته، فكل ما يخص والدته يثير حنقه ويضرم نيران الغضب في نفسه التي هدأت مؤخرًا.
توجهت "مَعين" فورًا إلى "آماليا" ثم عانقتها رغمًا عنها وهي تردد:
-خالتي آمال العسل.. تشرفت بيكِ.
أبعدتها "آماليا" على الفور متبرمةً من قولها وفعلها، نهض "تيم" على الفور حاسمًا إنهاء هذه الجلسة وقال:
-أنا قولت أعرفكم على بعض معرفة مبدئية علشان متتفاجأوش بوجود وجوه جديدة في القصر.. بكرا إن شاء الله نكمل كلامنا.
مدَّ ذراعه إلى زوجته فعانقت كفه على الفور ونهضت، زوت "مَعين" ما بين حاجبيها قبل أن تقول باستنكارٍ:
-أيه دا إحنا مش هنتعشى ولا أيه؟! شكلكم بُخلا!!
أنت تقرأ
حَرم السفَّاح.
Acciónنوڤيلا 2023 (حَرم السفاح) تأليف/علياء شعبان كاملة. ••••••••••••••••• "مُقدمة" أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاس...