رواية #حرم_السفاح
[[الفصل الرابع عشر]]
•~•~•~•~•~•~•
"ثمة أماكن تطرحك أرضًا من فرط الحنين، وأُخرى تنبش قبر الذكريات المبني على أوجاع قلبك".
•~•~•~•~•~•
بقى يُحدق مصدومًا ملتاعًا بعينين متسعتين في جمودٍ، وزع نظراته بين الطفل الصريع بين ذراعيه وبين الأخير الذي رمى له غمزة واثقة قبل أن تنطلق سيارته مسرعةً قبل أن يستفيق من سطو الصدمة عليه ويُدمره وكل مَنْ معه، غادرت السيارة منطلقةً بأقصى سرعة ممكنة، فيما نزل "تيم" بنظراته المصدومة إلى الطفل الغارق في دمه بعد أن ثُقب صدره بعدة رصاصات مُميتة، أخذ صدره يعلو ويهبط بانفعالٍ هائجٍ يتخيل صغيره مكان هذا الفتى المغدور، ولكن كيف يقتل الأب ابنه؟؟
سحب نفسه من بؤرة صدمته التي كبلت أطرافه وشلت تفكيره ثم جلس على إحدى ركبتيه وأسرع بوضع أصابعه بالقرب من عُنق الصغير ثم هدر مغلولًا في رجاله الواقفين حوله في دهشةٍ:
-اطلبوا الإسعاف.. انصرفوا.. اعملوا أي حاجة!!!
رفع بصره ينظر إلى ثباتهم بأعين يقدح الشرر منها بينما اقترب "كمال" منه ثم جلس على ساقيه أمامه وردد بتنهيدة عميقة:
-تيم، الولد مات، وبعدين إنتَ خارج من السجن تحت المراقبة، إنتَ ما ينفعش تغلط تاني لأن المرة دي لو دخلت مش تخرج!!.
حدجه "تيم" بحدةٍ وردد عاليًا:
-يعني أيه الواد مات؟! إنتَ مش قولت لي إن الواد دا ابنه؟؟ قتل ابنه إزاي فهمني؟؟؟
كان لا يزال يحمل رأس الصغير بذراعه وبالذراع الآخر أسرع بالقبض على ياقة "كمال" يشدها بقوةٍ مرددًا بلهجة شديدة:
-جاوبني، الواد دا ابنه ولا لأ!!
وضع "كمال" قبضته على ذراع "تيم"، أخذ نفسًا قبل أن يقول بلهجة ثابتة:
-المفروض إن دا ابنه، بس شكل في غدر في الموضوع، أنا مش فاهم أيه اللي حصل دا لحد دلوقتي، بس اهدى وأنا هدور في الموضوع!!.
تيم وهو يترك ياقته ويقول مختنقًا:
-لو مش فاهم يبقى تفهم.
سكت لبُرهة ثم وزع نظراته بين رجال الأخير مضيقًا عينيه في غموضٍ قبل أن يقول بغلظة ونبرة أشبه بفحيح الأفعى:
-لو مش هتعرف تجيب رجالة تثق فيهم يبقى تقعد على دِكة الاحتياط تتفرج يا كمال.
وصلت الرسالة واضحةً لعقل "كمال" الذي نظر بتمعن إلى رجاله يحاول قراءة ما يجول في عقل "تيم" الذي إن استبدت به الريبة ناحية أحد لا ينفك دون التأكد من ذلك، نزل "تيم" ببصره إلى وجه الصغير الذي ينام في سكينةٍ بعد أن تلقى رصاصة غادرة لم تكُن في حسبانه، يا تُرى ما الذي حلم به الصغير قبل موته بلحظات؟! هل تلقت نفسه لتناول أكلة معينة؟ هل وَد أن يذهب إلى بيته من جديد للاستمتاع بألعابه في سلام؟! هل ظن أن الحياة طويلة وكافية لتحقيق كافة ما يحلم به؟! هكذا يظن الإنسان أن الحياة طويلة الأمد أمامه ويمكنه أن يتجول بدراجته النارية بين طرقاتها كما وكيف يشاء بينما الموت ينتظره على حافة إحدى هذه الطرقات لأن وقته قد انتهي!.
استفاق من شروده بوجه الصغير على صدوح نغمة هاتفه المحمول، دفن يده بفتورٍ داخل جيب بنطاله ثم التقط الهاتف ونظر إلى شاشته لثوانٍ قبل أن يتبادر إلى ذهنه لمن تنتمي هذه المكالمة التي تأتي من رقم مجهول، وضع الهاتف على أذنه دون أن ينبس ببنت شفةٍ في انتظار الطرف الثاني أن يفضي بما فيه جُعبته معتقدًا الانتصار:
-مكنش لازم أبدًا تلعب معايا لعبة وسخة زي دي، عاجبك اللي حصل في عيل بريء ملوش ذنب؟!!
أراح "تيم" رأس الصغير بالأرض ثم ربت برفقٍ على وِجنته، استقام واقفًا بعد ذلك يستمع ولا يُجيب، فتكلم الأخير ثانية:
-طبعًا إنتَ بتسأل إزاي قتلت ابني؟!.
أخذ "تيم" نفسًا عميقًا إلى صدره ثم بدأ يتمشى بين رجال "كمال" الواقفين من حوله، أحد البصر إلى وجوههم الواحد تلو الآخر، ثم تكلم هذه المرة بلهجة حادة:
-لو ماقتلتوش المرة دي، فهتقتله المرة الجاية، ابنك هيموت على إيدك، أنا مش دجال ولا ساحر، بس لمَّا دا يحصل قريب هيعلمك تخاف مني أكتر من كدا.
همَّ "الرئيس" أن يتكلم فقاطعه "تيم" بلهجة هادرة حادة:
-شكل فيديو الرقص اللي نِزل جاب لك أرباح حلوة؟؟ جاب لك أرباح مش كدا؟ قول ما تتكسفش!!
اِفتر ثغره عن ابتسامة متهكمة واستكمل يُقابل صمت الأخير بلهجة ثابتة:
-يبقى جاب لك أرباح حلوة وإنتَ مبسوط بالتجربة وحابب نكررها، وأنا تحت أمرك يا رئيـــــس، طالما نبشت عِش الدبابير المسموم.. يبقى القَرص بالكوم.
جاءه صوت الأخير يقول بحدةٍ:
-عارف الواد اللي مات دا جايبينه منين؟!!
تلقى "تيم" سؤاله بملامحٍ جامدةٍ لا تُعبر عن اهتمامه أو فضوله حيال ما طرحه من سؤال بدا سخيفًا، في هذه اللحظة تحرك بخطوات ثابتة نحو أحد الرجال ثم وقف أمامه وباغته بضربة خفيفة على كتفه ثم ابتسم في مكرٍ، شعر "الرئيس" باستخفاف الأخير من سؤاله، فتابع مُتأكدًا من تحفيز انتباهه هذه المرة:
-من الملجأ اللي اتربيت فيه يا سفاح.
استحال لون وجهه في لحظة إلى حُمرة الغضب، وأنزل الهاتف عن أذنه مُسرعًا، حدق "تيم" إلى الرجل الواقف أمامه بنظرات ناقمة تحوي بداخلها جمرات من الضيق وحاجة الانتقام، ابتلع الرجل ريقه بخوفٍ بالغٍ من نظرات الأخير الغامضة نحوه، ليسرع "تيم" بوضع الهاتف على أذن الرجل الذي أمامه ثم صاح هادرًا بصوت أجشٍ:
-وَدع رئيـــسك يا حبيبي!!.
انتفض جسد الرجل انتفاضةً رجت جميع حواسه، فقد قدرته على الكلام في هذه اللحظة، بقى يستمع إلى صوت "الرئيس" الذي يقول بلهجة منشرحة ظافرة:
-تيم، روحت فين؟!
حدج "تيم" الرجل بنظرات ناقمة وأشار له بعينيه أن يرد على الأخير بدلاً عنه، جاهد الرجل أن تخرج الحروف من فمه للحظات حتى أردف بنبرة خفيضة متلعثمة:
-الحقـ..ققـ.. ني يا رئيس!!!
انفلتت ضحكة مُستخفة من فمٍ "تيم" حينما نظر إلى وضع هذا الرجل الذي يقف أمامه ويكاد من فرط الخوف أن يتبول في بنطالونه، اندهش "الرئيس" ما أن وصله صوت رجله، فعض مغتاظًا على شفته من عدم فلاح جميع خططه في خديعة السفاح أو اللعب معه، فدومًا ما ينجح "تيم" في اكتشاف كافة خططه واستغلالها ضده تمامًا، أسرع "الرئيس" بإغلاق المكالمة بينما هتف الرجل برجاءٍ وذعرٍ:
-يا رئيس!!
أنزل "التيم" الهاتف عن أذن الرجل ثم نظر إلى شاشته وتأكد أن "الرئيس" بهذا يكون قد سحب يده من مهمة إنقاذ هذا الرجل الذي اُكتُشفت خيانته لهم وانتمائه لعدوهم غير أبه بما سيلقى هذا الرجل من موتة شنيعة تليق بخيانته!!
التفت "تيم" نحو "الزير" يعطيه الهاتف، وقبل أن يتناوله الأخير ردد بنبرة هامسة خفيضة بالقرب من أذنه:
-تيم، دا مش الوقت ولا المكان المُناسب، المدام بتتابع كل حاجة من الشباك!!.
نظر له "تيم" بعينين فاترتين تخلوان من الحياة تمامًا ثم التفت ببصره بهدوءٍ صوب نافذة غرفته، فأبصرها تحمل رضيعه وتنظر بترقب وخوف إلى ما يحدث، نفخ بقوةٍ وحنقٍ قبل أن يلتفت ناظرًا من جديد إلى الرجل الذي يرتعش من فرط الخوف والرهبة، بينما تابع "تيم" من بين أسنانه المطبقة:
-خدوه على المخزن.
توجه بكلامه هذه المرة إلى "الزير"، واستكمل:
-وإنتَ يا زير.. خُد شوية من الرجالة وادفنوا الشهيد في مقابرنا.
أومأ "الزير" مُذعنًا للأوامر التي تلقاها من صديقه، توجه مسرعًا صوب الصغير ثم مال بجذعه العلوي وقام بحمله بين ذراعيه ونهض مجددًا، التفت "تيم" ينظر إلى الصغير مرة أخيرة، ثم ردد بصوتٍ مخنوقٍ:
-أبقى حط زرع وورد على قبره، ووصي الحارس يسقيه كل يومٍ.
نظر "الزير" إلى عيني صديقه اللاتي تلمعان بتأثر رغم ما يُظهره من كِبر وثبات يتنافى تمامًا مع انهيار من بقى من صلابةٍ داخلية له، أومأ في صمتٍ وصار وخلفه مجموعة من الرجال يقصدون طريقهم إلى مقابر عائلة "الحوتي" التي لم يُدفن بها أحد من قبل وسيكون الصغير هو أول من يسكنها، حيث أن عائلة كمال بأكملها يدفنون موتاهم بقريتهم في الصعيد بينما قرر هو أن يعيش بالقاهرة ويُدفن بها بعد انقضاء عُمره في هذه الحياة.
فرغت الحديقة من الرجال تمامًا، فبعضهم ذهب برفقة "الزير" لإتمام مهمتهم والبعض الآخر اصطحب الخائن إلى المخزن حتى يأتيهم قرار التخلص منه، وقف "تيم" ينظر بخواءٍ لكُل شيء حوله قبل أن يتقدم منه "كمال" ويربت على كتفه مرددًا بثباتٍ:
-هون على نفسك.. إنتَ ما أذتش برئ.
قال "كمال" جملته ثم غادر إلى المخزن بخطوات مُستعرة تنم عن رغبة قاتلة وعاصفة على وشك الاندلاع، رفع "تيم" بصره نحو النافذة، فوجدها تباشر في إغلاق النوافذ والستائر أيضًا، فتأكد من تملُك الخوف والذعر منها، هرع بخطوات متعجلة إليها لاحتواء خوفها واستبداله بطمأنينة، وقفت "سبأ" في منتصف الغرفة تحتضن رضيعها بلهفةٍ وذعرٍ وتنظر إلى النوافذ المغلقة بتمعنٍ للتأكد من أنها لم تترك نافذة إلا وأغلقتها جيدًا، في هذه اللحظة، فتح "تيم" باب الغرفة، فانتفض جسدها مذعورًا ليُدرك "تيم" على الفور تعرضها لحالة من الهلع، هرع إليها ثم أردف بنبرة لينة بينما يهم بسحبها إلى صدره:
-سبأ!!
صرخت بصوتٍ متحشرجٍ، وضعت كفها على صدره ثم دفعته بقوةٍ واهيةٍ بعيدًا عنها ورضيعها، نظر "تيم" إلى كفها بضيقٍ ثم رفع بصره يُطالع عينيها الدامعتين بتأثر وحُزن بالغ، ابتلع غصة مريرة في حلقه ثم قال بنبرة هادئة:
-إنتِ شوفتي بعينك يا سبأ.. أنا مليش ذنب في اللي حصل.. إنتِ مصدقاني صح؟!!.
انهمرت دموعها فورًا وهي تتراجع بخطواتها للوراء ترفض لمساته، ظلت تتراجع إلى أن التصق ظهرها بالحائط ووقفت مرتابة في زاوية بعيدة عنه، لم تجيبه، ضمت رضيعها بمتانة إلى صدرها تخشى عليه أن يكبر ويشتد عوده ثم يلقى مصير يشبه مصير ذاك الصغير الذي صُرع بُغتة وهوان، كان يرمقها بنظرة قلقة بينما أشاحت هي ببصرها عن نظراته تتجنب الالتقاء بعينيه والوقوع تحت تأثيرهما، فأردف من جديد يهم بالاقتراب منها:
-سبأ.. قرب مني.. إحنا لازم نتكلم بهدوء!.
حررت صرخة مهزومة من بين شفتيها وهي تردف بانهيار عصبي:
-اوعى تلمسني ولا تلمس ابني.. ابعد عننا.. إنتَ مش هتتغير.. أنا مش عايزة ابني يموت.
تيم وهو يردد مسرعًا بتريثٍ:
-محدش هيقدر يقرب منكم.. غيث هيعيش وهيكبر وسطنا.. محدش هياخد ابنك منك.. لو موتي في كفة ونجاتكم في الكفة التانية.. أنا أضحي بعُمري وروحي فداكم!!.
أجهشت بالبكاء تصرخ قهرًا:
-والطفل اللي مات دا.. ليه ما قدرتش تحميه.. علشان مش ابنك؟!!
مسح بكفه على وجهه وصاح باختناقٍ:
-مكنتش متوقع الغدر.. كُنت فاكر إني هسلمه لأبوه.. أنا مش ساحر علشان أخمن اللي هيحصل.. أنا مش مؤذي.. أنا طول عُمري بدافع عن نفسي وبس.. أنا مش البادئ.. ليه طول الوقت شايفة رد فعلي على كل أذى بتعرض له، جريمة؟؟؟.
صرخت بنبرة متهدجة:
-إنتَ وَعدتني بحياة مُستقرة، تقدر تقول لي ليه أشوف موقف زيّ دا؟؟ وليه أصلًا تنتقم منهم؟؟ أنا كويسة وابنك كويس والموقف عدا، وإنتَ خرجت من السجن، لازمته أيه الانتقام؟؟؟
رمقها بنظرة حادة حينما وجد في فحوى حديثها انهزام وجُبن، هل حثته للتو على التنازل عن حقه والخنوع للكمات العدو واحناء رأسه لهم حتى تنعم بحياة مُستقرة؟!، سحب نفسًا عميقًا إلى رئتيه ونظر إلى الرضيع الباكٍ بين ذراعيها من قوة اشتداد ذراعيها عليه مخافةً أن يُصيبه مكروه، فصاح "تيم" فيها بلهجة شديدة:
-هاتي الواد يا سبأ.. حالًا يلا!!.
أومأت سلبًا وهي تصرخ باختناقٍ:
-ابعد عن ابني قولت لك.. أنا كدا بحميه.
اندفع إليها باهتياج ثم ضغط بقوةٍ على رسغها ونظر بعينين حادتين داخل عينيها ثم قال بلهجة حادة:
-بتحميه مني؟ من أبوه؟
لم يُمهلها فرصة الرد، فأسرع بجذب الرضيع منها، ثم هدر عاليًا ينادي على مُدبرة القصر، سمعت "آماليا" نبرته الهادرة، فطلبت منها أن تتراجع ثم هرعت هي إلى الغرفة، طرقت بهدوء عليه، فجاءها صوته يأذن لها من الداخل، فتحت الباب بترقب وقلق شديدين، فهتف بها "تيم"، وقال:
-خدي غيث من الأوضة.
أومأت "آماليا" بطاعةٍ وتقدمت منه ثم التقطت الرضيع فيما صاحت "سبأ" باكية وهي تمد ذراعها نحو رضيعها:
-لأ يا تيم.. لأ علشان خاطري.. بلاش تاخده الجنينة.. بلاش تاخدوه بعيد عن حُضني.. مش عايزة ابني يموت.
قبض "تيم" فورًا على رسغها الآخر، كان قلبه يعتصر ألمًا من انهيارها وعدم ثقتها بقدرته على حمايتهما، أراد أن يُلقنها درسًا يشتد به عودها ويقوي به نفسها الضعيفة، نظر إلى "آماليا" وأشار لها بعينيه أن تنسحب، ففعلت الأخيرة فورًا وهي تخرج مسرعةً.
حررت "سبأ" صرخات مدوية في هذه اللحظة وهي تنظر بذعرٍ إلى خروج "آماليا" من الغرفة:
-هاتيــــه.. غيـــث!!.
أُغلق الباب مُجددًا بعد ذلك، توجهت بنظراتها إليه، بدت نظرات عدوانية لا تشبه ما يستقر داخل قلبها من عشق ولهٍ له، استشعر سخطها منه ولكنه لم يلين لها حتى تُدرك أن ضعفها يُصيب قلبه بوابلٍ من نارٍ تحرقه قبلها، حدقت فيه بنظرات ناقمة وصرخت في وجهه بسخطٍ:
-ابني لو حصل له حاجة أنا هقتلك.. أنا بكرهك.. ندمانة إني حبيتك واتجوزتك.
أغلق "تيم" عينيه بقوةٍ يتجاوز عمَّا يصدر منها تحت سيطرة قلبها المكلوم ألمًا، كورت قبضة يدها أمام ناظريه وأكملت:
-أنا حبيتك وإنتَ في المقابل بتعمل أيه؟! إنت ماسك قلبي بين إيدك وبتعصره من غير رحمة، ليه مش عايز تعيش معانا وتتخلى عن ماضيك الأسود، كان لازمته أيه الانتقام؟؟ ليه مُصر تخسرني وتخسر ابنك؟؟
ضغط بشراسة على كتفها ثم طفق يهزها بقوةٍ مرددًا بصوت جهوري:
-مفيش مخلوق على وجه الأرض يقدر يخسرني ابني يا سبأ، أنا مش عيل متني ولا ناقص رجولة علشان معرفش أرجع حق مراتي وابني.
سكت لبُرهة ثم أضاف وهو ينهرها بأنفاس لاهثة:
-عايزاني أطاطي علشان ترضي عني!!.. مش هطاطي يا سبأ.. قدرك تتجوزي واحد حقه مش بيبات برا حدوده.. احترمي اختلافي عن أي راجل قابلتيه في حياتك كلها.. أنا تيم السفاح يا سبأ!!.
في هذه اللحظة، شرعت تضرب صدره قبضتها في غيظٍ مُستعرٍ وهي تردد بنبرة ساخطة:
-إنتَ فعلًا سفاح وأنا مش هقدر أكمل معاك خطوة كمان.
رمقها بتحدٍ وأردف بلهجة شديدة سامحًا لها بضرب صدره وإفراغ ما يغمرها من مشاعر سلبية مؤقتة تجاهه:
-وإنتِ حرمه.. وقدامك دلوقتي حل من حلين مفيش غيرهم عندي.. تحبيني زيّ ما أنا أو أقتلك وأقتل نفسي.. لكن بينا مش هيكون في مجال اسمه فراق.
انهمرت دموعها بانهزام وهي تتوقف عن ضرب صدره بكل ما تملك من غلٍ تحول إلى استسلام، فرمت برأسها على صدره ثم أردفت بقلةٍ حيلةٍ:
-اقتلني واقتل نفسك وخلينا نرتاح كُلنا.. لأن أنا حتى الفراق مش قادرة عليه.
تبدد ثباته تمامًا فأحاط جسدها بذراعيه وضمها بقوةٍ إلى جنباته حتى شعر بوهج جسدها الهزيل الذي تنبعث نيران الغضب والانفعال منه، دفن وجهه بخصلاته ثم رد بنبرة لا تطيق صبرًا على رضاها عنه وإزالة الحواجز الشديدة والنفسية من وسطهما:
-إنتِ بتظلميني يا سبأ.. لأنك مش قادرة تتخطي صورتي الأولى في أول مقابلة بيننا وشايفة طول الوقت إني مؤذي.
لانت نبرتها وبعدما كانت تضم ذراعيها إلى صدرها معًا، قامت بإرخائهما ثم وضعتهما حول خصريه في استجابة واضحة منها لعناقه كما فعل هو، ابتلعت غصة مريرة في حلقها وقالت بقهرٍ ويأسٍ غلفا بحة صوتها:
-إنتَ حياتك كلها ضلمة.. حتى قلبك مضلم يا تيم.
ضوى بريق في عينيه وهو ينظر إلى الفراغ أمامه، ابتعد عنها مسافة ضئيلة قبل أن يحتوي وجهها بكفيه جابرًا إياها على النظر داخل عينيه ثم ردد بنبرة مخنوقة:
-إنتِ وغيث النجوم في ضلمتي.. مش من حقي أشوف نور!!
وصلتها بوضوح ضعف أنفاسه المُثقلة بالمآسي والآهات المكبوتة منذ الكثير من السنوات دون أن يُصرح عنها يومًا، رفعت ذراعيها تلفهما حول عُنقه، بينما شدد هو ضم ذراعيه المفتولين حول جسدها في عناقٍ حارٍ ورطب أزال عن أنفاسه مرارة أوجاعه الخاملة المدفونة بين ثنايا قلبه، شعر برغبة جامحة في إلقاء رأسه الثقيل على كتفها وأول ما تبادر إلى ذهنه هذه الجملة بالتحديد: "من الملجأ اللي اتربيت فيه يا سفاح".
بدت جُملة عادية ولكنها أيقظت نيران عاتية ترقد منذ زمنٍ برفقة ذكرياته، ولكن كلمة "ملجأ" بمثابة بؤرة الظلام التي أخبرتها عنه زوجته الحبيبة، فكل الجبروت والقسوة الساكنين فيه نتاج حياة الملجأ القاسية. لذا ثمة أماكن تطرحك أرضًا من فرط الحنين، وأخرى تنبش قبر الذكريات المبني على أوجاع قلبكَ.
•~•~•~•~•~•
جلسا على ركبتيهما داخل مدخل هذا البناء الذي يتجهز ضمن مشروعات الإسكان الاجتماعي للبناء والتعمير لدعم الشباب، يعمل "أنس" برفقة أخيه "مُنذر" كعُمالٍ داخل هذا المشروع، حيث يعملان سويًا في تركيب رخام وجرانيت السلم والأرضيات داخل هذه العمارات السكنية التي توشك على التسليم، بدلا ملابسهما الأنيقة بأخرى مُهلهلة تفي بالغرض أثناء العمل، التقط "أنس" الرُخامة بينما قام "مُنذر" بوضع الجص أولًا، كانت حالة من الصمت تسيطر على الأول، نفخ "مُنذر" بقوةٍ وتابع دون أن يتوقف عمَّا يفعل:
-إنتَ هتفضل على الوضع الصامت كتير!!، الموضوع بسيط يا قط.
زفر "أنس" زفرة قوية وكأنه انتظر حتى ينبش الأخير غضبه، فتكلم فورًا بملامح جامدة وهو يُثبت الرخامة بدقةٍ في مكانها:
-موضوع أيه اللي بسيط؟! هو أيه أصلًا اللي بسيط في حياتي؟! إننا نكون في كليات تتحط في عين التخين وبناخد أوامر وبنتهزق هنا من الصغير قبل الكبير؟؟ ولا البسيط في إن عندنا فلوس ما تاكلهاش النار وخالنا واكلها علينا؟؟ ولا بنته اللي جابت الناهية معايا علشان متدلعة ومفيش حد موقفها عند حدها!!
توقف "أنس" في هذه اللحظة عن الكلام بعدما انتهى من وضع الرُخامة، همَّ أن يمسح وجهه بكفيه لنفض الضيق عنه ولكنه نظر بسخطٍ إلى كفيه الملطخين بالجص والطلاء، ثم تحول ببصره إلى ملابسه الرثة وقال متهكمًا:
-بتقول لي عايزين نتجوز.. تيجي تشوف بسببها وبسبب أبوها أنا بعمل أيه دلوقتي.
مُنذر وهو يردد بنبرة هادئة يمتص بها غضب أخيه الذي أوشك على الانفجار:
-بس هاجر بتحبك.. مش صح ولا حق تاخدها بذنب أبوها.
رمقه "أنس" بنظرة جامدة قبل أن يردد بحنقٍ:
-عُمري ما خدتها بذنب أبوها.. دا كلام بفضفض بيه معاك.. اللي إحنا واصلين له في علاقتنا دا محدش له ذنب فيه لأنه نتاج أفعالها اللي زيّ الزفت وبعدين أنا ما بقيتش حِمل دلعها.. وأعتقد بعد اللي حصل منها آخر مرة.. كل بيبان الود بينا اتقفلت.
ضيق "مُنذر" ما بين عينيه وأضاف بعتابٍ:
-أيه يا عم الكلام الكبير دا.. البت بتحبك وإنتَ عليها ميت.. شوية الكلام دول تروح تقولهم لحد غيري بيريل.. أنا أخوك يا عم أنس.. عاقبها براحتك وخُد وقتك في زعلك.. بس وعود.. إحنا ما بنرجعش فيها.
لم يأبه هذه المرة بتلطخ كفيه، فرك "أنس" جبينه ثم تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وتابع:
-أنا محتاج أفصل من كل المسؤوليات اللي على دماغي بس مش عارف والمصيبة الأكبر إن فاضل على الأكاديمية أسبوعين ومش هعرف أشوفكم تاني غير في أجازة الترم الأول، وبكون عارف وأنا هناك إن المسؤولية تقيلة عليك وإنتَ شايلها لوحدك.
أسرع "مُنذر" بالربت على كتفه ثم ردد بمؤازرة:
-مش عايزك تشغل بالك خالص بالكلام دا، لو المسؤولية تقيلة، فبكرا تخف عني وأنا شايفك ظابط شرطة أد الدنيا، ركز في الأكاديمية وتمريناتك واوعي تشيل همنا، أمك وفاطمة في عيني وطلباتهم كُلها مُجابة.
اِفتر ثغر "أنس" عن اِبتسامة هادئة وقال بشرود فيما يخفيه له المستقبل:
-تفتكر هنقدر نجهز فاطمة بكل اللي نفسها فيه ونجوزها يا مُنذر!!
مُنذر بدعمٍ:
-قدها وزيادة يا حبيب أخوك.
•~•~•~•~•~•~•~•
-بقول لك أيه يا صالح، كُنت عايزة عشرتلاف جنية!!
أردفت "حنان" بتلك الكلمات وهي تنظر داخل هاتفها الذكي أثناء تمددها على سريرها بالغرفة بينما اعتدل "صالح" من نومته جالسًا ما أن استمع إلى طلبها، ضيق ما بين عينيه وردد متوجسًا:
-عشرتلاف تعملي بيهم أيه؟!!
تلوى شدقها باستنكارٍ وردت:
-ناقصين من الجمعية اللي هقبضها يا صالح.
التقط نظارته على الفور ثم ارتداها وأردف مرة أخرى بحيرةٍ:
-مش كل الناس دفعت أساميهم؟؟ تبقى ناقصة إزاي عشرتلاف!!!
أخرجت من فمها نفخة قوية ثم ألقت الهاتف على الوسادة بعصبيةٍ وتابعت:
-في اسمين خدتهم من صاحبهم وصرفتهم على الكُتب واللبس، يعني أعمل أيه، عايزني أروح الجامعة بعبايات حارة القط!!!
بلغ الغيظ مبلغه من صبر "صالح" الذي هتف فيها بنبرة مغتاظةً:
-يعني صرفتي عشرتلاف جنية على المحذق والملزق يا شايبة يا عايبة؟!!، إنتِ ناوية تجننيني؟ أنا لو عارف إنك بتكملي علامك علشان العلام نفسه ما أنا هشجعك لكن إنتِ بتعملي كدا علشان غيرانة من أمل أختك وعلشان يتقال المتعلمة راحت والمتعلمة جت.
استشاطت غضبًا في هذه اللحظة لتصرخ فيه بانفعالٍ هادرٍ:
-وهي أمل أحسن مني في أيه؟ وأيه يعني أما أبص لأختي وأكون عايزة أبقى زيها ولا أحسن منها حتى!!
صالح بلهجة شديدة:
-ياريت تبقي زيها لكن إنتِ ولا عُمرك هتكوني رُبعها، طول ما إنتِ باصة لنا من طرف مناخيرك ومتمردة على العيشة معايا أنا وعيالي، حتى بناتك مش عاملة لسمعتهم خاطر لمًَا يتقال قدامهم أمكم بتلبس ضيق وبتحط أحمر وأخضر في وشها، دا بناتك مش بيعملوا رُبع اللي إنتِ بتعمليه، احترمي سنك بقى وبكفاية مسخرة وقِلة وَعي.
لم تزيدها كلماته إلا إصرارًا فصرخت فيه بصوتٍ أعلى:
-عارفة إن علامي مضايقك علشان إنت مش معاك شهادة وحاسس بالنقص جنبي، بس دا بعينك أبطل تعليم، لأ دا أنا كمان هلبس وهحط مكياچ واللي له لسان بيطولوا على بناتي يتكلم قدامي علشان تكون دي آخر مرة يتكلم فيها.
همَّ مغادرًا الغرفة بأكملها حقنًا للدماء وقبل أن يخرج من باب الغرفة وجدها تقول بلهجة صارمة:
-والعشرتلاف لو ما اتصرفتليش فيهم.. أنا هقول للاسم اللي هيقبض إنهم معاك وييجي يطالبك بيهم.
صفق الباب بقوةٍ خلفه ثم اندفع بنيران مُتأججة للخارج في اللحظة ذاتها التي جاءت فيها "زهراء" واستمعت إلى المناوشات الأخيرة بينهما، نظر "صالح" إلى الفتيات الواقفات بصالة المعيشة في ضيقٍ ثم قال بنبرة هادئة محاولًا أن يفصل بين ما يضايقه ومن لا ذنب له في ضيقه:
-أنا خارج يا بنات.. هروح أشوف داهية أنام فيها.
رضوى وهي تتكلم فورًا بعتابٍ:
-وشقة ابنك راحت فين يا بابا؟؟؟
صالح وهو يربت برفق على كتفها:
-معلش يابنتي.. محتاج أخرج برا البيت خالص.
تكلمت "زهراء" بعد تنهيدة طويلة:
-بس إنتَ ما أكلتش حاجة يا بابا.. كُل لُقمة وبعدين أخرج مكان ما إنتَ عايز!!
تدخلت منار فورًا:
-بالظبط وأنا ورضوى حالًا وهنكون حاطين الأكل.
أوقفها "صالح" قائلًا بثباتٍ:
-كلوا انتوا بالهنا والشفا.
غادر على الفور شاعرًا بالضيق والاختناق كلما جلس بالبيت لثانية واحدة، تأججت نيران الغيظ والغضب داخل "زهراء" التي أسرعت صوب غرفة والدتها وما أن وقفت أمامها حتى هتفت بنبرة منزعجة:
-مش بيصعب عليكِ؟ بجد والله مش بتتأذي لما يخرج من البيت زعلان منك بعد شقى يوم كامل من شغل للتاني وهو مش حاطط لقمة في بؤه حتى؟؟ للدرجة دي بيهون؟؟ طيب الحُب اللي بيهون ولا العِشرة؟؟ حرام عليكِ تجريح وقسية عليه بقى!!
هبَّت "حنان" من مكانها وكأنها كانت تنتظر من تفرغ فيه ضغينة غضبها من زوجها ويبدو أن "زهراء" هي فريستها دائمًا، تقدمت منها ثم هوت صفعة قوية على وِجنة الأخيرة التي وقفت مُتسمرةً في مكانها من هول الصدمة فيما رددت "حنان" بلهجة شديدة:
-تعالي يا بنت صالح علميني الأدب ياختي.. تعالي ربيني أحسن.. يلا غوري من وشي وإنتِ كُلك أبوكِ كدا!!
تلألأت الدموع في عيني "زهراء" قبل أن تنصرف منكسة الرأس تبكي في صمتٍ مُقهرٍ، نظرت "منار" إلى شقيقتها بأسى وحُزن، لتتوجه "زهراء" مُسرعةً خارج البيت فتُقرر "منار" تتبعها لشدة قلقها عليها.
هرعت "زهراء" إلى بيت خالتها "حُسن" بعينين تنسكب الدموع منها بحرًا، وما أن رأتها خالتها أمامها على هذه الحالة حتى شهقت بفزعٍ وتساءلت متوجسةً:
-بت يا زهرا.. مالك؟!.
تجاوزت خالتها متوجهةً صوب غرفة "فاطمة" وهي تقول بشهقات مُتقطعة:
-مخنوقة شوية يا خالتو.. هنام في أوضة فاطمة.
زوت "حُسن" ما بين عينيها في حيرةٍ بينما فتحت الأخيرة الباب وتوجهت داخل الغرفة، فيما شهقت "فاطمة" فورًا بفزعٍ وهي تلتفت نحو الباب بعدما قامت بإخفاء شيء ما خلف ظهرها، لم تبال "زهراء" بتوترها أو ما تخبئه وراءها، فأسرعت ترمي بنفسها على السرير وما هي إلا ثوانٍ حتى انفتح الباب مرة أخرى، فشهقت "فاطمة" من جديدٍ فيما تكلمت "منار" بسخرية وهي تغلق الباب خلفها:
-شوفتي عفاريت ولا أيه يا شيخة فاطمة؟؟
أغمضت "فاطمة" عينيها ثم تنفست الصعداء وهي تقول بنبرة مسترخية:
-لأ فزعتوني بس.. افتكرتكم ماما.
قامت بإرخاء ذراعها والكشف عمَّا كان يختبئ خلفها، فتكلمت "منار" من جديدٍ بتوجسٍ:
-أيه اللي في إيدك وكُنتِ مخبياه دا؟؟!
تهللت أسارير وجه "فاطمة" وهي تتحرك صوبهما ثم رددت بابتسامة عريضة:
-دا نِقاب اشتريته امبارح وكُنت بجربه.. بصوا يا بنات.. شكله حلو أوي فيَّا.
كانت "زهراء" تجلس على الفراش ضامة ساقيها إلى صدرها وواضعة جبهتها على ركبتيها، فلم تلحظ "فاطمة" بكائها الصامت، رفعت "زهراء" رأسها تنظر إلى ابنة خالتها فيما نظرت إليها "فاطمة" وتكلمت في دهشةٍ وانتباهٍ:
-زهراء، إنتِ بتعيطي؟!!
تلوى شدق "منار" التي تابعت بضيقٍ كبيرٍ:
-خناقة مع ماما كالعادة.
أومأت "فاطمة" بتفهم ثم اقتربت من ابنة خالتها وطبعت قُبلة رقيقة على جبينها ثم رددت بترفقٍ:
-بكرا ربنا يهديها ويروق الحال بينكم.
منار بعد تنهيدة بسيطة:
-يارب.
هبَّت "فاطمة" واقفةً من جديدٍ أمامهما قم رددت بحماس متلألأ:
-أيه رأيكم تشوفوا شكلي بالنقاب.. أقسم بالله زيّ القمر.. مش كبيرة ولا عجوزة زيّ ماما ما بتقول.
أومأت الفتيات إيجابًا، تطلعتا إليها باهتمامٍ فيما تحركت هي نحو المرآة ثم وقفت أمامها، لفت خُمارها بدقة واهتمام ثم عقدت النقاب على وجهها بعد ذلك، لمعت العَبرات في عينيها وهي تنظر إلى هيئتها النضرة والراقية عبر المرآة، التفتت مُسرعةً تطالعهما، فأبصرت نظرات من الإعجاب والانبهار مصوبة إليها، لتهتف "منار" بإعجاب حقيقي:
-شكلك فيه كتكوتة بجد يا فاطمة.
تكلمت "زهراء" بعد أن تدبرت اِبتسامة هادئة:
-المرة دي لازم تصري على قرارك وتحاربي علشانه.
عضت "فاطمة" على شفتها السُفلى قبل أن تردد بنبرة سادرة قلقة:
-تفتكري لو خرجت وريت شكلي فيه لماما، ممكن تلين وتقتنع؟!.
منار بنبرة حماسية تغلفها العزيمة:
-أنا من رأيي الكلام عنه حاجة وأنها تشوفك لابساه حاجة تانية.. أنا شايفة إنك توريها شكلك فيه.. يمكن تتقبله وتوافق المرة دي!!.
أخذت "فاطمة" نفسًا حماسيًا إلى صدرها ثم عقدت النية للخروج أمام والدتها بهيئتها الجديدة علها تميل وتلين لرغبة ابنتها، أدارت "فاطمة" مقبض الباب بتريث واستعداد ثم خرجت بحسمٍ إلى الصالة رغم توترها، كانت "حُسن" تتابع شاشة التلفاز بعينيها وما أن وقفت "فاطمة" أمامها حتى زوت ما بين عينيها ثم رددت وهي تنفخ داخل جلابيتها:
-بسم الله الرحمن الرحيم.. بيطلعوا منين دول.. مين إنتِ؟!
ردت عليها "فاطمة" بنبرة شديدة التوتر والتلعثم:
-أ أأأ نا يا ماما.. فاطمة!.
رفعت "حُسن" أحد حاجبيها قبل أن تتجهم معالم وجهها وتضع أصابعها أسفل ذقنها مُرددة بغيظٍ:
-بت يا فاطنة.. أنا مش قولت لك مفيش لبس البتاع دا غير لمَّا أجوزك وتغوري من وشي؟! ولا إنتِ عايزة تعنزي وتقعدي جنبي!!!
تلوى شدق "فاطمة" من أسفل النقاب بإحباط شديد، فقالت بحنقٍ:
-يعني يا ماما النقاب هو اللي هيصرف النصيب عني؟! قولت لك مليون مرة مفيش حاجة بتمنع رزق ربنا لينا، لا نقاب ولا غيره، علشان خاطري بقى يا ماما وافقي!!.
هبَّت "حُسن" من مكانها ثم اندفعت صوب ابنتها التي نظرت بذعرٍ إلى تقدم والدتها منها التي ما أن وقفت أمامها حتى تخصرت ثم صاحت بحدة:
-اقلعي يا نفسية البتاع دا.. اقلعي كدا ووريني خامته أيه؟!!
زوت "فاطمة" ما بين عينيها ولكنها استجابت على الفور لطلب والدتها تُحسن الظن بصفاء نيتها، قامت "فاطمة" بفك العُقدة من حول رأسها ثم ناولته لوالدتها التي ما أن التقطته منها حتى هتفت وهي تضغط عليه بغيظٍ بين كفها:
-خامته زيّ الزفت.
قالت جملتها ثم انصرفت بحركة غاضبة نحو المطبخ، هالة من الحُزن والضيق أحاطت بـ "فاطمة" التي اندفعت خلف والدتها تتساءل في توجسٍ عمَّا ستفعله والدتها؟؟ وقد جاء إلى ذهنها إلقاء والدتها له في سلة المهملات كما تفعل بكُل شيء لا تستهويه.
-ماما.. علشان خاطري ما ترميهوش في الزبالة!!
حدجتها "حُسن" بنظرة جامدة قبل أن تتجه إلى الموقد ثم تشعل أحد عيونه، نظرت "فاطمة" إلى تأجج النيران بأعين مُتسعة لتقوم والدتها مسرعة بإلقاء النقاب على النار التي التهمته على الفور، نظرت "فاطمة" إلى والدتها بقلب مكسورٍ وعينين دامعتين ثم رددت بنبرة باكية:
-ليه حرقتيه طيب؟!! مكنتش هلبسه من غير رضاكِ، بس ليه تحرقيه؟!!
صرخت "حُسن" في وجهها وهي تتحرك خارج المطبخ:
-علشان لو فكرتي تشتري غيره تكوني عارفة مصيره.
ألقت كلماتها التي كالجمرٍ في وجه ابنتها ثم غادرت بمشاعر حانقة، وقفت "فاطمة" في مكانها تبكي بحُرقة وانكسارٍ، فجاءت "منار" إليها والتي كانت تتابع ما يحدث عن كثبٍ، ضمتها إلى صدرها فأجهشت "فاطمة" بالبكاء بصوتٍ أكثر ارتفاعًا واختناقًا.
•~•~•~•~•~•~•
تسطح جسد الرجل على وجهه بالأرض بعد أن تلقى ضربًا مُبرحًا استمر لساعة كاملة، فقد أمر "كمال" رجاله بالتسلي عليه وتلقينه درسًا عن الانتماء وعقوبة الخائن الذي يعض على أنامل أرباب عمله، طفق الرجل يصدر تأوهات متألمة أثناء نومها بالأرض نتيجة للكدمات التي ملأت كل ذرة بوجهه.
لم يُكابد "كمال" عناءً في جعله يُفصح عمَّا حدث معه بالضبط، فالخائن لا يمكنه أن يكون أمينًا حتى على نفسه، سرد الحكاية بأكملها على مسامع "كمال" ورجاله، بأن "الرئيس" طلب مقابلته ثم وضع أمامه حقيبة من الأموال التي أغرته فورًا في مقابل إبلاغه بأي خطوة يقوم بها "تيم" وتشكل خطورة على الأخير وعائلته، وحينما أبلغه الرجل برغبة "تيم" في الوصول إلى ابنه واحتجازه، طلب "الرئيس" منه أن يأتي بصبي بدلًا من ابنه إن وكله "تيم" بذلك وأن يوهم الجميع أن الصغير يكون ابن "الرئيس" وقد وجهه إلى أحد الملاجئ لسرقة صبي من هناك يساوي عُمر ابنه.
استدعى "كمال" حضور الأخير الذي استشاط غضبًا ما أن سمع اعترافه، أخرج سلاحه من جيب بنطاله ثم صوبه على رأس الرجل المرمي على الأرض ولكن "الزير" أسرع بالقبض على ذراعه ثم ردد بثباتٍ:
-أكيد في طريقة تانية غير دي.. سيبه دلوقتي لحد ما تهدى!!
نفخ "تيم" بقوةٍ واستبد به الحنق حتى نفرت عروقه، بينما تابع "كمال" بلهجة ثابتة:
-تيم، ميعادنا عند المحامي كمان ربع ساعة، يعني لازم نتحرك!!
رمقه "تيم" بنظرة ثابتة، وقال:
-وهو ما يجيش ليه؟؟
افتر ثغر "كمال" عن اِبتسامة مُتهكمة ثم ردد:
-لاااااا.. دا مش هو اللي ييجي لنا.. دا إحنا اللي بنروح له.
رفع "تيم" أحد حاجبيه ثم ردد بجمودٍ:
-ليه؟! حضرته معالي الوزير!!
أومأ "كمال" إيجابًا ثم ردد بابتسامة هادئة:
-بالظبط.. معالي الوزير سابقًا.
اندهش "تيم" في حالة استغراب ولكنه توجه للخارج برفقة "كمال" و "الزير"، يتوجهون إلى السيارة منطلقين إلى مقر المحامي الجديد الذي سيتولى قضية "تيم السفاح" للفترة القادمة رغبةً في الحصول على براءة أو حُكم مُخفف بعد قبول النقض، وقد قصده "كمال الحوتي" تحديدًا لما له من خبرة وباع في مهنة المُحاماة بعد أن تولى منصب وزير الثقافة والإعلام في فترة سابقة من الماضي، إنه صاحب دهاء كبير وكلام قليل، فهو رجل ضليع، لديه حكمة وحنكة يمتلكهما في إدارة ملفات قضيته، ولا يخرج في النهاية في أيًا من قضاياه إلا مُنتصرًا، ولكنه ورغم ذلك، مُحال أن ينصر الظالم أو يتولى قضية تصطف في صالح إنجازاته العظيم بالدنيا ويجدها في الآخرة ضلالًا وليس إنجازًا.
توقفت السيارة أمام باب الفيلا الداخلي الضخم، هبط الثلاثة بهدوء بينما انفتح باب الفيلا وظهر أمامهم بوجهٍ بشوشٍ وابتسامة واثقة، تحرك "كمال" مُسرعًا إليه يصافحه بحرارة، ثم جاء دور "تيم" الذي صافحه بثباتٍ وهو يتساءل بفضولٍ:
-أستاذ....!!!
ابتسم الأخير وردد بلهجة صامدة:
-سليــــم النجــــدي.
يتبع
#حرم_السفاح
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
حَرم السفَّاح.
Aksiنوڤيلا 2023 (حَرم السفاح) تأليف/علياء شعبان كاملة. ••••••••••••••••• "مُقدمة" أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاس...