الفصل الثالث]]
غطت في سبات طويلٍ وهي على نفس حالتها؛ تحتوي جسدها بذراعيها المرتجفين في إنهاكٍ، لم تشعر بنفسها أبدًا وقد أكل النعاس جفونها من فرط الإرهاق، بدأ خيط رفيع من النهار يتسلل عبر نوافذ الغرفة إليها ولكن هذا أيضًا لم يوقظ الوعي فيها إلا عندما فتح "تيَّم" الباب وهو ينظر إليها باستغراب ثم سار نحوها وقال بصوت خشنٍ أثار الفزع في قلبها:
-إنتِ!!.. يلا استعدي.
بدأت ترفع وجهها رويدًا وقد أصاب عظام ظهرها ألمًا فظيعًا لثباتها في مكانها لفترة طويلة بصورة غير معتدلة، حركت أهدابها بضيقٍ حينما أصبح نور الصبح متعامدًا على عينيها، وضعت كفها أمامها تحجب الضوء ثم نظرت إليه ورددت بصوت هذيل:
-خلاص همشي!!
أومأ عاقدًا ذراعيه أمام صدره:
-هتمشي.. بس اوعي تنسي اتفاقنا!
ابتلعت ريقها بتريث وبعض الأمل ثم أومأت موافقةً في استسلام وقالت:
-أنا لا شوفتك ولا أعرفك.. صدقني مفيش كلمة هتخرج مني بس الهي ربنا يسترك ويتوب عليكِ من الذنوب دي لتمسح الفيديو!!
تنهد تنهيدة طويلة ممدودة بصبر نافد:
-قولت لك طول ما إنتِ خارصه؛ الفيديو دا ولا كأنه موجود على وش الأرض.
دعكت جبينها بإنهاك وقررت أن تتوقف عن الجدال معه وإلا أغضبته وتراجع عن قرار ذهابها، أومأت ثم ردت بنبرة غُلبت فيها على أمرها:
-اللي تشوفه يا تيم بيه.. أمشي دلوقتي!!!
رفع أحد حاجبيه وردد بانفعال حاد:
-يا مين؟!!
ابتلعت غِصة مريرة في حلقها ثم ردت بتلعثمٍ وندمٍ:
-حقك عليا.. اعتبرني مقولتش حاجة.
أشار بإصبعه نحو باب الغرفة ورد بحسمٍ:
-طيب يلا قدامي.. في عربية مستنياكِ تحت.
دب الأمل في قسمات وجهها التي انبسطت بسعادة كبيرة وراحت تمشي بخطوات طويلة أمامه حتى خرجا من باب القصر، وقف "تيَّم" أمام سيارة سوداء ثم نظر داخلها وقال للرجل:
-مكان ما تحب تنزل، نزلها.
دخلت إلى السيارة بسعادة غامرة، بدأت السيارة تتحرك وعيناه بقيت تراقبها برصدٍ وثباتٍ فيما أشاحت هي ببصرها بعيدًا عنه وهي تتلهف أن ترى السيارة تبتعد كثيرًا عن هذا المكان الذي لا ترغب أن تعود إليه مرة أخرى.
"على الجانب الآخر من نافذة القصر".
كز على أسنانه بانفعالٍ جامحٍ حتى كاد فكه أن يتضرر، التقط السيجارة من فمه وراح يدعسها بقوة داخل المنفضة، يضغط عليها أكثر فأكثر حتى يخف شعور الغل والكراهية قليلًا ولكن دون جدوى، فوجود "تيَّم" لا يزيده إلا غضبًا وغيظًا خاصةً أنه الآمر والناهي دومًا وتعليماته تُطبق على جميع الرؤوس الكبيرة والصغيرة وكل الحاشية من حوله إلا هذا المتبجح القوي، لا يجد أية طريقة تجعل "تيَّم" طوع أمره وخاتمًا في إصبعه ولا يأتي بالود حتى، كُل الأمور التي يود أن يتخلص منها بنظافة لا يفلح في فعلها إلا "تيَّم" وملفه المتسخ بالجرائم وقضايا العنف والاستبداد يقع تحت يده؛ لذا لا يمكن معاداته بأي شكل سوى داخل نفسه فقط كما أنه يعلم أن "تيَّم" مُجرمًا مُحترفًا يفعل ما يحلو له ولا يترك ذرة شك فيه ولديه من الدهاء ما يجعله غامضًا لا يُقرأ ومن القوة الجسمانية ما يجعله يتلقى صفعة واحدة فقط تُخضعه لأكثر من عملية، يتساءل دومًا كيف لشخصٍ تيتم مُبكرًا ولا يوجد له غصنٌ واحدٌ حتى من شجرة عائلته أن يكون بهذه القوة بينما هو وحيدًا!!!
يلعن اليوم الذي أحس فيه بالعجز فقرر أن يستعين بقوة تدمر أعدائه فدمرته معهم؛ هكذا هو "تيَّم" لا يترأسه أحدًا ولا كبير ينحني له هكذا يكون شعاره.
•~•~•~•~•~•~•
-نزلني هنا!!
أردفت "سبأ" بهدوء وسكينة سيطرتا عليها ما أن رأت موقف الحافلات الذي يتجه إلى البلدة التي تقطن فيها، أوقف السيارة فنزلت منها على الفور وراحت تنظر للرجل بتوجسٍ وهي لا تصدق البتة أن الرجل لن يلاحقها أخيرًا ولن يعدو خلفها أحدٌ وسوف تذهب إلى بيتها مرة ثانية دون أن يصيبها مكروه، أدركت أن الأمر انتهى حينما ركبت الحافلة بينما انطلقت السيارة السوداء مغادرة الموقف.
أغمضت عينيها وطفقت تتنفس براحة كبيرة رغم تجمع الدموع في مقلتيها، ابتلعت ريقها بسهولة وهي تقول بصوت خافتٍ:
-الحمد لله يارب.. الحمد لله.. أنا كويسة ولسه عايشة وهشوف أمي مرة تانية.
أخذت تشكر الله كثيرًا أنها لا تزال على قيد الحياة إلى أن وصلت إلى الحي أخيرًا، ترجلت من الحافلة بشوقٍ جارفٍ ثم أسرعت بخطوات سريعة نحو بيتها وقبل أن تدخل البناية وجدت إحدى السيدات تقول بدهشة:
-سبأ!!، فينك من إمبارح دي الدنيا مقلوبة عليكِ!!
انتفض قلبها ذعرًا وهرولت داخل البيت وما أن وصلت إلى الشقة حتى وجدت اثنين من العساكر يقفون أمام باب الشقة وفي الداخل تسمع صوت نواح وعويل وقد تبين مؤخرًا أنه صوت والدتها بصحبة سيدات الحي، تحركت على مضض داخل الشقة وما أن رأتها والدتها حتى صرخت بانهيارٍ:
-سبأ!!.. بنتي.
نهضت بكُل ما أوتيت من قوة ثم هرولت إلى ابنتها وقامت باحتضانها بقوة كبيرة، ظلت "عزيزة" تتشبث بملابس ابنتها في فرحة وقهرٍ؛ مزيجان يعبران عن الفوضى التي أحلت بها والهواجس التي قضت على عقلها في غياب ابنتها؛ بينما دفنت "سبأ" رأسها بين ذراعي والدتها ثم رددت بنبرة خافتة هامسةً:
-ليه بلغتي البوليس يا أمي.. ليه بس!!
قطبت "عزيزة" ما بين عينيها في استغراب من حديث ابنتها فأبعدتها عن حضنها قليلًا وسألتها متوجسةً:
-سبأ، كُنتِ فين؟!!
حاولت "سبأ" السيطرة على نفسها والتعامل ببعض الهدوء والثبات لتقول بصوت خافتٍ:
-كُنت بايتة عند واحدة زميلتي يا أمي، لأن تليفوني وفلوسي اتسرقت ومعرفتش أرجع.
تدخلت إحدى السيدات تقول بصوت مجلجل:
-فداكِ أي حاجة يا بنتي.. المهم إنك كويسة ورجعتي بالسلامة.
أومأت "سبأ" في صمتٍ وبدأت السيدات يغادرن البيت وسط النظرات والهمسات التي لا تخلو من الاستغراب والاتهامات، انتظرت حتى فُرغ البيت تمامًا ووجدت أحد العساكر يقف أمامهما ثم يقول بثبات:
-يا ست عزيزة، أنا بلغت الباشا برجوع بنتك وطلب حضورك إنتِ وهي علشان نقفل المحضر.
أومأت وهي تقول بانصياعٍ:
-عيني يا بني.. ادينا بس دقيقتين نجهز.
أومأ وغادر فورًا بينما أغلقت "عزيزة" الباب وسحبت ابنتها من ذراعها وقادتها إلى الغرفة ليتمكنا من الكلام براحة خاصةً أن "عزيزة" لم تقتنع بكلام ابنتها التي لا تمتلك صديقةً واحدةً حتى منذ طفولتها إلى وجودها في الجامعة الآن.
-صاحبتك مين يا سبأ، فهميني يا بنتي أيه اللي حصل معاكِ بالظبط.. طمني قلبي!!
أخفضت صوتها وقالت بعينين دامعتين:
-هحكي لك كُل حاجة بس لازم تتصرفي علشان منروحش القسم.. لو روحت هناك هيقتلوني!!
جحظت عينا "عزيزة" ولطمت صدرها وهي تقول فزعةً:
-هم مين اللي هيقتلوكِ!!
انهارت "سبأ" على السرير تجلس إلى طرفه بإجهاد، وضعت رأسها بين كفيها وراحت تقص ما حدث معها من أول بوابة القصر وحتى عودتها وما هي النتائج المترتبة على ذهابها إلى مركز الشرطة الذي سيتم استجوابها فيه عن سبب غيابها يومًا كاملًا عن المنزل وهذا سيجعل هؤلاء الرجال يظنون أنها أخلت بالاتفاق الذي دار بينهم ويقومون بقتلها أو نشر ذلك الفيديو الفاضح لها.
-يا مصيبتي.. يا فضيحتي.. يا ميلة بختك يا عزيزة إنتِ وبنتك.. أجيب لهم منين ناس تقف في وشهم.. دا إحنا طول عمرنا في حالنا.. دا إحنا غلابة يارب وملناش حد نلجأ له غيرك.
سبأ وهي تقول باختناق:
-دلوقتي هنعمل أيه مع العساكر اللي برا؟!!
عزيزة بحيرة وتيه:
-مش عارفة!!
في تلك اللحظة سمعت طرق على باب البيت ففهمت أن العساكر يستعجلوهما للذهاب إلى المركز وغلق المحضر الي تحرر بالأمس واستجواب المتغيبة ببعض الأسئلة، حاولت "عزيزة" استبعاد ابنتها من الذهاب ولكنهم رفضوا قطعًا وأصروا على حضورها لأنها محور المحضر.
خرجت "عزيزة" من بوابة البناية وتبعتها "سبأ" التي مشت على مضض بينما عقلها يحاول وبسرعة جمع قصة مُرتبة منطقية لسبب غيابها عن البيت، طلب منها العسكري أن تتحرك أسرع وقبل أن تركب العربة بدأت تنظر حولها برعبٍ، انطلقت السيارة في الحال وهناك بدأ ضابط الشرطة استجوابها وأخبرته بأنها تعرضت للسرقة أثناء ذهابها لتوصيل طلبية طعام لإحدى الشقق بمنطقة مصر القديمة فقد حاولت أن تغير اتجاهها وتنحيه بعيدًا عن مكان الحادثة تمامًا وأكملت بأنها لجأت في هذه اللحظة إلى بيت صديقة قديمة لها وباتت عندها حتى طلع الصبح واستعارت منها بعض النقود للعودة.
رفع الضابط أحد حاجبيه وقال:
-بس والدتك لمَّا حررت المحضر قالت إن الطلبية دي كانت لمنطقة التجمع الخامس مش شُبرا!! حتى طلبت مننا ندور في الاتجاه دا كويس!!
أومأت "سبأ" بنفي وقالت:
-لا يا فندم دا مش صح، والدتي متعرفش العنوان أصلًا لأن أنا اللي بحجز الطلبيات وبسجل العنوان عندي، أمي أكيد اتلغبطت.
الضابط بنبرة جامدة:
-بس العساكر شافوكِ راجعة بلبس رجالي!! صاحبتك بتلبس هدوم رجالي ولا أيه؟!
عضت "سبأ" شفتها السُفلى ولكنها أكملت بثبات:
-صاحبتي هدومها شوية جريئة ومش بتناسبني فجابت لي لبس من دولاب أخوها.
كانت هذه إجراءات روتينية لابد منها لأنه في مثل هذه الحالات تكون الفتاة المتغيبة قد هربت بمحض إرادتها وفي غالبية المحاضر تعود الفتاة ويكتشف رجال الشرطة أنها هربت مع عشيقها وقام هو بإخداعها وافتراش جميع أحلامها على بساط علاء الدين الطائر ثم معاشرتها في إحدى الشقق ثم رميها بالشارع كالقمامة؛ فتضطر أن تعود مرة أخرى إلى أهلها؛ يشكل هذا السيناريو ثلاثة أرباع قضايا التغيب للفتيات ولوهلة ظن الضابط أن "سبأ" واحدة من هؤلاء الفتيات ولكن المدة التي تغيبت فيها لا ترجح أن هذا السيناريو هو الذي تم فقد تغيبت مدة أربع وعشرين ساعة فقط وهذه هي المدة التي ينتظر فيها رجال الشرطة قبل أن يشنون حملة البحث ولكن والدتها لم تكن تستطع الانتظار فحررت المحضر.
قرر الضابط إنهاء المحضر المحرر من قِبل والدتها وجعلهما يوقعان على ذلك ثم سمح لهما بالمغادرة، كانت "سبأ" تتحرك خروجًا من بوابة المبنى بخطوات مترددة ملتاعة؛ فماذا إن علم ذلك المجنون بوجودها في مبنى الشرطة؛ حتمًا ستكون هي عمليته القادمة!!
نزلت درجات السلم بتأنٍ وهي تجوب الشارع بعينيها وفي لمحة سريعة رصد بصرها ذلك الرجل المدعو "رضوان" وهو يرميها بنظرات متوعدة يتخللها الشر والانتقام، سرت رعشةً قويةً في جسدها وهي تهز رأسها سلبًا في محاولة منها لطرح الأفكار التي تراوده بعيدًا وأنها لم تتكلم عما دار في القصر نهائيًا، جذبتها "عزيزة" من ذراعها وسارتا نحو الطريق يعبران للجهة الأخرى منه وهنا تكلمت "عزيزة" بهم وشكوى:
-كان مستخبي لنا دا كله فين بس يارب.. يارب نجينا.
رمقتها "سبأ" بقهرٍ وذهبتا في صمت إلى البيت وقبل أن تصعد البناية التفتت وراءها ووجدته ما زال يتبعها بسيارته، شهقت شهقة مكتومة ودب الرعب في جميع أوصالها وهرولت مسرعةً إلى الشقة تغلفها بإحكام:
-إنتِ بتعملي أيه يا سبأ؟!!
أردفت "عزيزة" بدهشة من تصرف ابنتها فيما تابعت الأخيرة بتلعثم:
-مش قولت لك لو روحنا المركز هيعرفوا وهيقتلوني؟!.. في واحد منهم فضل متابعنا من وقت ما خرجنا من القسم ولحد ما دخلنا الشارع.
لطمت "عزيزة" وِجنتيها وقالت:
-يا نهار أسود.. بس إحنا مجبناش سيرتهم؟!!
سبأ وهي تبتلع ريقها على مضض:
-بس هم ميعرفوش دا.. هم ليهم اللي شافوه وبس.
هوت "عزيزة" بجسدها على الأريكة وأخذت تضرب فخذيها وهي تقول بفزعٍ:
-يارب إحنا ملناش حد غيرك.. نجينا من قومك الظالمين.
لحظات من الترقب والخوف والنظرات المتأهبة للهجوم بين "عزيزة" وابنتها إلى أن سمعتا طرق قوي على باب الشقة ومحاولات مضنية لتدميره، تحركت "سبأ" خطوتين نحو الباب بينما جذبتها والدتها من ذراعها تحثها على التراجع فيما انتشلت الأخيرة ذراعها بحزم وأسرعت إلى الباب تفتحه لتتلقى ضربة قوية على وجهها جعلتها تسقط بالأرض في الحال، دخل "رضوان" ومعه مجموعة من الرجال وكانوا ملثمين وبنبرة سوداوية أردف ينظر لها:
-شكلك مبتسمعيش الكلام غير لمَّا تاخدي على دماغك!!
هرولت "عزيزة" إلى ابنتها تعاونها على النهوض وراحت تصرخ في بكاء:
-إنتوا عايزين أيه منها، ما هي عملت لكم اللي إنتوا عايزينه!!
رضوان بحدة:
-كُنتِ بتعملي أيه في القسم!!
وضعت يدها على جبينها من شدة الصداع والألم ثم قالت بصوت مخنوقٍ:
-إنتَ فاكر إنك لمَّا تحط لثام على وشك مش هعرفك يا رضوان؟! مش اسمك رضوان بردو؟!
اشد وجهه غضبًا وغيظًا فاندفع نحوها بعد أن دفع والدتها بعيدًا ثم قبض على فكيها بين أصابعه وباليد الأخرى قبض بقوة على شعرها وراح يقول ضاغطًا على أسنانه من شدة الغيظ:
-قولت لهم أيه في القسم؟!
صرخت بتأوهٍ وغضب عظيمٍ:
-ابعد إيدك عني يا حيوان، أنا مش خايفة منك ولا من رئيسك اللي طلب مني أسكت وأبقى بأمان، أنا نفذت قراراته وسكتت، جايين عايزين مني أيه تاني؟!
رضوان بنظرات نارية:
-ردي على أد السؤال!!
سبأ باختناق ترد:
-إني كنت تايهة ولجأت لصديقة قديمة.
اشتدت قبضته على شعرها جعلتها تصرخ صرخات مدوية مستغيثةً؛ فيما وقف أحد الرجال خارج باب الشقة يسترق السمع حول ما يحدث ليبتعد قليلًا ثم يجيب على هاتفه قائلًا:
-دا رضوان يا تيَّم باشا.. جه للبت ونازل فيها ضرب هي وأمها وبيقول إنها راحت القسم وكانت هتبلغ عنكم!! وشكل رضوان ناوي لها على نية.
تيَّم يصيح فيه بحدة:
-هات العنوان يا زير.
“داخل الشقة"
-طيب أيه رأيك بقى نغير الاتفاق، الرئيس هو اللي باعتني علشان نغير بعض النقط!!.
همس بصوت أشبه بصوت فحيح الأفعى بجوار أذنيها؛ فيما رمته هي بنظرات مستحقرة مشمئزة من قربه منها وقالت:
-أنا مش عايزة أغير اتفاقات ولا عايزة أشوف وشكم تاني، أنا اعتبرت نفسي فقدت الذاكرة في اليوم دا، ممكن بقى تسيبوني في حالي!!
رضوان بحدة:
-هتروحي الاسم وتبلغي عن وجودك في حادثة قصر التجمع وإنك شوفتي جزء من الحادثة وشوفتي وش الراجل اللي قتل الناس هناك وتبدأي توصفيه ليهم.. قولتي أيه؟!
زوت ما بين عينيها في استغراب وقالت من بين بكائها:
-مش فاهمة!!
رضوان يرمقها باستعلاء:
-ما طبيعي العينة اللي زيك ما تفهمش، إنتِ يا دوب تشتغلي في الدنيا دي زي الحمار تحرك فيكِ يمين وشمال.
عزيزة تصيح فيه بغضب:
-بنتي دكتورة أد الدنيا ومش قتال قتلى زيك اللي هيحدد هي بتفهم ولا لأ!
اتسعت حدقتا عينيه دهشةً وسأل:
-فعلًا! دكتورة! تخصصك أيه بقى؟!
سبأ بابتسامة حانقة:
-بعالج أمثالك.
رضوان بنظرات ثاقبة يسأل:
-أمثالي اللي هم الطبقة الأرستقراطية!!!
باغتته سبأ ببصقة على وجهه وهي تقول بكره يعبق بحرارة وغضب:
-لأ... البهايم.
فار فائرهُ من شدة الغضب فأسرع بالتوجه نحو باب الشقة وهو يجذبها من خصلات شعرها بقوة خلفه، أخذت "عزيزة" تصرخ عاليًا بكُل ما أوتيت من قوة فيما تبكي "سبأ" بحرقة وهي تحاول جاهدةً التملص منه، ظلت "عزيزة" تهرول خلف ابنتها بنواحٍ وعويلٍ بينما دفع "رضوان" الأخيرة إلى السيارة وما أن بدأ الناس في التجمع حتى قادوا السيارة منطلقين على الفور.
وصل "تيَّم" خبرًا بأخذ الفتاة برفقة "رضوان" بعد أن تلقت ضربًا مُبرحًا منه ولا علم للمصدر عن وجهتهم، قاد سيارته مُنطلقًا وهو يعلم تمامًا أين اصطحب ذلك الوغد الفتاة؛ فنظراته في البشر لا تخيب أبدًا خاصةً أنه حاول مرارًا أن يستبيح النظر إلى جسدها العاري خلال تسجيل كاميرات المراقبة لمشاهدها داخل الحمام كما أنه كان يتطلع لقضاء ليلة معها وتهديدها بالصور التي سيلتقطها لهما معًا ولولا رفض "تيَّم" ووقوفه حائلًا بينه وبين الفتاة لفعل بها كل ما تسول له نفسه السوداوية بها.
مرَّت اللحظات سريعة، ظنت "سبأ" أنها ستلتقي به مرة ثانية ووقتها ستنفجر فيه لأنه هو من أخلى بالاتفاق بينهما، تقفت السيارة وخرج رضوان أولًا ثم فتح الباب المجاور لها وبدأ يسحبها بقوة حتى ترجلت من السيارة بخطوات غير متزنة ثم انطلق الرجال الآخرون بالسيارة.
بدأ يدفعها بكامل قوته نحو باب المنزل الذي دققت فيه جيدًا وتأكدت أنه ليس ذلك المنزل الذي احتجزها فيه المرة السابقة!!.. وما أثار هلعها حينما وجدته يستخدم المفاتيح لفتح القفل المعلق على الباب والذي أصابه الصدأ وهذا يعني أن هذا البيت بنسبة كبيرة لا يسكنه أحدٌ!!
فتح الباب على مصراعيه ثم دفعها للداخل، وقفت تنظر من حولها بشدوه وقد خفق قلبها هلعًا وهي تقول متلعثمةً:
-المكان دا مهجور؟! فين الناس اللي هنا؟!! إنتَ أصلًا جايبني هنا ليه؟! وعايز أيه مني؟
تنفس الهواء داخله بعُمقٍ ثم تابع وهو يبتسم ابتسامة صفراء:
-قولت لك هنغير الاتفاق.
سبأ وهي تبتلع ريقها على مضضٍ:
-أمال فين رئيسك؟! أنا اتفاقي كان معاه، فين البيه اللي كان هنا؟!
رضوان وهو يقترب منها ببطء ثم يردد:
-أنا الريس والبيه هنا ومفيش حد غيري بيه، والاتفاقات بعد كدا هتكون معايا أنا وبس.. أيه رأيك يا ملبن؟!!
فاجأها بلف ذراعه حول خصرها فيما انتفضت هي بثورة وهي تدفع صدره بكل ما أوتيت من قوة وتعود للوراء ثم تقول بصوت شبه باكٍ:
-إنتِ عايز مني أيه؟!
رضوان بنظرات متفحصة لمعالم جسدها:
-عايز أدوق!.. ولا إنتِ ملكيش غير في النسوان بس!!
شعرت باقتراب انقضاضه عليها فأخذت تصرخ فيه بانهيارٍ ثم حاولت الفرار نحو الباب ولكنه قبض على عنقها بقوة جعلتها تبرق في ألم وقد استصعب عليها التنفس بصورة طبيعية بينما دفعها حتى سقطت على السرير وبدأ ينقض عليها فوجدها تقاوم بقدميها وهذا ما جعله يقبض عليهما ثم يقوم بجذب أحد الأحبال ويبدأ في عقد كلتا قدميها بصورة قاسية جعلتها تصرخ في وَهنٍ وضعفٍ.
وما أن أضحت قدماها لا فائدة منهما ولا يعوقاه عما يود فعله، بدأ ينزع السترة عنه وقبل أن يبدأ سمع صوت ضربات ضارية على الباب وبسهولة تعرف إلى الصوت الذي صرخ هادرٍ كالرعد:
-افتح يا رضوان الكلب.
ضغط على أسنانه بقوة حتى كاد يفتك بهما، "فتيَّم" هو هادم اللذات بالنسبة له، حاول أن يتجاهل هياجه وثورته وينخرط فيما بدأ فيه بينما ظلت هي تصرخ مستغيثةً مقهورةً، لم يجد "تيَّم" استجابة منه فأسرع نحو النافذة وبدأ يدمر زجاجها ليظهر أمامه ذلك الوغد محاولًا النيل من الفتاة التي تصرخ بصوت مذبوحٍ وتقاوم في وهن فما بينهما من قوى غير متكافئة لا ترجح كفتها مهما قاومت.
رأى كفه بقبض على عُنقها وبكفه الآخر يحاول تجريدها من ملابسها، بدأ ينظر حوله حتى وجد فأس مُلقى بجوار الحائط فالتقطته وطفق يدمر خشب النافذة حتى تمكن من الصعود إلى النافذة ثم إلى الغرفة، اندفع بقوة ضارية نحوه ثم جذبه بعُنف من عنقه وبدأ يُبعده عنها وهو يقول بصوت متشبع بالغيظ والانتقام:
-هتفضل طول عمرك زبالة ونجس.
بدأت هي تلملم نفسها وسط بكائها المرير وشعورها بعدم الأمان بينما أطبق "تيَّم" على ياقة الأخير حتى كاد بخنقه وهو يهدرٍ بحنقٍ:
-مين إداك الأوردر إنك تجيب البت دي هنا!!!
رضوان وهو يباغته بلكمة مفاجئة:
-أنا دماغي هي اللي بتسوقني ومحدش بيديني أوامر.
أطلق "تيَّم" ضحكة مستهزئة وقال باحتقارٍ:
-طول عمرك بتتساق من كل اللي حواليك وتابع ليهم.. جاي دلوقتي تمارس عقدك النفسية على البت الغلبانة دي!!
وما أن أنهى حديثه حتى انهال باللكمات على وجه الأخير الذي أخذ يصرخ بألم جارفٍ لتصويب الضربات إلى عينيه.. بدأت وجوه كلاهما تنزف وقد أصبح "تيَّم" يعتلي جسد الأخير ويطبق كفيه على عنقه، بدأ "رضوان" يجاهد مليًا حتى تتغير الأماكن ويتمكن هو من النيل من الأخير إلا أن قوة "تيَّم" كانت الأقوى والأقسى، احتدم الصراع والعراك بينهما وجحظت عينا "رضوان" لمسافة عن مقلتيهما نتيجة لشعوره بالاختناق بينما غاب "تيَّم" عن وعيه في هذه اللحظة وقرر أن يُنهي حياة هذا الوغد ولكن فاجأه "رضوان" بلكمة ضارية ومُميتة في عُنقه ولم يكتفٍ بهذه اللكمة فقط بل كرر الأمر عدة مرات وهنا بدأت يداي "تيَّم" ترتخي عن عنقه وقد برق بعينين متسعتين وهو يرتمي على ظهره بالأرض وصوت حشرجة حادة تخرج منه كمن يعاصر لحظته الأخيرة في الحياة حيث بدا وكأنه يجاهد كي يتنفس، ابتعد "رضوان" عنه وبدأ ينظر إليه بفزعٍ وما هي إلا لحظات حتى فر هاربًا من المكان.
تحركت "سبأ" ناحيته بخطوات مترددة فوجدته يُخرج حشرجة تشبه حشرجة الموت، كان ينظر إليها بلا حراك وقد تغير حاله من مقاتل شرس كاد يفتك بخصمه إلى آخر ضعيف لا حول له ولا قوة، أخرجت صرخة مدوية من هول ما ترى؛ فلأول مرة ترى فيها شخص يحتضر ويقترب من الموت، مالت قليلًا إليه ثم رددت ببكاء صاخبٍ:
-دا جزاءكم يا شوية مجرمين، الخيانة في دمكم حتى بينكم وبين بعض.
استحال لون وجهه إلى زُرقة قاتمة، قررت أن تتركه يلقى تبعات آثامه فهبت واقفةً ثم أسرعت مهرولة نحو الباب وقبل أن تخرج منه التفتت بعينيها تنظر إليه مرة أخرى، أغمضت عينيها بقهرٍ وأصابت سهام عينيه الجاحظة قلبها فلم تقدر على تركه ينازع الموت والذهاب بينما أنقذها قبل قليل، عادت إليه مرة أخرى ثم بدأت تمرر أصابعها على عنقه بحرص فخرجت في الحال شهقة مرتعبة منها وقد أدركت أن ذلك الوغد قد أصاب عنقه بكسر أدى إلى انسداد مجرى الهواء لديه والنتيجة المترتبة على حادثة كهذه هي الموت ولا خيار ثاني إلا حلًا وحيدًا!!!
فركت كفيها بتيه وعجز عن التفكير، فكل ما يمر من وقت ما هو إلا لحظات يفقدها من حياته، وفي هذه اللحظة وقعت عيناها على المطواة التي تطل من جيبه فهرولت تلتقطها على الفور، كان ينظر إليها في عجزٍ وإلى المطواة التي تقبع بين يديها، فكرت "سبأ" مليًا في تطهيرها أولًا قبل البدء فيما فكرت به، بدأت تتجول داخل الغرفة بحركات سريعة إلى أن وجدت زجاجة مشروب كحلي فأسرعت بسكبها على المطواة ثم جففتها بطرف سترتها وكذلك بحثت عن قلم جاف وقامت بتفريغ أنبوبه منه وإبقاءه فارغًا وفي هذه اللحظة جثت فورًا على ركبتيها بجواره ثم أمسكت المطواة بحرص وتركيز شديدين وسط نظراته المحدقة فيها وراحت تمرر المطواة بدقة كبيرة في عنقه بشكل عمودي مُحدثة ثُقبًا عميقًا إلى حد ما به ثم التقطت الهيكل الخارجي للقلم وبدأت بغرسه داخل الفتحة بأطراف ثابتة حريصة رغم شعورها بأنها تقف على جبل من الخوف وربما تسقط من فوقه في أية لحظة، أنهت ما تفعله ثم نظرت إلى عينيه تنتظر النتيجة وما هي إلا ثوانٍ حتى بدأ يلتقط أنفاسه وبدأ لون وجهه يعود لطبيعته وكأنما لم يكابد لحظات من الموت قبل قليل، بدأ يتنفس بصورة طبيعية جدًا حتى أنه تمكن في هذه اللحظة من الكلام ليتابع بصوت عليلٍ:
-إنتِ عملتي أيه؟!!
سبأ بتوتر تراقب الثُقب بتركيز:
-مش مهم عملت أيه، الأهم إنك لازم تروح المستشفى دلوقتي حالًا!!.. أنا مقدرش أعمل لك أكتر من كدا.
تيَّم يرد برفض قاطعٍ:
-اوعى تفكري تعملي الكلام دا.
سبأ بصوت مخنوقٍ:
-بس أنا معرفش اللي أنا عملته دا محتاج إجراءات أيه تانية!!
تيَّم يسألها بدهشة:
-أمال عملتيه إزاي؟!! إنتِ بتشتغلي أيه؟!
ابتلعت "سبأ" ريقها بتريث ثم ردت بحذرٍ:
-دكتورة!!
اتسعت حدقتا عينيه ثم تابع بأنفاسٍ لاهثة منهكة:
-أمال مش عارفة إزاي؟!
سبأ تجيبه بترددٍ:
-دكتورة بيطرية.
قطب حاجبيه يحثها على الشرح أكثر لأنه لا يفهم الكلمة الأخيرة من جملتها؛ فأكملت وهي تضغط على شفتيها بتوجسٍ:
-دكتورة حيوانات.
يتبع
#حَرم_السفاح
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
حَرم السفَّاح.
Acciónنوڤيلا 2023 (حَرم السفاح) تأليف/علياء شعبان كاملة. ••••••••••••••••• "مُقدمة" أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاس...