"أن أُفارق قلبًا أحبني تاركةً إياه يحتضر؛ هو بمثابة قتل عمدٍ؛ لا منه انتشلته من ضياع فراقي ولا تركته يتلقى الخيبة على يد أحدٍ غيري وفي النهاية بِتُ أنا والسفاح واحدًا؛ نفس الجريمة والطريقة مختلفة".
ثار ثائرهُ تمامًا حيث أقام الدنيا وأقعدها وهو يدمر كُل شيء يقابله قابلّا للكسر ويمزق كُل شيء قائلًا للتمزيق، حاول "الزير" جاهدًا أن يسيطر على جنونه ولكن هيهات أن يقدر على غول جامحٍ تبدد قوته فقط حين ينام، بدأ يقبض على خصريه في محاولة لإبعاده عن تدمير ما تبقى من أثاث الشقة الذي صار عبارة عن فُتات وشظايا.
أخذ "تيَّم" يزأر بانفجارٍ مكبوتٍ، يأتي في المكان ويروح ثم يضرب الحائط بكفيه تارة وأخرى يضرب الحائط برأسه وهنا تدخل الأخير في قلقٍ وصدمة:
-تيَّم.. اهدا علشان نعرف نفكر.. كفاية دماغك سايحة في دمها!!
أعاد ضرب الحائط بكفيه مرة ثانية وهو يصر على أسنانه قائلًا بغيظٍ جامحٍ:
-آه يا ابن الكلب.. آآآآآه.
خرجت آهات مجروحة من أعماق صدره المتأجج بنار تأكل من يحاول الاقتراب منه في هذه اللحظة، قطب "الزير" حاجبيه ثم تابع بشكٍ:
-رضوان مش كدا!!!
صرخ الأخير بنبرة هادرة يملأها الشر:
-ابن الكلب، ورحمة أبويا ما هسيبه.
كانت تجلس "سبأ" بالأرض وقد خارت قواها تمامًا وظلت تصرخ حتى أغشى عليها وبالكاد عادت إلى وعيها ومن وقتها وهي تجلس كالبكماء تنظر إلى الفراغ بنظرات خاوية، التفت إلى زوجته التي تسيل الدموع من عينيها كنهرٍ طاف على جنبيه بينما لا تخرج آهة واحدة منها، سار نحوها ثم جلس على ركبتيه أمامها وقام بالتقاط كفيها يميل عليهما مُقبلًا إياهما وهو يقول باعتذار وندمٍ:
-أنا السبب في كُل أذي حصل لك وبيحصل لك دلوقتي، بس وحياتك عندي لأشرب من دمه وحياة شرفي اللي استباحه لأقطع لك راسه وأرميها تحت رجليكِ.
طفق يقبل كفيها عدة مرات وكانت هذه المرة الأولى التي يعرف فيها كيف تدمع عينيه، أفاضت عيناه بعد أعوام من الجفاف ثم نهض في مكانه فورًا واندفع كالطوفانٍ خارج الشقة عازمًا على استرداد شرفه المُغتصب المُستباح لكُل الناس، وهذه المرة الأولى أيضًا التي يخجل فيها أمام أحدٍ فلم يكُن يجرؤ على النظر إلى عينيها لأنه السبب في وجود هذا المقطع من الأساس.
أدرك في هذه اللحظة أن استباحة أعراض الناس والخوض فيها وهتكها وكشف سترها أمورٌ تبدو مقبولة ومُسلية إلى أن تطول الفاعل نفسه.. إلى أن يتوقف سن عجلة الدنيا الدوارة عند ما يخصه فتتحول هذه الأمور إلى نيران تضمر قلبه وتوقظ فيه الانتقام رغم استسهالها من قبل واعتبارها أمورًا عاديةً.
قرر استباحة عرضها ورفع غطاء سترها ولم يكُن يعلم أنها ستكون في النهاية شرفه؛ ولو كان يعلم لقطع يديه ولا فعل، يا لها من دُنيا لا يمر عامها إلا وذاق كُل مؤذٍ من كأس الأذى وتشبع.
هرول "الزير" خلفهُ حقنًا للدماء الذي ينوي سفكها بينما أخذت هي تبكي بمرارة وآهات تنقطع لها نياط القلوب، لحظات وبدأت تسعين بساعدها للوقوف رغم نفاد طاقتها تمامًا، تحاملت على نفسها وقامت ثم توجهت إلى الغرفة بعد أن اتخذت قرارًا حاسمًا لا رجعة منه.
بحثت عن ورقة وقلم وبدأت تكتب له كلمات الرحيل الأخيــــرة ولم تشعر بسقوط عَبراتها على الورقة التي غرقت وساح الحبر بها حتى التصقت الكلمات ببعضها:
-"كُل وجع دوقتني منه وأنا غريبة عنك.. جه الوقت اللي تدوقه إنتَ وأنا مراتك.. للأسف مش هعرف أتجاوزك وأكمل بس هحاول!".
تركت القلم بملامح خاوية من التعبير وهمَّة فاترة للغاية، ثم توجهت خارج البناية بأكملها لتتجه إلى مشوارٍ قد أجلته كثيرًا وحان ميعاده.
•~•~•~•~•~•~•~•
-رضوااااااااااااان!!!
صرخ هادرًا ما أن دفع البوابة بقوة بعد اقتحامها ولكم الحراس في هياجٍ، سار كسيلٍ مُدمرٍ في الممر المؤدي إلى باب القصر وكُل من يقابله من رجال العصابة يتنحى جانبًا في خوفٍ من تبعات هذا السيل الهائج.
هرول "رضوان" هابطًا الدرج ثم وقف في منتصفه ليدخل "تيَّم" إلى القصر ثم يتبادلان النظرات ما بين خائفة ومخيفة، ابتلع "رضوان" ريقه على مهلٍ قبل أن يتصنع جهله بسبب زيارة الأخير؛ فيقول محاولًا الثبات:
-تيَّم!.. أخيرًا ظهرت.. اوعى يكون حد شافك وإنتَ جاي!!.
تركهُ ينُهي كلامه واعتبره الكلام الأخير له في هذه الدنيا ثم تحرك بخطوات راسخة بطيئة وبدأ يقول بنبرة تعبق بحرارة عميقة:
-نشرت الفيديو ليه يا رضوان؟! يا ترى علشان تتسلى ولا علشان تطعن في شرفي؟! أنا عارفك بتتنفس وساخة ومصايب الناس بتغذي روحك.
اقترب أكثر بينما يبتعد الثاني في حذرٍ ليستكمل "تيَّم" بهدوء موحشٍ:
-ها، نشرت فيديو مراتي ليه يا رضوان؟!!
أومأ الأخير وهو يبتلع ريقه من شدة الخوف والعرق يتصبب على جبينه:
-منشرتش حاجة يا تيَّم.. صدقني!!
نبج صوته بضحكة عالية ساخرة قبل أن يكشر عن أنيابه ويضغط على أسنانه ثم يهرول منقضًا عليه وهو يصرخ بصوت جهوري مخيفٍ:
-هقتلك وأشرب من دمك وهخليك عبرة لكُل وسخ زيَّك.
ارتطم جسد "رضوان" بالأرض بينما طفق "تيَّم" يضربه بأقصى قوة يمتلكها وشريط حياته يتمثل أمامه بوضوحٍ فمع كل وجع ذاق منه تشتد قوة قبضته والأحداث تتوالى تباعًا من لحظة وفاة أبيه ذي المنصب المرموق الذي ينتمي لإحدى العائلات المرموقة الشهيرة إلى ترك والدته له في الملجأ عقب وفاة أبيه وتخليها عنه ثم تربيته تربية صارمة قاسية جعلته لا يميز الصواب من الخطأ ثم بحثه عن والدته عقب خروجه من الملجأ بعد أن تجاوز السن القانوني وفي الختام الوصول إليها ومعرفة حقيقتها وسبب تخليها عنه ثم لحظة قتله لها.
مـــرَّ الشريط أمام عينيه بقسوته ومرارته ومع كل لحظة منه تتكسر عظام الأخير الذي يحاول الدفاع عن نفسه ولكنه لا يتقي كُل الضربات الموجهة له وهنا صاح "رضوان" بصوت عدواني:
-أيوة أنا اللي نشرت الفيديو.. وعندي استعداد أعمل أي حاجة علشان أدمرك.. لأنك مش أقوى ولا أذكى مني.. أنا بردو قدرت أدمر قوتك وأشوفك أضعف مخلوق على الأرض في اللحظة دي.
سكت هنيهة ثم أكمل وهما يتبادلان اللكمات:
-ما هو الشمال ما بيقعش غير على واحدة شمال زيه.
توقف فجأة عن لكمه ولكنه نهض بهياجٍ ما أن تعدى عليها للمرة الثانية؛ مرة فعلًا والثانية قولًا؛ فلم يشعر بنفسه إلا وهو يجره من ساقه على الأرض ثم يتجه إلى المطبخ وما أن وصل به إلى هناك حتى هرول ناحية أحد الأدراج وبدأ يبحث بجنونٍ عن سكينٍ يقتص لها به؛ فأدرك الأخير ما يبحث عنه "تيَّم"، كانت مقلتاه تتحرك بغير اهتداءٍ إلى أن أبصرت السكين في النهاية فيما نهض "رضوان" بعد محاولات مُضنية على ذلك ثم بدأ يتعرج على قدميه مهرولًا من أمامه فورًا وراح يصرخ مُستغيثًا بأحدٍ، لم يدعه "تيَّم" يطيل في صراخه المستنجد ليندفع نحوه بعقل مُتغيب ثم يُبعد ذراعه إلى مدى بعيد جدًا وينزلها مرة أخرى بُعنف حتى وصلت إلى عُنقه وجزته من مكانه جزًا لتنفصل رأسه عن جسده الذي لا يزال يهرول في المكان والدماء تندفع منه وتتطاير في كُل مكان، في هذه اللحظة استوعب عقله ما فعل ولكنه ظل ينظر إلى الأخير بملامح باردةً مُتشفية ولم يرف له جفنٌ حتى!!
ظل القتيل ينتفض في أرجاء البهو حتى خرجت روحه في النهاية وسقط فورًا، كان "تيَّم" ينظر إلى الجثة نظرات سوداوية وما هي إلا لحظات حتى دخل "الزير" من باب القصر وهو يلهث وما أن رأى المنظر حتى أشاح بوجهه بعيدًا بينما انتفض جسده انتفاضة مرتعدة، تحرك "تيَّم" عائدًا إلى المطبخ مرة أخرى ثم التقط كيسًا وخرج على الفور يقترب من الرأس المُلقى بعيدًا عن الجسد، قبض عليها ثم ألقاها داخل الكيس وخرج بقامة شامخة وخطوات مهيبة بينما خشى الرجال الدخول ورؤية ما يحدث بالداخل ولم يتوقعوا وجود رأس صديقهم داخل هذا الكيس.
أسرع "الزير" يركب سيارته وجاوره "تيَّم" الذي طلب منه الذهاب إلى الشقة وهنا تلعثم الأخير في الحديث وهو يقول:
-سبأ سابت الشقة ومشيت، رجعت لوالدتها، لسه مكلماني من رقم غريب ومبلغاني!.
تليد بنبرة هادرة يأمره:
-أطلع على المكان اللي هي فيه.
أومأ دون أن يناقشه وقاد السيارة في صمتٍ، وما أن أوشكا على الوصول إلى الحي أمره "تيَّم" أن يتصل بها ثم يلتقيان بها في مكان بعيدٍ عن البيت ولكن الهاتف أُغلِقَ تمامًا.
صاح في صديقه أن يكمل قيادة حتى يقف أمام البيت مُباشرة ورغم معارضة "الزير" لهذا التصرف إلا أنه لم يقوى على مخالفة أوامره فقاد السيارة حتى وصل أمام المبنى ليجدا أحد العساكر يقف على بوابة البناية، تنهد "الزير" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن يترجل من السيارة بإشارة من "تيَّم"، تحرك نحو العسكري ثم ربط على كتفه قائلًا بثبات:
-ممكن بعد إذنك تدلني على أقرب محطة مترو من هنا؟!!
أومأ العسكري وأضاف بحزمٍ:
-ادخل من الشارع اللي جاي دا على طول في رابع شمال.
قطب "الزير" حاجبيه وتصنع اختلاط الأمر عليه وقال:
-معلش ممكن بس تشاور لي على الشارع اللي هدخل منه شمال!!
أومأ موافقًا ثم تحرك معه إلى الشارع المجاور للبناية فانتهز "تيَّم" هذه الفرصة وأسرع يدخل العمارة إلى أن وصل إلى بيت زوجته، طرق الباب بقوة وما هي إلا ثوانٍ حتى فتحت "عزيزة" التي نظرت إليه بعينين حادتين وصرخت:
-إنتَ لسه ليك عين تيجي هنا، وإزاي أصلًا عديت من العسكري اللي تحت!!!
تجاوزها مارًا داخل الشقة ثم نادى عليها بصوت عالٍ، خرجت إلى الصالة فورًا ما أن سمعت صوته وما أن أبصرها حتى أسرع بالاقتراب منها ثم أفرغ الكيس لتسقط الرأس تحت قدميها، شهقت شهقة مكتومة بينما ذُعرت "عزيزة" مما ترى إلا أنه لم يتوقف عن الكلام فقال بنبرة منتصرة:
-كدا حقك رجع لك وأكون وفيت بوعدي ليكِ، كان نفسي أعرفك في ظروف أحسن من دي يمكن ساعتها كُنت هبقى شخص يستحق حُبك، بس أنا مرض مُعدي بيتفشى في كُل حد قريب منه، حاولي تتجاوزي الأيام البسيطة اللي جمعتنا، انسيني.
خارت قواها في هذه اللحظة وسقطت على ركبتيها بالأرض وأخذت تبكي بمرارة داهمت كل ذرة بجسدها.
انهى كلامه وأسرع على الفور بجمع الرأس داخل الكيس مرة أخرى ثم انطلق مهرولًا خارج الشقة وما أن وصل إلي البوابة حتى وجد العسكري يقف أمامها وهنا أشار بعينيه إلى "الزير" الذي عاد مجددًا بسيارته فقطب العسكري حاجبه مستفسرًا عن عودته إلا أنه فتح باب السيارة بحركة هادئة فيما اندفع "تيَّم" بأقصى سرعة له حتى قفز داخل السيارة وقادها الأخير بسرعة كاسحة وبالفعل تمكنا من الفرار بسهولة.
أبلغ العسكري عن مجيء شخصين ويرجح أن واحدًا منهما هو السفاح؛ فقامت الشرطة باستدعاء "سبأ" التي قررت البوح بكُل ما مرت به خلال حادثة القصر، روت كُل شيء بأسلوب مُفصل رغم محاولتها حمايته ببعض الكلمات وحذف بعض الأجزاء الأخرى فقد بينت أن المقطع المُسرب لها تم تغطيته من قبل رجال العصابة أثناء احتجازها كما موضح في المقطع وكيف كانت تبكي في انهيارٍ ولم تقل بصورة أكثر دقة أن زوجها هو من فعل، شهدت كذلك أن العملية تمت من قبل رجال العصابة بينما كان "تيَّم" يترأس العملية ولكنه لم يستخدم سلاحه سوى مرة واحدة ولكنها لا تعرف على من أطلق هذه الرصاصة، أخبرتهم بكُل شيء حتى رضوان الذي قام زوجها بقطع رأسه لاستباحة شرفه ونشر المقطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان كلامها منطقيًا تبعًا للقضية ومتوافقًا مع الدلائل التي تم جمعها خلال الحكم في القضية؛ لذا تم إطلاق سراحها بضمان محل إقامتها حتى ظهور زوجها الهارب والاعتراف بكل شيء، ولكنها في النهاية طلبت العثور على هاتفها الذي يحتوي على إثباتٍ على كلامها والوصول إلى هوية زعيم هذه العصابة.
•~•~•~•~•~•~•
-إنتَ جايبني أشتغل فين يابا؟ دي تُرب قديمة؟؟
هتف "حسن" في وجه والده مُستنكرًا، رماه البواب بنظرة غاضبة قبل أن يرد:
-ومالها التُرب بقى.. أكتر مكان هادي ومريح في الدنيا وبتاخد منه العِبرة والعِظة لعل وعسى تفوق من غيبوبتك دي!!
اكفهر وجه "حسن" بضيق شديد ثم تابع:
-أنا عارف إني غلطت بس أعمل أيه في البلد اللي غلت الحلال لمَّا مش قادرين عليه.
الأب بصرخة محتدة بالغضب:
-فتلجأ للحرام.. تستغل طفلة لا بتعرف تنطق ولا تستغيث بالناس يا حسن.. التبرير دا هو اللي حلى الحرام في عينك.. يا بني مهما كان الحرام طريقه سهل هتلاقي في نهايته حسرة وجمر من نارٍ.
حسن بصوت مخنوقٍ:
-بس أنا واحد قربت على التلاتين ولحد دلوقتي مش عارف أخد خطوة لقدام.. يابا إحنا عايشين ست أنفار في أوضة واحدة!!
الأب بثبات:
-إياك فاكر إنك لمَّا توصل لغرضك بالحرام إنها وسيلة تعترض بيها على تدابير ربك ولا تكونش فاكر إن ربنا هيفضل يسترها معاك طول الوقت وإنت بتعصيه طول الوقت ببجاحة!!
سكت هنيهة ثم أكمل:
-خاف الله يا ولدي.. خاف الله وعود له واحمد ربنا إن أهل البت مخلصوش عليك.
تلفت "حسن" حوله ثم عاد يسأل والده بوجلٍ:
-إنتَ بردو مصمم تسيبني أشتغل في المكان دا!!
الأب بحزمٍ وإيجاز:
-ومفيش غيره يا حسن.
تلعثم قليلًا قبل أن يستفسر:
-طيب أنا هشتغل أيه هنا يعني؟؟؟
رد الأخيرة بثبات:
-عملية تنضيف للتُرب، بتدخل التربة تنضفها من العضم القديم وتجمعه علشان نرميه في المحرقة اللي هناك دي والتُربة تكون جاهزة لاستقبال ميت جديد.
التاع قلبه وجلًا ولكنه أومأ متفهمًا فأمره والده أن يبدأ عمله من الآن، توجه إلى إحدى التُرب ووالده معه يرشده في أول يوم عمل له، وما أن وصل إلى الباب حتى بدأ جسده يرجف في خوفٍ فقال له والده بهدوءٍ:
-يابني دي تُربة قديمة مافيهاش غير عضم يعني متخافش، يلا ادخل نضفها وأنا هدخل اللي جنبك ومتنساش العضم هيترمي في المحرقة!
استجاب "حسن" على مضض وما أن دخل التُربة بعد أن نزل عدة درجات للأسفل وطفق يجمع العظام حتى وجد باب التُربة يغلق عليه فجأة ليصرخ بهلعٍ كبيرٍ اقتلع قلبه من بين ضلوعه والغريب أن من فعل ذلك هو والده، لم يكن يود أذيته هو فقط أراد أن يُعلمه درسًا قاسيًا قليلًا وأن يخرج من هذه التجربة أكثر وعيًا وخوفًا من الله؛ فأراد أن يتساءل ابنه وهو في التُربة عمَّا فعله طوال حياته وهل هو مُستعد لمقابلة ربه إن اختنق هنا ولم يُفتح هذا الباب؟! لقد كان غافلًا دومًا عن علاقته بالله منشغلًا في تلاهي بمغريات الدنيا؛ والآن اسأل نفسك، هل جاهزٌ لرؤية ربك؟ وماذا زرعت في دنياك ينتظرك في آخرتك؟! أم أنك فقيرٌ في الدنيا وفقيرٌ في الآخرة!!!
•~•~•~•~•~•~•
اضمحل الأمل من داخلها شيئًا فشيئًا حينما مضى شهرين ولم يظهر أمامها مرة واحدة كي تعبر له عن مدى اشتياقها لرؤيته وكي تُخبره بما طرأ على حياتها من أخبار أخرى؛ ولكنه قرر التبخر من دُنياها مُستسلمًا؛ فمهما حاول أن يقدم لها من حُبٍ تلطخ سيرته ستلاحقها في كل خطواتها وستقض مضجعها ليلًا ونهارًا.
وقفت أمام المرآة الموجودة بغرفتها تنظر إلى ملامحها الباهتة في إعياءٍ وعينيها اللاتي انتفختا وانطفأ بريقهما، اِبتلعت غِصَّة مريرة في حلقها حينما وقعت عيناها على بطنها المنتفخ لتتنهد تنهيدة مقهورة ثم تنظر إلى المرآة مجددًا بعد أن تلتقط السكين القابع على المنضدة وتبدأ بوضعه بالقرب من زاوية عينيها مستخدمةً إياه في رسم خط العين بالقلم الأسود، دخلت والدتها إلى الغرفة في هذه اللحظة وما أن رأتها حتى شهقت بذهولٍ:
-إنتِ خلال إتجننتِ، بترسمي الآيلاينر بالسكينة؟! بقيتي تتعاملي مع السكينة على إنها قصافة الضوافر كدا عادي؟! أمال لو كملتي باقية عمرك معاه!!
خفق قلبها بلوعةٍ ما أن ذكرته والدتها فجرت الدموع على خديها بسهولة خاصة أن هذه الفترة التي تمر بها هي فترة "وهن على وهن"، جلست على الأريكة بهمة فاترة ثم أردفت:
-هو أنا غلطت لمَّا حبيته!!
عزيزة وهي ترمقها بنظرات لائمة:
-ولمَّا حملتي منه كمان.
أطرقت برأسها في استنكار لفكرة اختفاءه عن حياتها للأبد ثم أردفت بنبرة باكية:
-إنتِ ليه طول الوقت بتجلديني بكلامك؟ حبيت يا أمي.. حبيت جوزي وحملت منه.. أنا معملتش حاجة حرام ولا غلط!
في هذه اللحظة، رفعت "عزيزة" سبابتها في وجه ابنتها مُحذرةً إياها:
-اوعى يا سبأ تغلطي وتقولي له إنك حامل أو الأحسن يا بنتي تسقطيه.. إنتِ لسه مكملتيش شهرين.
أردفت "سبأ" بحزمٍ ونبرة حادة:
-لأ.. أنا مش هجهض طفلي مهما حصل.
عزيزة بنظرات ثاقبة وصوت حادٍ:
-هتخلفي عيل تأذية نفسيًا بسيرة أبوه ليه؟ هتقولي له أيه لمَّا يسألك فين بابا؟! افتح مواقع النت واقرأ عن سفاح قصر التجمع دا مشهور أوي يا حبيبي!!
خرج من داخلها انفجار وليس بكاء لتتابع بانهيارٍ:
-كفاية بقى.. أنا بتوجع من كلامك!.
عزيزة بإصرار وشفقة على حال ابنتها:
-لو عايزة الطفل يبقى هو مش لازم يعرف بيه.. خليه ينساكِ.. مينفعش يعرف إن له ضهر برا السجن.. مش عايزينه لو خرج يدور عليكِ وبعدين إنتِ بتحلمي لو فاكرة إنه هياخد حكم مخفف أو هتجتمعي بيه تاني لأن دا قاتل يعني مصيره محتوم ومعروف.. الشنق.
كان كلمتها الأخيرة بمثابة سكين ثلم مزق عنقها، فأغمضت عينيها ترفض تخيل كلام والدتها ثم تابعت بمرارة:
-يعني مفيش أمل!!
عزيزة بلهجة حاسمة:
-انسيه يا سبأ.
أومأت باختصار كي يتم إغلاق حديثها مع والدتها، أطرقت تنظر إلى بطنها الذي لم يكبر بعد ثم مررت كفها عليه بهدوء وراحت تتذكر إحدى الجمل التي قالها لها ذات يوم:
-“حلمت إنك هتوهبيني حياة جديدة".
سقطت دموعها في صمتٍ بينما صدرها يمتلىء بالكثير مما لا تستطيع البوح به.
•~•~•~•~•~•~•
مرَّ القليل من الوقت حتى توصلت الشرطة إلى هاتفها وتحققت من مصداقية كلامها كما وجدوا الفيديو المسجل بين زوجها وزعيم العصابة وتم التعرف عليه في النهاية وإلقاء القبض عليه وما أن وصله الخبر حتى قرر رؤيتها للمرة الأخيرة قبل تسليم نفسه.
-مُتأكد إنك هتروح لها!! وعايز تسلم نفسك؟
سأله "الزير" باهتمام بالغٍ وشعور بالحسرة لأنه سيفتقد صديقه المُخلص الذي ظلمته الحياة كثيرًا ولا يعرف خبايا حياته إلا هو، أومأ "تيَّم" بإصرار وحسم فقاد الأخير السيارة حتى وقف أمام البناية مرة أخرى وما أن نزل "تيَّم" من السيارة حتى اندفع بسرعة واشتياق إلى الشقة، دق بابها على عجلة ففتحت له "عزيزة" التي رمقته بعينين مندهشتين بينما صاح هو بصوت مُتلهفٍ:
-سبأ!!
جاءته تهرول من غرفتها وما أن أبصرته يقف أمامها حتى فتح لها ذراعيه فهرولت ترتمي بينهما وهي تقول بصوت يتخلله حنين جارفٍ:
-تيَّم، وحشتني!!
أطبق ذراعيه عليها بقوة وكأنما يرغب في إخفائها داخله للأبد وأن يتوقف الزمن بهما على هذه اللحظة، ابتعد عنها قليلًا ثم وضع وجهها بين كفيه وقال بنبرة مُستسلمة:
-أنا قررت أسلم نفسي.. كان نفسي أودعك علشان كدا جيت.
ذرفت "سبأ" الدموع من عينيها بغزارة ثم رددت بلوعةٍ واحتراقٍ:
-مش بحب الوداع.. بحب الوعود.. اوعدني إنك مش هتستسلم وأوعدك إني مش هبطل أحاول تخفيف الحكم عنك.. أنا هروح لأكبر محامي في البلد وهطلب منه يترافع عنك.
افتر ثغره عن ابتسامة يائسة وقال:
-القاتل يُقتل ولو بعد حين.. أنا قتلت مرتين ومش ندمان عليهم.. لأن في الحالتين كنت بدافع عن شرفي.
زوت "سبأ" ما بين عينيها وتساءلت بحيرة:
-قتلت مين في قصر التجمع مس شرفك!!
تيَّم بابتسامة مكسورة:
-قتلت أمي.
حدقت فيه بعينين جاحظتين وقد صُعقت تمامًا من هذا الاعتراف وراحت تدمدم في ذهولٍ:
-أمك كانت في القصر مع الناس دي؟!
أومأ مُجيبًا في حسرة:
-أمي هي صاحبة القصر يا سبأ.. أمي رمتني في الملجأ بعد موت أبويا علشان ميولها.. رمتني بفُجرها زيّ الكلب في الملجأ علشان تمارس فُجر أكبر وتعرف تعيش الحياة اللي بتسعدها بعد ما خلصت من أبويا.
ابتلع غصة في حلقه وأكمل:
-مرارة الحقيقة مش هتفرق معايا.. أيوة أنا قتلت أمي علشان خانت أبويا لحد ما مات بسببها بسكتة قلبية علشان غريزتها غير السوية.
غابت "عزيزة" عن المشهد لبعض الوقت حيث أخبرت الشرطة بوجوده في بيتها وما هي إلا لحظات حتى وجد رجال الشرطة يملؤون المكان بينما انقض عليه مجموعة قاموا بركل قدمه من الخلف حتى سقط على ركبتيه ثم قيدوا ذراعيه وراء ظهره، صرخت "سبأ" بانهيارٍ ما أن رأتهم يقيدوه ويتكالبون عليه ثم يبدؤوا بركلة عدة ركلات مميتة في بطنه، ظلت تصرخ وهي تنظر إلى ذلك المشهد الذي يميت قلبها تارة وأخرى إلى ملامح والدتها الشامتة فأدركت بأنها من أبلغت عنه الشرطة، هرولت إلى مجموعة الضباط ثم بدأت تخترق الصف حتى وصلت إليه وراحت تجهش باكيةً في صراخ:
-علشان خاطري بلاش ضرب.. هو كان هيسلم نفسه.. جوزي مش قاتل.. جوزي مش سفاح.. محدش يضربه.. الضرب بييجي في قلبي.. بالله عليكم بلاش ضرب!!
عز عليها رؤيته ضعيفًا وهو الذي عاش قويًا مهيبًا طوال الوقت، أسرعت بالجلوس على ركبتيها ثم جذبته إلى أحضانها وراحت تتشبث به في قوة وفي هذه اللحظة جاء إلى عقلها كلام والدتها حينما أخبرتها بتحذيرٍ:
-"اوعي تقولي له إنك حامل.. خليه ينساكِ.. اوعي يعرف إن له ضهر برا السجن لأنه لو عرف هيخرج يدور عليكِ وعليه".
ابعدته عن أحضانها قليلًا ثم تعمدت النظر داخل عينيه الشامختين اللاتي لم تتأثرا بهذا الضرب المُبرح وبدأت تهمس بملامح ثابتة رغم انفجار عينيها بالدموع:
-أنا حامل يا تيَّم.
وكأنما أعادت روحه إلى الحياة مرة أخرى بعد أن ضل طريق الرجوع وأظلمت الدنيا من حوله، حدق فيها متسمرًا يحاول استيعاب ما نطقت به ولكنهم لم يسمحوا له بعيش هذه اللحظة كما يريد فقاموا بالقبض على عنقه وذراعيه وقبل أن يدفعوه بقوة خارج الشقة، التفت إليها مرة أخرى ثم ردد بصوت يهتزٍ من صلابته:
-أنا كمان بحبك.. استنيني يا سبأ.. اوعي تنسي تيَّم السفاح.. خلي بالك من هديتي ليكِ.
دفعه الشرطي بقوة حتى خرج من الباب ثم قادوه إلى عربة الشرطة وسط نظرات صديقه الذي بكى كالأطفالٍ عند رؤية صديقه مكبلًا ومجرورًا إلى مصير لا يعرف نهايته!!
•~•~•~•~•~•~•
أيا ليتنا نختار ماذا نكون في حياة بعضنا؛ فأكون دواءها وليس رغمًا عني داءها.
“تيَّم السفاح"
•~•~•~•~•~•~•
((التقيكم في الجُزء الثاني بمشيئة الله وعمل روائي كامل))
وعودة السفاح والنَمرة.
“الإهداء".
أود أن أهدي سطوري هذه للجندي المجهول الذي كان بمثابة مصدر موثوق فيه؛ أهدي سطوري إلى "طبيب المستقبل" ومكسبي الكبير وصديقي الودود؛ أعلم أنك لن تمر على مهنة الطب مرور الكرام وأننا بصدد التعرف على موهبة متمكنة وفارقة وليست تقليدية، كُنت وستبقى شخصي المُميز، وفقك الله وأنار لك كُل الدروب التي تدوسها قدماكَ وزادك علمًا ونفع بك.
دكتور/محمود الشيمي.
•~•~•~•~•~•~•
)تمَّـــت بفضل الله)
ينايـــر 2023
#حَرم_السفاح
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
حَرم السفَّاح.
Acciónنوڤيلا 2023 (حَرم السفاح) تأليف/علياء شعبان كاملة. ••••••••••••••••• "مُقدمة" أنا مُجرد فتاة كانت تعيش حياة هادئة هانئة إلى أن رأيته فتحول هدوء يومي الساكن إلى عواصف هوجاء ترعد طوال عامي وما كدتُ انتفض في ثورة لإبعاده عني حتى رأيت يداي مقيدتان بسلاس...