سَماءٌ بِلونِ السُّخام اِصطبغَت، سحُبٌ قُطنيةٌ بِدمعٍ سخينٍ أنذرَت، كحالِ الصّبي الذي يهَددُ دمعهُ بالسُّقوطِ في أَيّة لَحظة، لم يَعد يَعي ما حوله؛ أحَسّ كأنّ الزّمن قَد توقف، اِنقبضَ قلبه وَشعرَ بتَمزّقٍ فِي شَرايِينه، فِي ظُلمةٍ لا قاعَ لهَا هَوى، هَوى عمِيقًا حيثُ لا أَحد قادِرٌ على إِنجادهِ أو سماعِ اِستجداءَاتِه التي باتَت مِن دُون جَدوى.
أَحسَّ بنَدفٍ يَصطدمُ بوَجنتَيه، مَطر؟ كلا؛ بل دُموعهُ التي أبت التّكتمَ عن مَشاعرِه، وَعبّرت عمّا في داخِله بِأبلغِ المشاعرِ صِدقًا.
غمامةٌ بيضَاء اِكتست رُؤيته، وَهو يُحاولُ الاِقترابَ مِن ذلكَ المَبنى المُلتهِب، أصواتٌ مِن حولهِ تُناجيهِ التّوقف، لكنّه لَم يكن يَسمع فعقلهُ اِمتلأَ بشَريطِ ذكرياتٍ مرَّ أمامهُ كلمحِ البصر، مَا زادهُ ذلكَ إلّا عذابًا ولوعَةً، فلَو اِحترقَ حيًّا لكَان أهون وأرحَم!
صاحَ رجلٌ بقبعةٍ واقيةٍ وهوُ يمسكِ به مِن كَتفيه: «مَا الّذي تَفعله أيُّها الصّغير؟! المكانُ خطر، لا تَقترب أكثَر!»
صاحَ الفتَى بِحُرقةٍ وترجٍّ: «أخِي هُناك! أخي!»
كَما لو كانَت ترنيمةً مِن نوعٍ ما، بقي الصّغيرُ يُردّدُ كلماته، حتّى اِزدادت الغمامةُ البيضاءُ كثافةً وَاِبتلعت وعيهُ بالكَامل، وَشريطُ ذِكرياتٍ عُرضَ عَليه لِيذكِّرهُ بِمَا رَفضَ الإِذعان به.
صَاحَ صبيٌّ فِي الثَّانِيةَ عَشر مِن عُمرهِ بِقسوة: «اُركُض لِتنجُو بِحياتِك؛ لَديكَ تِسعُ دَقائِقَ قَبل أَن ينفجِرَ المَبنى.»
شعَّت عيناهُ ببَريقِ الغَضب فَقد نَفد صبرُه وَبدأ يضيقُ صَدرُه، مِن الوَاضِح أنَّ هُناكَ قُنبلةً مَوقوتةً مُعلّقةً عَلى جَسده، تُوشكُ على الاِنفجار فِي القَريبِ العَاجل، فَلمَ تَوأمهُ الغَبي رَافضٌ مُغادرةَ هَذا المَبنى؟صَرّ عَلى أَسنانِه بِغيظ مُستهجِنًا: «أخِي، لَو قُتلتَ مَعي اليَوم، لَن أُسامِحَ نَفسي أَبدًا لِكونِي سَببًا فِي جَرّكَ إِلى الهَلاك!»
اِستكانَ اليَأسُ عَميقًا في جَوفهِ وَهُو يُحدّقُ في نُسختهِ الّتي أَبت التَّزحزحَ مِن مَكانِها، فَعلى مَا يبدُو أنّه قَد اِتخَذ قَرارهُ بِالمَوتِ مَعه، لَكنّهُ مَهما حَصل لَن يسمَح بَهذا! فَترجّاهُ بِوهن: «أخِي، أَتوسلُ إِليك، حَقق رَجائي الأَخير؛ أَريدُكَ أَن تَمضِي قُدمًا فِي حِياتكَ دُون اِلتفاتِكَ لِعثراتِ المَاضِي، وَأن تَكُون سَعيدًا.»
حَياةٌ سَعيدة؟ كَما لَو كَانَت أَطرفُ نُكتةٍ أُلقيت عَلى مَسامِعِ المُخاطَب، أَهلسَ ضَاحِكًا وَانجَوى دَمعهُ المِحجَرين، فَحياةٌ مِن دُونِه لَا تُساوِي شَيئًا، إِذ إنّ تَوأمهُ بالنِّسبةِ لَه الحياةُ وَما فِيها، فَإن كَان كَسفينةٍ تُبحرُ فِي ظُلماتِ اللَّيل دُون هدي، فَشقيقهُ الأَكبر مَنارةٌ تُنيرُ لَه الطَّريق وُترشِدُه.
أنت تقرأ
شَطرُ مَنفَى -قيد التّعديل-
Mystery / Thrillerإنّي كَغريقٍ يَتخبطُ بَين أَمواجِ الحَياة، سَبيٌ لماضٍ أَبى أَن يُطوى فِي رَفِ النِّسيان. أُوارِي ذَاتِي المُلبدَةَ بِالظَّلام، والنّسيَان بِأقنعةٍ مُبتسِمةٍ زَائِفة، وَأُمثِل عَلى مَسرحِ الحَياةِ بينمَا أَنا عَلى وَشكِ الزَّوَال. الشُّكرُ لِأنامِل...