«تَدنُو خلفَ الغَمام؛ وكلّ من حَولِها تَلُوم.
هَذا أنَا، أتَألمُ دُونما أملٍ يَدُوم.
هَل تَذكّر ذلكَ المَساء يَوم تَبادلنَا الكَلمَات؟
هَل تُنكِر وَعد البَقاء بِجانِبي حتّى الممَات؟
مَاذا جَرى حتّى تَخونَ مَا بينَنا كَان؟
قُل لِي هَل أنتَ سعيدٌ الآن؟
أجِبنِي عَن هَذا السّؤال، قُل لِي هَل أبُدو عَلى أحسنِ حَال؟
لَدي سُؤال، وَألفُ سؤال.
قُل لِي لِماذا تَركتنِي وَحيدًا أَتخبطُ فِي الأَشجان؟
مَاذا تُريد؟ إِنّ الشّوق في قَلبِي اِستكان.»تَعالَى صوتهُ الشّجِي رَقيقًا فِي الأَرجاء، غَنى بِهدوءٍ وَهو يُحدقُ في أُفول الجُرمِ السّماوِي، وتوشُح السّماءِ بَعدئذٍ لرِداء الليلِ الأَدعج، هُدوءٌ اِعتلاهُ عكسَ مَا حَاكته كلماتُ الأُغنية عَن حَاله، والنّابعة مِن أعماقِ قلبِه، حَيثُ وَشت عمّا أضمرهُ الفُؤاد مُنذ تلكَ اللَحظةِ وَإلى الحِين.
سرَت رجفةٌ على جَسد الصّبي؛ اِشتدَ البردُ في هذهِ اللَيلة وَهو لا يرتَدي مَا يقيهِ مِن شَره، وليس يفكّر فِي ذلك؛ يعتقدُ أنّ شُعورهُ بالبردِ سيُصفي أفكَاره، وَيقمع عَواطِفه، وَهو حقًا بحاجةٍ إلى ذَلك.
وَبينمَا هُو شارذُ البالِ شعرَ بدفءٍ يتسللُ إِليه، ورائحةٌ مألُوفة العبَق دَغدغَت أنَفه، لَم يحتَج إلى ذلكَ الضّياء الّذي تَسلل بِوقاحةٍ مِن بَين الغمامِ المُكفهِر فِي صفحةِ السّماء، والّذي أبرزَ نصفَ وجه مَن لَفهُ بِالوِشاح، لِيعلمَ أنّها والدَته؛ المرأةُ الّتي وَهبتهُ الحياة، وَمن اِبتغَى في ذاتِ الوَقت فَناءَه.
دَهشةٌ، صدمةٌ، وخوفٌ، كلّها مشاعرٌ اِنسكبَت على زرقَاوتَيه، بَينما تراجعَ إلى الورَاء بِضعَ خُطوات، فِي حين أنّها ثَبتت مَكانَها تُحدقُ فِي الصّبي المُرتَجف، وَمضت ابتسامةٌ باهتةٌ على شَفتيهَا، حزينةً كَانت، ثمّ نَطقت: «هَل أنتَ خائِفٌ مِني؟»
سَألت عرضًا ولم تَنتظِر منه إجابةً، فهِي أعلمُ مِنه بِها. اِتكأت عَلى سياجِ السّطح، ولم تُبادر إلى الحَديثِ بَعدئذ، صمتٌ مُطبقٌ اِنسكَب عَلى الأفواه، جعل الجو بينهُما مُحرجًا وَغير مُريح.
لِم هِي هُنا؟ ألَم تُسافِر دُون نيةٍ للرّجوع؟ فكّر السّماوي وَهو يسترقُ النّظرات إِليها خِلسةً.
«هَل تَكرهُني؟» سَألَت بُغتة، فتقعَرت لازورديتَا المُخاطَب صدمَةً؛ ما حَاجتُها لإِجابة سؤالٍ كَهذا؟ وَمَع ذلك فهُو ما زال يُجيب عليهَا بصراحةٍ عقبمَا عادَ إلى رُشده، وَليس يَدري أكانَ ذلكَ جراء العَادة، أم لأنّه اِختنقَ مِن كبتِ مَشاعره: «لا، وَأكرهُ شعورَ أنّي لا أَستطيعُ كُرهكَ كَثيرًا، مِن الوَاضحِ جدًا أنّ رؤيتكِ تُسببُ لِي الحنق! لكنّي...»
أَطبقَ فمهُ فجأَة، وقوسُ عبوسٍ نما عَلى شفتَيه، شدّ على قبضتِه، وغرزَ أظافرهُ بعمقٍ في راحةِ يَده، اِنتكسَ بصرهُ على الأَرض ولَم يجرؤ عَلى النّظر إِليها كَمّا لم يجرؤ عَلى إِتمامِ كَلمِه. صحيحٌ أنّ البقاءَ بجانِبها يُسببُ له الضّيق كّما هُو الحال الآن، بل يُضحِي مُضطربًا، وَمُحبطًا لسببٍ يَجهلُه، إلّا أنّه في أعماقِ قلبهِ سعيدٌ قليلًا، ولهُ بعضُ التّطلُعاتِ اتِجاهها. وإِن غُلب على كلّ هذهِ المشاعر مَشاعرُ الاِرتياع والخَوف، فهُو قادرٌ على تمييزِ أنّه فرحٌ قليلًا ولو لم يكُن ذلكَ بادِيًا، لكنّه لَن يعترفَ بذلكَ مُطلقًا.
أنت تقرأ
شَطرُ مَنفَى -قيد التّعديل-
Mystery / Thrillerإنّي كَغريقٍ يَتخبطُ بَين أَمواجِ الحَياة، سَبيٌ لماضٍ أَبى أَن يُطوى فِي رَفِ النِّسيان. أُوارِي ذَاتِي المُلبدَةَ بِالظَّلام، والنّسيَان بِأقنعةٍ مُبتسِمةٍ زَائِفة، وَأُمثِل عَلى مَسرحِ الحَياةِ بينمَا أَنا عَلى وَشكِ الزَّوَال. الشُّكرُ لِأنامِل...