جَالِسٌ عَلى رِمَالِ شَاطِئِ البَحر وَحِيدا، يَتحدثُ عَمَّا يُؤرِقُه وَيزعِجُه لِرفِيقِه ذُو الأَمواجِ المُتلاطِمَة، فَهُو الوَحِيدُ القَادِرُ عَلى كَتمِ أَسرارِه وَيعرِف كَيفَ يُخبئُ أَحزَانه وَهُمُومَه، كَما أَنّه يُنصتُ إِليهِ وَلا يُبَادِر بِالحَديث. وَمِن أَجل هَذا، اِعتادَت قَدمَا دِيلَان أَن تَأخدَاهُ إِليهِ وَقتَ ضِيقِه، فَقد بَات هَذا المكانُ مُؤنِس رُوحِه الّتِي أُثقلَت بِالغَم وَنُهشَت بِلا رَأفة.
أَمسَكَ حَصاةً مُلقَاةً بِجَانِبهِ ليقذِفهَا نَحو البَحر، فُتحدِثَ مَوجَاتٍ بَدأَت صَغِيرَةً ثَمّ تَكبُرُ شيئًا فشيئًا حَتّى تَتوَارَي عَن الأَنظَار، أَعادَ الكَرةَ مِرَارًا وَتِكرَارًا حَتّى تَعبَت يَداهُ مِن هَذا.
سَمحَ لِلنَّسيمِ أَن يُبعثِر خُصلات شَعرِه السَّماوِية بَينمَا يُصغِي إِلى صِياحِ النَّوارِس، وَيحُدقَ فِي تِلك السَّماءِ الزَّرقاءِ الصَّافِية الّتِي يسبَحُ فِيهَا الغَمامُ الشَّبيهُ بِالقُطنِ بِحُرية، فَتَتغَلغلُ بَعض السَّكينة إِلى أَعماقِه، فَلكَم يُحبُ الهُدوءَ وَالاِختلَاء لِوحدِه بَعيدًا عَن البَشر!
«مَرحبًا! هَل بِإمكانِي الجُلوسُ بمُحاذَاتِك؟» نَغمةٌ غيرُ مَألوفةٍ تَنَاهَت إِلى مَسامعِه لِيستَديرَ نَحوَ مَصدرِها، فَيرى شَابًا فِي مُقتبلِ العُمرِ مُقبلًا إِليه. مَع حَركةِ النَّسيمِ تَهادَت خُصلاتُ شَعرهِ الدَّعجاءِ المُزدَانةِ بِأقفَالٍ صَهباء عَلى نَاصيَتِه، وَبلمعَانٍ لَازَوردِيٍ تَألَق مِحجَريه.
كَانَ طوِيل القَامة، مَمشُوق القَوام، ذَا بشرةٍ سمرَاء فَاتِحة، لَم يرهُ قبلًا وَلا يعرِفُه، فمَا مُبتغاهُ مِنه؟ قَطبَ حاجِبيهِ يُحملِقُ بِه بِريبَة، وَقبلَ أَن تَفترقَ شَفتيهِ للاِستفسَار، نَبسَ الشّاب كَما لَو كانَ عَلى علمٍ بِما في خَاطرِه يدُور: «لَستُ شخصًا سَيئًا أَيا صَغيرِي، أُريدُ فَقط شَخصًا أُشارِكُه مَا يُثقلُ كَاهِلي، شَخصًا بِه مِن الهُمومِ الكَثير، فنفَضفضُ لِبعض، علّنا نكُون بسلمًا لجُروحِ كِلّينا.»
اِستنكَر قولَ الغَرِيب، فردَّ بحاجبٍ مرفُوع: «وَكيفَ علمتَ أنّي مهمُوم؟ بَل مَن قَال أنّي أودُ رَفيقًا للفَضفضةِ إِليه؟»
هَز المُخاطَب كتفيهِ بِلا اِكثرات، ثمّ جلسَ بِمحاذاتِه دُون دعوة، وَقد أجاب ونبرتُه شُعت مَرحا: «ذَلكَ لا يهُم مَا دُمتَ اِعترَفتَ بِنفسِك.»
فُغرَ فاهُ الصَّغيرِ لِوهلةٍ ثمّ تدَاركَ الأمرَ هاتِفًا بِغيظ: «وَمن سَمحَ لكَ بالجُلوسِ بِجانِبي؟»
حَال مُقابلةِ الأَصغر لاِبتسامةِ الشَّاب المُشرقة، أَطبقَ لِسانهُ عاجزًا عن إِيجادِ ما يُعقب به كَلامه، مُشتكيًا داخِله بكلُوح، إذ لم يبدُو كَشخصٍ أَثقلتهُ الهُموم، وَأضنَته.
أنت تقرأ
شَطرُ مَنفَى -قيد التّعديل-
Mystery / Thrillerإنّي كَغريقٍ يَتخبطُ بَين أَمواجِ الحَياة، سَبيٌ لماضٍ أَبى أَن يُطوى فِي رَفِ النِّسيان. أُوارِي ذَاتِي المُلبدَةَ بِالظَّلام، والنّسيَان بِأقنعةٍ مُبتسِمةٍ زَائِفة، وَأُمثِل عَلى مَسرحِ الحَياةِ بينمَا أَنا عَلى وَشكِ الزَّوَال. الشُّكرُ لِأنامِل...