الفصلُ التّاسِع: ضِيَاء.

64 8 10
                                    

عَزفَت الذّكرياتُ أَنغامًا مَمزوجةً بِمشاعِر الشّوق وَالحَنين، وَقد تَهادَى الفِكرُ نَحوَ تلكَ الأَنغامِ مُرغمًا، كما لَو كَانَت نَبيذًا يُسكرُ الأَنفس. اِرتخَى جَسدهُ بِتعبٍ عَلى كُرسيهِ الأَسود الجِلديّ، حَجب الضَّوء عَن عَينيهِ بِاِستخدامِ مِرفقهِ الأَيمن، وَقد سمَح لِذِكرَى بَعيدةٍ عَفى عَليهَا الزّمانِ بِالتّقدمِ إِلى عَقلِه، عَادَت بهِ الذّكرياتُ إِلى أَيامٍ زُينَت بِعبيرِ الضّحكات، وَشذَى البَسمات.

اِنغمسَ في بحرِ الذّكريَات وتنَاسَى ما حولهُ لحَظات، ولم ينتشِلهُ من شُرودِه إلّا رنينُ الهَاتِف مُعلنًا عن تَلقيهِ رسالةً جَديدة. دلكَ ما بينَ حاجبيهِ مُتفقدًا الوَقت، وقد تجاوزَت السّاعةُ مُنتصفَ اللّيل.

رتبَ مكتبهُ ونظمهُ قبل أن يغُادرَ الغُرفة قاصدًا غُرفةَ نومِه، لكنّه توقفَ بُرهةً يُحملقُ في بابِ غُرفةِ اِبنه، يتخبطُ موجٌ من الأفكَار والمَشاعرِ المُعقّدةِ في زَرقاويه؛ صراحةً ليس يدرِي كيفَ سيُواجِهُه، أو بالأَحرَى هُو خائفٌ من رَفضِه؛ كيفَ سيتقبلهُ وهُو والغريبُ سيانٌ بالنّسبةِ له؟

مدّ يدهُ للدّق على البَاب، إلّا أنّه سريعًا ما غيَرَ رأيَه، قبضَ على يدهِ والتّردُّد جليٌّ على المَلمح، أدارَ كعبهُ قصدَ المُغادَرة، فاِستوقفتهُ شهقةٌ خافِتةٌ طرَقت مَسمَعه، ولم يتردّد لحظةً حينئذٍ في فتحِ البَاب.

أضاءَ البرقُ الغُرفةَ الّتي كَانَت خاليةً، إذ لم يكُن أرَام مَوجُودًا في سريرِه أو في أيّ مكانٍ على مَرمَى بَصرِه، تفقدَ الحَمامَ ولم يَجده، كمَا تفقدَ كلّ شبرٍ في الغُرفةِ دونَ فائِدة، ثمّ استقَر نظرهُ على الخِزانَة، تقدمَ إليهَا بِخطى ثَابتة، فتحَ أحدَ أبوابِها فيُصدمَ بجسدٍ فانٍ مُرتَجف، مُتكوّرٌ على نَفسِه يرجُو بعضًا من الأَمان.

حالهُ كان يُرثَى لَها، يُغلقُ أذنيهِ بيدَيهِ بينَما يُتمتمُ برُعبٍ رُسمَ على محيَاه: «لا تَفعلي، أرجُوكِ لا! اِبتعدِي...»

لم يكُن فِي وعيه؛ كأنّما دميةٌ منومةٌ مِغناطِيسيًا، تردّدُ هذا الكلامَ دون كلّلٍ أو ملّل.

تمزقَ قلبُ أران كمدًا وَبؤسًا على حالِ ابنِه التّعيسَة، ثمّ وضع كفهُ برفقٍ على كتفهِ ما زادَ حدةَ اِرتجافِه وصُراخهِ الهِيستِيريّ، اِنتفضَ الأصهبُ من مكانِه مَصدُومًا. لم يعِ سببَ خوفِه ولم يدرِ ما العملُ معه، اِشتدَّ هزيمُ الرّعدِ مُزامنةً مع تلقيهِ إشعارًا برسالةٍ جدِيدة من دَانيَال فلُورِيس؛ جدُ أَرام.

قبل أَن يفتحَ الرّسالةَ ويتفقدَها اِنتبَه أنّ صرخةً خائِفةً فرّت من شفتَيه وقتَ علُو صوت الرّعد، ولم يمضِ وقتٌ حتّى استَوعب سببَ حالتِه الهِيستِيرية بعدَ إتمامِه قراءَة الرّسالة الآتِية: «ليلةُ اليومِ رعدِيّة، وهِي أكثرُ ما يهابُ أرَام؛ في ليلةٍ كهذِه قبلَ سنواتٍ كادَ أن يفقدَ حياتهُ بسببِ أمّه، لذا باتَ الرّعدُ جنبَ الظّلامِ أكبرَ مخاوِفه. اعتَاد في أوقاتٍ كهذهِ الاِختباءَ في الخِزانة؛ علّه يُشتتُ خوفهُ من الرّعد بالظّلام. رجاءً اعتنِ به.»

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 16 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

شَطرُ مَنفَى -قيد التّعديل-حيث تعيش القصص. اكتشف الآن