[٠٠]: آدم

183 25 35
                                    

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.


«يلهو وعيناه بين النوم والسهر
يبدو كشخصين مهزوم ومنتصر
لكنه يتعامى وهو ذو بصر
فلا يفرق بينهما الرخ والشاه»

-تميم البرغوثي | جارة.

_


هب نسيم لطيف وتراقصت أضواء القمر على شواهد القبور. شعرُ آدم تراقص معها وارتعش جسده بعنف لكنه لم يحرك بصره عن القبر الذي وقف أمامه.

لسعته عيناه وجلس على الأرض ثم مسح التراب الذي دفن أسفله المرأة التي يُحبها. تذكر ملمس يديها المجعدتين على وجنته، تذكر كيف كانت أصابعها تتخلل خصلات شعره الناعمة وتذكر صوتها الهرم وهي تعيذه من العين.

تذكر حين كانت تغطيه عندما يغفو من التعب على أريكة منزلها القديمة، وتذكر رائحة الشاي الذي تخمره في الصباح، ورائحة الطعام عند المساء.. حين كانت تطهو له وجباته المفضلة.

التوت معدته داخل بطنه، كل الطعام الآن صار أشبه بالتراب داخل فمه.

كان يعرف في قرارة نفسه دائما، أن المرأة أسفل التراب هي المنزل الوحيد الذي امتلكه. وكان يعرف أنها حين ماتت، وحمل نعشها الثقيل على كتفه في عز الظهيرة.. خسر آدم بيته إلى الأبد، ودفنه معها.

مديحةٌ وحدها كانت صاحبة الفضل في قدرته على الإحساس بالمشاعر، المرأة الوحيدة التي استطاعت صقل طباعه النزقة إلى شيء أقل نزقًا بقدر الإمكان، جدته هي، ولا أحد غيرها، الشخص الذي علمه أهمية الاهتمام بالغير.. بطريقته الخاصة على الأقل.

انحنى بضعف نحو الأرض ونال الإرهاق منه، تحررت دموعه أخيرا وتمرغت وجنته بالتراب، قبض حفنة في يده ثم اهتز صدره وبكى. ارتفع نحيبه وشق صمت المكان، لم يتعرف على الصوت الذي خرج منه، لم يكن يعود لآدم، إنه صوت مخلوق هستيري نال الجنون قطعة من عقله.

ماذا يفعل هنا؟ في منتصف الليل داخل المقابر؟ يبكي قلبه فوق التراب؟

لقد أستيقظ في الواحدة صباحا مرتعشا يسبح في عرقه.  ما زال يرتعش، وما زال جسده يحترق رغم ابتلاعه حبتي بنادول خافض للحرارة، وما زال قلبه يؤلمه وكأن جدته ماتت اليوم، وليس قبل أكثر من خمس سنوات، ستة؟

فقد القدرة على العد. كل الأيام سيان بعد رحيلها، كلها مليئة بالشقاء.

فتح عينيه مجددا واستقبله ليل العراق. هناك ليلان للعراق.

سكن جسده بعد أن نال منه التعب ومسح وجنته المخضبة بالتراب والدموع ثم رفع يديه إلى السماء وبدأ يقرأ سورة الفاتحة بأنفاس منهكة.

نهض ثم حمل دلو المياه الذي أحضره من الحارس وبدأ بغسل قبرها رغم الوهن الذي يسيطر على بدنه. لحسن حظه أن حارس المقبرة كان سهرانا يتعلل مع ندمائه وسمح له بالدخول.

كان بحاجة إلى جدته. حية أو ميتة، كانت الشخص الوحيد الذي يتسع لقلبه، لتعبه، لوهنه، وللياليه الطويلة مسكونة الأرق.

«اعتني بي من حيث أنت.» قال بكل لطف وكأنه يحادث امرأة من زجاج قد تكسرها خشونة صوته. «اعتني بي فما زلت بحاجة إليك.»

  كل البيوت صارت بلا جدارن يا جدتي.
  كل المنافي اتخذت شكل أهلٍ وأصواتٍ وحيطان.

  كلهم منافٍ يا جدة، كلهم مواطن غربة.

أعاد الدلو إلى صاحبه حين انتهي وودعها مُكرهًا ثم قفل عائدًا، إلى المنفى.

عائد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن