نظرة عن قرب
من فوائد أبواب البريد في الصحف أنها تتيح لنا فرصة الاطلاع على آلام اﻵخرين وعذاباتهم فنكتشف أحيانا أن ما نعانيه هو من تفاهات الحياة بالقياس إلى آلامها ومشاكلها اﻷخرى.«أصدقاء على الورق - عبد الوهاب مطاوع»
وانا أقول:
لا داعِ لقراءة الصحف والمجلات لتشعر بالأم الآخرين ومعاناتهم، ترىٰ في عيون الناس اليوم همومهم، كلما مررت على أفران الخبز وفي الأسواق، وحتى فى المجمعات الاستهلاكية، والمحلات التجارية.
حين تذهب إلى محطات القطار، ومواقف الاتوبيسات، في محطات المترو، فى وجوه المارين فى الشارع من حولك،الواقفون فى إنتظار أدوارهم على ابواب البريد لصرف الإعانات الإجتماعية والمعاشات، وذلك جانبٌ هينٌ بعض الشيء .
أما الجانب الأخر يحتاج منك لجُهدٍ قليل، وبعض الوقت حتى تذهب الى تلك الأماكن لترى بعينك وتشعر بوجدانك بما فى عيون الآخرين وقلوبهم.
إذهب الى أي مستشفى حكومي وانظر فى وجوه المرضي وذويهم ترى الالام المنبعثة كما تنبعث الحرارة من لهيب النار.
اشجارٌ كان متورقة ومزهرة ويانعه فأصابها الداء فاصفرت وتساقطت اوراقها وذبلت ازهارها، ولم تعد يربطها بالحياة سوى هذا الجذع الممتد أسفل الارض، ضعف عودها وانحنى.
هنا فى انتظار ذويهم يفترشون الليل بأجسادهم يسكنون ارضفة الشوارع، يكفيهم الإنتظار مرارة، فيتجرعون مرارة اخرى فى العراء وقسوة أخرى من اللذين يستغلون حاجة الناس ويكوي قلوبهم وارواحهم بالغلاء والاستغلال.هنا فى هذا المركز الخاص لعلاج الإدمان، انظر الى وجوه هؤلاء الشباب، الذين لم يبقى من شبابهم غير الأعوام المسجلة فى بطاقة تعريفهم، شاخت وجوههم وكهلت أجسادهم ووهنت عقولهم وضعفوا واستكانوا، أذلهم الهوى واذلوا انفسهم باتباع سبيل الغي حتي قضى عليهم بلاء الإدمان، فأصبحوا لايرى في وجوههم إلا الألم والضعف.
كم من شابٍ أصيب بهذا البلاء فتحول من نشاط الى خمول الى ضمور. وكم وكم ولا تدري هل يزول الهم والغم أم تزول أجسادهم وارواحهم يوما بعد يوم.تعال معي لنذهب فى رحلة للنفس فيها عظة وللروح منها حكمة، وللعقل فيها تدبرا، لعلنا نرى فضل الله علينا ونعمائهالتي لا تحصى ولاتعد.
هنا معهد الاورام، وما ادراك ما معهد الاورام، آلامٌ مستمرةّ، وأوجاعٌ لا تتوقف، ودموعٌمن القلب منبعها، هناك قلوب ملأها الحزن وكسرتها الحاجة وقلة الحيلة.
هنا معهد القلب، هنا الاطفال والكبارُ، على حافة الموت، بين غياهب الوجع، ولهيب القرار، لا حيلة لك فى شيء سوى ان تتوكل وتسير الى ما لا تعرف عنه إلا سبيلا الى شعاعٍ يبرق بأمل بعيد.
هذا الأب الذي مازال لم يبدأ بعد بناء اول لبنة فى اسرته، يحمل اول مولود له ويتنقل مابين مستشفى الى مستشفى ينتظر دوره ليدخل إبنه الى جراحة قلب ومن بعدها جراحة قلب اخرى، ولا يملك من الحياة الا قليلا.
اللهم صبرًا يليق بعظمتك، وعونا منك يارحمنوعلى هذا المنوال، وهذه الطريقة، فى كل مستشفى حكومي لا تختار مرضاها انتقاءا حسب حالتهم المرضية والمادية، تجد الالام تنبعث كما تنبعث من الشمس حرارتها فى ظهيرة الصيف.
وهناك في مستشفيات الصحة النفسية، تعلم مقدار العقل وقيمته حقا، فما الذي جعل هذا الرجل برغم فصاحة لسانه وجذالة اسلوبه ورجاحة عقله من قبل، قد أصبح هكذا دون فكر وعقل وحتى دون وجهة يولي نفسه إليها، لايدري عن نفسه شيئا.
كيف تحول هذا الى ذاك، وكيف انقلب الحال من رأس الى عقبٍ هكذا، ما الذي يستحق فى هذه الدنيا من صراعات وجدالات ليفقد الانسان منا عقله بلا رجعة، في سبيل ماذا يضغط إنسان على إنسان حتي يصل به الى الجنون.
هل رايت ياصديقي أن الشعور بآلام الآخرين لا يحتاج سوى الذهاب الى هنا وهناك، او السير على قدميك فى طريق مزدحم، او الوقوف فى محطة قطار او امام مستشفى، او دار مسنين، او مكتب بريد او غيره من الأماكن العادية التي يتردد عليها الجمهور يوميا.ولا مانع يا سيدي من إرجاع ابواب البريد فى الصحف وقراءتها مرة أخرى، ففيها جانب أخر لا يقل أهمية عما تحدثت عنه، بل ربما يكون أحد اهم الأسباب الأوليه لحدوث اغلب الامراض، والدخول فى مستنقع الإدمان أو ذهاب العقل وضياعه.
مرة أخرى تفقد احوال من تهتم لأمرهم كل فترة، ولا تعزل نفسك عنمجتمع تعيش فيه، ولا تنطوي وحيد، فبرغم مساؤي الحياة الاجتماعية وسلبياتها المنتشرة والواضة عيانا بيانا فالمواجهة هي السبيل الأفضل دوما، وليس هناك حلٌ فى الهروب بعيدا.
أنت تقرأ
حنين ٌ من الماضي
Randomمقتطفات من أحاديث الصباح والمساء حرفٌ يكتبما تحدثه به الظنون، وحرفٌ يكتب من خيالات الشجون، وحرفٌ يرسمُ الحركات قصصا وحكايات، وحرف ثار على ما لايُريد فمات. هنا بيت القصيد، وبستان يفوح من عطر حروفه، هنا المعاني والسحر والدلال، هنا الشجن ودموع الحنين