استيقظت يثرب كئيبة، وقد صبغت الشـمس جـدارنـهـا بحـمرة
ملتهبة، وكان غراب بنعب فوق أحد المنازل.
ارتاعت فاطمة الصغرى، وهي تراقب الغراب، وقد كـان يـلطخ
جداراً يحيط باحة البيت.
بدا البيت خاوياً على عروشه، فلا أحد يؤنس الفتاة الوحيدة من
تخلفت عن القافلة لعلة أنهكتها.
ترکوها وحيدة، وانطلقوا الى أرض السواد. وكانت تترقب بريداً
يأتي من قبل أبيها، وها هو نذير الشؤم يحط على المنزل.. يملأ الفناء
بنعيقه، ويصبغ الجدار بدم هابيل.
وتمر الأيام كالحة سوداء، كأسراب غربان مهاجرة.وذات صباح حزين، سمعت الصبية صوتاً ينعى والدهـا العـظيم.
كان الصوت يتردد بين منازل المدينة المنكوبة:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمـعـي مـدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج والرأس من فوق القناة يدار
هبت يثرب عن بكرة ابيها. اليوم مات رسول الله .
واتجهت الجموع المدهوشة الى الصحراء للقاء قافلة عصفت بها
الأيام.
وخرج فتى في العشرين من خيمته وهو يكفكف دموعه ويشهق
في عبرته. ودارت عيناه في رجال صحبوا النبي. كان ينعى اليهم سبط
صاحبهم العظيم.
ودخل الفتى بعياله مدينة جده... وبكت زينب عندما لاحت لها
البيوت من بعيد، فأجهشت بالبكاء، ولأول مرة بان الانكسار على
وجهها، وهي تردد:
مـدينة جـدنا لا تقبلينا فبالحسرات والاحزان جـينا
خرجنا منك بـالأهلين جمعاً فـعدنا لا رجـال ولا بنينا
وعندما وصل الركب الى المسجد، أخذت اخت الحسين بعضادتي
باب المسجد، وهتفت:
ـ يا جداه إني ناعية اليك أخي الحسين.وصاحت سكينة بلوعة:
يا جداه اليك المشتكى مما جرى علينا، فو الله ما رأيت أقسى
من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه، ولا اجـن وأغلظ ،
فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته ويقول: كيف رأيت الضرب
ياحسين؟!وناحت الرباب بنت امرئ القيس بقلب كسير:
قد كنت لي جـبلاً صعباً ألوذ بـه
وكنت تصحبنا بـالـرحـم والديـن
من لليتامى ومـن للسائلين ومـن
يغني ويأوي اليـه كـل مسكين
والله لا ابتغي صهـراً بـصهركم
حتى أغـيب بين الرمـل والطـينودخل رجل من أولاد طلحة على بقية آل محمد وسأل شامتاً:
من الغالب؟
فأجاب الفتى وهو يزيح عن العيون حجب الزمان:
ـ إذا دخل وقت الصلاة فأذن وأقم تعرف الغالب.
اهتز الأشدق شماتة وهو يصغي تشفياً الى مناحة بني هاشم، وتمتم :
واعية بواعية عثمان!والتفت الى قبر النبي وأردف:
يا محمد يوم بيوم بدر.
واتجه الاشدق الى المنبر، وراحت كلماته تخرج شظايا يتهدد أهل
المدينة بالويل والثبور، ثم أصدر أمره الى قائد شرطته بهدم دور بني
هاشم، فهرول الشرطة يحملون آلات الدمار، فأمعنوا في خرابها حتى
غادروها أطلالاً أو خرائب خلفها الزمن الراحل.
ولاذت بنات محمد بالقبر الشريف، وهي تستصرخ الضمير النائم؛
مـاذا تـقولون إن قال النبي لـكـم
مــاذا فعلتم وانـــتم آخـر الأمـم
بــــــعترتي وبأهلي بــــعد مـفتقدي
منهم أسـارى ومنهم ضـر جـوا بـدم
ماكان هـذا جـزائي إذ نصحت لكـم
أن تخلفوني بسـوء في ذوي رحـم
كان الحزن يطوف بيوت يثرب، كغيوم رمادية مثقلة بدموع السماء،
وكانت عجائز المدينة يحدثن حفيداتهن عن احزان قديمة لأم الحسين
يوم ودع أبوها الدنيا الى الرفيق الأعلى.
وتهامسن عن حزن جديد.. حزن زينب.
ان القدر لن يمهلها كما لم يمهل أمها من قبل.سرعان ما رحلت الزهراء... التحقت بأبيها..
لن تعيش زينب اكثر من عام.
إنها تذوي لحظة بعد أخرى، كشمعة تذوب في قلب الظلام.
أنت تقرأ
إمرأة أسمها زينب "رواية"
Spiritualولئن جرت علي الدواهي يا يزيد مخاطبتك اني لاستصغر قدرك. -زينب