4_قسم وتعهد

73 14 30
                                    

زخات مطر تتساقط بكثرة، والرصيف أصبح مبتلا بالفعل. اليوم يوم ذو جو كئيب، فالسماء اضحت رمادية إثر غيومها الكثيرة المشحونة بالمطر. والريح تعصف هنا وهناك حاملة معها اوراقا و قمامة خفيفة مصدرة صوتا قويا. فكيف يكون هذا الذي يمشي وحيدا شاردا على الرصيف بدون مظلة ولا يرتدي قلنسوة سعيدا. إن الصباح يبدو كالليل لحلكته، والجو متشائم يدعو للاحباط. فهل يحق له هو أن يفرح بينما العالم كله يحارب صفوته وراحته. تنهد في إعياء ينظر للارض، مركزا على صوت إرتطام قطرات المطر بالأرض، وهبوب الرياح ببرودة جاعلة رجفة تسري بكامل جسده يحاول نسيان روحه وعقله وهمومه. يجرب اخذ وقت مستقطع من الزمن، لعله يشحن طاقته من جديد، ويملئ مخزون تحمله ثانية. لكن الزمن لن يتوقف لأجله.

تنهد مرة أخرى، لكن هذه المرة بعزيمة أكبر. ثم أصبحت خطواته أسرع وأسرع، إلا أن بات يجري متخطيا المارة فإضطرب تنفسه وشرع باللهاث. لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن تخطي المارة وإرهاق نفسه.

أخيرا، توقف يثني قدميه ويضع يديه على ركبتيه يستجمع أنفاسه الضائعة، يناظر القوس الأبيض الكبير الذي كتب أعلاه "مقبرة" بخط كبير لونه أخضر وأسفلها بخط صغير "كل نفس ذائقة الموت"، فطأطأ رأسه بحزن وتقاسيم وجهه تبرز تعبا وحملا بالغ الكبر.

تقدم بخطوات بطيئة يتجاوز الباب لاخصر بلون أشجار الصنوبر، يلف رأسه بين الرجمات يبحث عن إسم نجلاء وتامر. فإتجه دون وعي منه نحو الجهة اليمنى للمقبرة، حيث لمح من بعيد إسم نجلاء و تامر. ومع كل خطوة نحو القبرين المجاورين لبعض، أخذ الثقل على كتفيه يتضاعف، والإنقباض بصدره يكبر شيئا فشيئا. إلا أن جلس بركبتيه على الأرض مقابلا للقبرين على بعد إنشات قليلة، يدع رائحة التراب المبلل بماء المطر تلفح أنفه، وصوت هبوب الرياح القوي حاملا معه عبق المقابر تداعب أذنيه.

قبل قليل فقط كان قلبه على وشك الإنفجار لإختناقه، لكنه الأن فقط إستطاع التنفس بحرية، والشعور بالراحة التي يتسبب بها هذا الجو. فرفع يده وأخذ يتلمس رجمة أمه بتريث، ويسير بيده على حروف إسمها المحفورة دون أن يعير إهتماما لمن يسير قربه، ولا حتى الشهقات الناجمة عن بكاء أناس فقدوا أعز من لديهم. لأنه ليس أفضل حالا منهم. فعقله الذي كان يضج بالأفكار، أصبح صامتا ساكنا. ولا يسمع سوى همسات أمه له قبل رحيلها، وضحكات والده قبل موته هو الاخر. لينتقل تلقائيا نحو أسوء ذكرى له في حياته. ذلك اليوم الذي دمره وجعله يعيش بكوابيس سواء كان مستيقظا ام نائما، لدرجة أن النوم لم يطرق بابه لأيام. ولازال إلا الأن لم ينسى ولو جزء بسيطا منه. لم يتكيف بعد مع حقيقة موت والديه امام عينيه. و أخذ هذا الحدث من حياته خمس سنوات ليستطيع تقبله.

حرك الأخير رأسه بقوة محاولا إسكاته، واقترب أكثر لقبر أمه وهو جاث. ثم وضع جبينه على الرجمة حتى إلتصق شعره حالك السواد بها، مغلقا عيناه بقوة. ليفتحهما والحنق يملأهما. ثم نطق بصوت عميق قوي:

_"أقسم بخالق هذا الكون، أني سأجعل لما تبقى لي من أنفاس هدفا واحدا. الا وهو الانتقام لشخصين، ميتين كانا الحياة لاخرين يوما."

ثم إستقام على قدميه ليقابل قبر أبيه. ووضع كفه على التراب يتحسس ملمسه الخشن، وشرع بتحريكه غير أبه بإتساخ كفه بالتراب. حتى تشوش نظره واضحى ضبابيا. فأدرك أن عيناه إغرورقت بالدموع ذات مزيج الحزن والغضب. ليمسحها بيده بسرعة دون أن يرفع الأخرى عن التراب. وقال بنبرة مهتزة إثر البكاء:

_"حينما كنت صغيرا يا أبي، كنت دائما اتعثر بالتراب وأسقط حينما كنا نخرج لنلعب في حديقتنا، فكنت تساعدني على الوقوف بكل مرة. وحتى عندما كان اخي يدفنني برمال البحر ولم اعرف كيف أخرج، كنت انت من يحملني ويخرجني منه. لكن لماذا لا أستطيع انا فعل المثل، لما لا أقدر على إخراجك من الأرض. إن شعور العجز أسوء شعور مررت به، والأسوء من هذا أني لم أرضى بعد حقيقة موتك وفقدانك للأبد. كم أتمنى الأن فقط أن أعود للماضي وأسرق بعض اللحظات لنا معا لأعيد عيشها وتكرارها مرة أخرى."

ثم توقف عن الحديث قليلا ليكمل:

_" ماضيا كان لي أحلام وطموحات كبيرة لأعيشها رفقتكما، لكن الأن جل طموحاتي أن أعيش معكما. لكنها تبقى أمنية. والاماني تحقيقها يتطلب معجزة. لذا فقط سأسعى لأحقق هدفي وهو الانتقام لكما، ولن أموت براحة إلا وحققت مرادي"

ثم وقف وأخذ نفسا يستنشق رائحة والديه رغم أنهما تحت التراب وداخل هذا الكفن الذي وضع بداخله محور حياته وسببها. كيف يمكن لأشياء صغيرة كهذا الصندوق، إحتواء حياة أناس أخرين ومعها مشاعر كثيرة مكبوتة.

ألقى فهد نظرة أخيرة قبل أن يلتفت ويغادر نحو المكان الذي سيلتقي به صديق طفولته، "فؤاد"

End of the part

رايكم؟

🙆‍♀️القصة ستبدأ بالوضوح بداية من هذا الفصل

متاهات وهميةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن