ظِلٌ فَانٍ

21 5 1
                                    

أصابتها نوبة هلع أفقدت عقلها فرصة التفكير فيما ستفعله...
لتخرج (روسلين) بأقصى سرعتها من غرفتها لباب المنزل الذي تركته منفتح المصرعين خلفها، لأن الهلع الذي أصابها لم يسمح للسانها برهة للحديث مع (عيان) و إخباره أين هي ذاهبت ، أو أن تغلق الباب خلفها خشية من المترصدين اللصوص ، بل على العكس سارعت للحقل بذهن مرفوع هَمٌهُ استرداد مذكراتها ،مرددة بأنفاسها كلمات متقطعة:
《يا إلهي...يا إلهي...أفضل حرق العالم على أن تقرأ صفحة واحدة من تلك اامذكرات الغبية..!!!》
ثم مستردة ربَاطة جأشها مستذكرة أن الأمر لا يستحق حقا كل هذا الهلع من أجله ، و بتعبير غبي أضافة ممازحة نفسها:
《أظن أن شنقي بساحة المدينة فكرة رائعة!...لم أترك شيئا لم أتحدث عنه بها...حتى مِن ذَاك الملك لم يسلم منها...》
و بينما هي سارحة ببحر هيامها ،عتابها و تصوراتها ،جفلت أثناء ركضها لأن شتات أفكارها منع صنع غيامة على مقلتيها جعلت الرؤية غير واضحة لما هو أمامها ، لتصطدم بقوة بخيال ضخم عرقل مسيرها...
سقطت الفتاة من هول الصدمة أرضا، متأوهة الألم الذي أصاب ركبتها إثر سقطتها بدموعها التي تسربت على خدها.
وقف صاحب الخيال الضخم لبرهة يراقبها دون مد يد العون لها أو الاعتذار بأنفاس قاسية مسموعة...
دب الصمت لبرهة بالمكان لم يعكره إلا شهقات (روسلين) التي كسرت أنفاسها، لكنها سرعان ما انتفضت من مكانها و حدَّجَت صاحب الخيال الضخم بنظراتها المشوشة ليتضح أنه رجل بقوام مهيب ضاها به قوام والدها (سلاف) ضعفين.
ابتسم الرجل لها بابتسامة رضى -كتلك التي يرمقك بها والدك حينما يجد أنك لم تضع أمله فيك - حين رأى كيف استطاعت الفتاة طمس ألمها و دموعها بسرعة حين علمت أن هنالك من يراقبها، لكن (روسلين) قابلت ابتسامته إزدراءً و تأملت قوامه بتمعن ناقلة عينيها من أخمص قدميه لقمة رأسه ،لتقول أخيرا باستخفاف و كأن فكرها لم يراودها عن فكرة أن أصبعيه كانا كفِيلين بعصر عنقها بينهما:
-ألن تعتذر عما اقترفته؟
خرج من فم الرجل قهقهات عالية ،اسغرقته وهلة ليقطع البوصات بينهما حد ملامستهما :
-ما الذي تقصدينه يا هذه بما "اقتَرَفتَه"؟!
دون تردد أجابته :
-لقد أصيبت ركبتي بسبب اصطدامنا و من الأدب الاعتذار لأنني المتضرر هنا!!..،أما أنت فجلد سترتك الطويل قد تغَبّر ببعض الغبار الطفيف فقط.
تغيرت ملامح الرجل الضاحكة فجأة و صارت صارمة ، ليقول و هو يتراجع للخلف:
-حقا؟!
-لا أظن أنني أمزح!!
-أعلمك إذن أن تكوني وقِحة!
-أعد ما قلته؟!
ران عليهما الصمت للحظة كانت فيها هي مشغولة بمسح الدماء التي انسابت من جرحها، أما الرجل فبدا و كأنه مصدوم من جرأة حديث الفتاة معه ،فهو لم يعهد تجاوبا بهذه الحدة من قِبل أحدهم نظرا لمكانته و جبروته الضخم المهيب:
-أتدرين..! لم أعلم أن ابنة ليلاس تمتلك هته الشجاعة.
ردت غير معيرة اهتماما لحضوره لكونها مشغولة بما هو أهم -تطهير جرحها بمنديل معقم امتلكته- :
-ليلاس من هذه ؟
(الرجل): ألست ابنتها ؟
(روسلين): لا...لا أملك أما ،الوصي الوحيد الذي رباني هو والدي...
(الرجل): حقا!! من المأسف سماع هذا!!
ردت مشدوهة لتعليقه على كلامها:
-ما المأسف بالأمر بنظرك؟
نطق(الرجل) بنبرة مشبعة بالمكر و التحذلق :
-لأكون صادقا لا أملك إجابة مناسبة لسؤالك هذا...أأعتبر "المأسف" بكلامي الغشاوة المنسدلة على عينيك كإجابة...أم أعتبر كلمة "المأسف" تأسفا على المقطع الذي ذكرت به"الوصي" كإجابة؟!
صمتت الفتاة هنيهة من التوتر الذي أصابها:
-ما الذي..؟
قاطعها (الرجل) بابتسامة كبيرة كادت تلامس أذنيه:
-وسم جميل بالمناسبة!!
أصيبت (روسلين) بالصدمة حين تذكرت أنها نسيت من جديد وشاح معصمها رغم تحذيرات والدها المتكررة حول الوقوع بذاك الغلط ،انتصبت شعيرات بدنها بسبب مزيج الهلع و الخوف الذي سرا بعروقها ،لأن رأيت ابتسامته الغريبة تعتلي محياه جعلها تدرك الجواب الذي راودها كل مرة سمعت بها توصيات و تحذيرات والدها، هو أن هنالك سرا وراء هذا الشيء المريب ينتظره لو بالأحرى يتعقبه مترصدون كهذا الذي أمامها الآن.
أمسكت (روسلين) بسرعة على معصمها و راوته عن أنظاره خلفها مبتسمة ابتسامة غبية للرجل :
-هذا...(محاولة أن تضحك لتلطيف حدة الجو لكن محاولتها فشلت لتصدر همهمات أقرب لتكون نواحا متبوعا ببكاء حاد) هذا لا شيء...أظنه وحمة أو تشوها بتلك المنطقة منذ الولادة...
ذابت المشاعر بوجه (الرجل):
-هو أجمل من أن يدعى بتشوه خلقي يا ابنة ليلاس...
(روسلين) متغابية:
-لا زلت لا أفهم لما أنت مصر على هذا اللقب.
متناسيا كلامها بملامح لم يُشبها تعبير بسيط :
-أتمزحين
-لا أظن
مد الرجل كفه للفتاة بغية مصافحتها:
-لما لا نبرم عقدا بيننا؟
-ماذا..!!،ما الهدف من عقد بيننا أصلا ؟
تمكن الصمت من أن يكون سيد اللحظة وقتها، فقد كانت (روسلين) سارحة بالبريق الأقرب لشرارة نار حمراء باردة منبعشة من كف الرجل الراجية لمصافحة منها،أما هو فعيناه تقلبتا بمحاجرهما بغية رؤية الوسم مجددا لكن من دون جدوى... 
ضاق صبر الرجل بسبب يده الممدودة بالهواء دون استجابة، فوجد نفسه بموقف ساذجٍ لن يساعده على اكتساب حصة من ثقتها به ،ليعيد رباطة جأشه بفرقعة أصابع كفه ليخمد الوهج المنبعث منها قائلا بحس دعابة:
-أظن أن الوقت لم يحن بعد.
-لما كفك كان متوهجا...أأنت ساحر؟!
-لا...أنا أفضل من ذلك بكثير.
-إذا من أنت؟
-لازال الوقت مبكرا على معرفة من أكون يا ابنة ليلاس.
-ألازلت مصرا على تلقيبي بهذا الاسم؟!
-أمناداتك ب"روسلين" أفضل من ذلك؟
خرست الكلمات بجوف الفتاة و تحشرج الريق بحلقها لصدمتها من كيفية معرفته بمعلومة دقيقة كتلك ،لتنطقت أخيرا:
-أأنت منجم ؟
-أخبرتك أنني لست ساحرا يا ابنة ليلاس.
-و من أين لك بمعرفة اسمي؟
-أظن أنه ما يشابه قول أنني أعرفك معرفة قديمة جدا.
لكن الرجل لم يسمح ل(روسلين) فرصة للتعليق على كلامه فقال:
-ألا تريدين الوصول لمسعاك بسرعة؟...لا أظن أن (سلاف) سيكون سعيدا إن عاد للبيت و وجد (عيان) وحيدا من دون "ابنته" الغالية؟!
تذكرت حينها (روسلين) لما هي أصلا خارج البيت بوقت مزعج كهذا، ليدب الرعب بقلبها لمعرفتها أنها أضاعة وقتا ثمينا بمحادثة ساذجة.
ليقول الرجل مخاطبا إياها:
-يمكنني أخذك إلى مبتغاك برمشة عين يا صغيرتي.
بقليل من الارتياب:
-و هل تعلم أين أنا ذاهبة حتى؟.
-لحقل زهور اللَّيلَكِ، أليس كذلك يا ابنة ليلاس؟.
صمتت (روسلين) لوهلة ، لكن صبرها داق لتلاعب الرجل بالكلمات.و لأن فكرة أن (سلاف) سيقتلها إن علم أنها خرجت لوحدها و من دون علمه كانت تطن برأسها، نطقت دون تردد :
-حسنا أيمكنك أخذي للحقل بسرعة؟
-بالطبع!!
و من دون سابق إنظار أمسك الرجل بمعصم (روسلين) ليَتوَارَوْ عن الأنظار...

   
    
     

الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن