بَيْنَ السُّطُورْ

18 4 0
                                    

وسط زخات المطر التي أحاطت القصر الملكي...
و هدير الرياح العاصفة المتناغمة مع ضجيج نيران المدفئة...
المدفئة التي بالمكتبة...
امتدت رفوف هذا الأخير من أخمص الأرض للسقف..محملة بكتب متنوعة رتبت بعناية و أناقة جذابة...ليكتسي وسط المكان بسجادة بيضاء ناعمة تمركز بنهايتها مكتب ضخم جلس بمقعده المزخرف رجل بأواخر عقده الثلاثين...
مرر بأنامله صفحات الكتاب بتركيز محتسيا كأس القهوة بجانبه بعد أن أضاف للونها القاتم قطع سكر بيضاء، حركها بخفة بملعقة صغيرة جانبية بانتشاء لرائحتها و رائحة المطر الذي انبعث من نافذته...
لكن انتشائته قطعت حين تلاحا لسمعه بوضوح طرقات خفيفة متتابعة على سطح الباب، و بالرغم من تكررها إلا أنه تجاهلها ليستذكر من خلف الباب أنه لا يحق له تعكير صفوته حين يكون بالمكتبة يقرأ، لكن الرجل ضجر بسبب الصوت المتكرر، ليقول بنبرة باردة شبه عصبية:
-أدخل!!
ظهر من خلف درفة الباب التي فُتحت بتوتر رجل نَحت الزمن على تفاصيله و أساريره تجاعيد تذكره بماضيه،و ما ميزه شعره الذي اشتعل شيبا ليعلم مستضيفه أنه المستشار الأيمن ليعلق:
-تعلم يا (كنان) أنني حذرتكم من مقاطعت صفوتي بالمكتبة..!
انحنى (كنان) احتراما ثم أضاف متوترا:
-أستسمحك عذرا يا سيدي (أرغد)...لكن الأمر طارئ.
-إن كان أمرا لا يستحق مقاطعتي لسماعه...فلن أضمن أن أوصال حلقك ستبقى مكانها يا عجوز.
-أنا مرسل من القائد العسكري (قُصَيل) يا سيدي...و هو يحتاج استشارتك بأمر مهم!
اتكئ (أرغد) بخده على قبضة ذراعه فوق مكتبه بضجر محملقا ب(كنان) ببرود قاس، ثم أشار بيده الأخرى للمستشار و كأنه بذلك يسمح له بإتمام كلامه..
-أرسلني لأخبرك أنه هو و كتيبته من الجنود لم يعودو قادرين على احتواء المشاغبين و المتمردين ب"رنتال"...و يطلب منك استشارة...
قاطعه:
-أعلم أن هنالك مجموعة من المتمردين على السلطة ب"رنتال" من التقارير المبعوثة من المسؤولين القياديين هناك و هذا أمر بديهي...لم هو بحد ذاته الوحيد الذي يطلب استشارة؟
-لأن مجموعة المواطنين الرنتاليين هؤلاء أصبحوا متطرفين أكثر حدة من ذي قبل...و قد طالت أقدامهم لفكرة أن يتظاهرو جميعا ضد سلطتك أمام القصر الملكي ب"رنتال"...
-و ما الذي يحتاجه (قُصَيل) كاستشارة بأمر لا يستحق التفكير أصلا؟!
-إنه الكم الهائل من الناس يا سيدي...لقد ازداد عددهم أضعاف من كان (قُصَيل) و كتيبته يستطيعون إيقافهم عند حدهم، و كَسْرِ أملهم منذ بدايتهم...
حدَّجَ (أرغد) المستشار بامتعاظ ثم علّق:
-و ما السبب بنظرك يا (كنان)؟!
-ما الذي تقصده يا سيدي؟
-بل تعلم كامل العلم بما أقصده!!...لما فجأة و من دون سابق إنذار أصبحت مجموعة كبيرة من دساس الظلام تطالب بحقها الآن...
انتفض الرجل من كرسيه قاطعا البوصات المتبقية بينهما بخطوات أرعبت أوصال (كنان) و جعلته متوترا، ليتم (أرغد) كلامه:
-لقد مر على حرب "ينار" ثلاثة عشر سنة...
-أظنهم يا سيدي استغلوا السنوات الماضية لتجميع عتادهم و جيشهم من أجل المظاهرة؟
رمقه (أرغد) بسخط مُمرِرا أنامله بين خصلات شعره الأسود ليهدأ من روعه وهو يقول:
-أتناقض نفسك؟!..عن أي عتاد و جيش تهلوس؟.تتحدث و كأنك شخص جاهل!!..لقد قلت أنها مظاهرة...أي أنهم سيقفون كالحشد أمام القصر يهتفون بعبارات أتلف الزمان معانيها ليشكلوا ضغطا لا يمكن احتوائه علينا فقط!!
-أعتذر يا سيدي...
رفع (أرغد) كفه بوجه (كنان) ليصمته، فقال بامتعاظ:
-أتخفي عني شيئا آخر؟
بتوتر أجابه:
-حاشا أن أخفي عنك شيئا.
-أقرأ بين السطور يا (كنان) ما الذي حرك عنفوان هذا الشعب فجأة بهذه المرحلة بالضبط...و لا تخبرني أنهم استغلوا سنين الاحتلال فأنا عالم بغباء مواطنيهم...
-أعتقد أنه بسبب...
قاطعه بحنق سائلا:
-و عن أي قصر ملكي تتحدث؟!..
-القصر الملكي ب"رنتال".
عبس (أرغد) قائلا:
-أتمازحني يا (كنان)؟!..لما قد تقام مظاهرة أمام قصر خاو؟
-هذا ما أردت إخبارك به بعد إتمام إعلامك بما يحدث مع كتيبة (قُصَيل) يا سيدي...لقد شاهد الجميع البارحة القائد (فيصل) يتجول ب"رنتال" مع حفنة من الجنود...
صرخ الرجل بنبرة شبه عالية قائلا:
-ما الذي؟!..
تزامن مع صراخه، ضمه لكفه بغضب مكبوت لتنكسر إحدى المزهريات مخرسة أنفاس (كنان) من الخوف...
ضم (أرغد) وجهه بين كفيه بأنفاس متقطعة ثم مرر يديه بين خصلات شعره ببطئ قائلا بمحاولة فاشلة لكظم عصبيته:
-ماذا عن (أريم)؟...ألحقت بابنها أم لا؟
-ستلحق اليوم به.
أغمض (أرغد) عينيه بحنقٍ قائلا:
-(كنان) أعطني مجاز الأمر بسرعة...
-البارحة تدخل (فيصل) بأحد المشاحنات التي ابتدأها (تميم) و لأن هذا الأخير استعمل سلاحا غير مرخص من سيادتك، أمر بإعدامه...
-من (تميم) هذا؟..و من أين له بذاك السلاح؟
-لقد كان جنديا منذ عنفوان شبابه بالجيش الأتالي و نظرا لما قدمه، لقد تم رفع منصبه بالسلم العسكري بأواخر الشهر المنصرف بأمر من (قُصَيل)، و هذا ما يفسر امتلاكه نسخة من السلاح.
-إذا أهذا ما حرك عنفوان ذاك الشعب...رؤيتهم لابني جعلهم يعتقدون أنني بالقصر الملكي.
-نعم...هذا أحد الأسباب.
-أحد الأسباب؟؟!
-من حقا حرك بصيص الأمل بدواخلهم...هي الفتاة التي كانت بالمشاحنة التي تدخل بها ابنك...لقد عاكست جنديين بالآن الواحد بسيفها رغم أن بنيتها لم تضاهي أضعاف بنيتهما معا بوصة...إلا أنها جعلت (تميم) يرتعش من الرعب لدرجة أنه استعمل سلاحا غير مرخص به ضاربا القوانين القيادية عرض الحائط كوسيلة أخيرة لينفك منها...و هذا طعن بموازين القوة العسكرية ظنا من الشعب أن جنودنا جميعهم ضعفاء يتبجحون بقوة ملكهم لا أقل ولا أكثر...
ثم أضاف مستنكرا:
-كانت الفتاة لتُقتل تحت رصاص (تميم) و تراود قصتها دمائها التي روت عطش الأرض بدلا من مراودت كل فاه لما فعلته...لولا أن (فيصل) تصدى للرصاصة بسيفه
صمت (أرغد) لوهلة ثم نطق أخيرا باستخفاف:
-أخبر (قُصَيل) بأن يسمح لجموع المتظاهرين هؤلاء بالوقوف أمام القصر الملكي ب"رنتال" دون إيقافهم...سأكسر شوكة أملهم بيدي العاريتين..!!
انحنى (كنان) احتراما قائلا:
-أمرك يا سيدي..!
-أخبر أولا (أريم) أنني سأغادر معها...ثم وظّب وسيلة سفري أنا وهي قبل الظهر..
-أمرك!!
ثم أشار (أرغد) بكفه كإشارة منه ليسمح له بالمغادرة...
ما إن غادر (كنان) الغرفة، سرح الرجل بكيانه المنعكس من المرآة قربه متحسسا الندبة المرتسمة بملامحه بشرود...
مرت الثواني و هو على الحال نفسه شارد، و لم يشعر ب(أريم) تدخل عليه إلا حين صرخت فيه بتعجرف:
-(أرغد) ألن تفتأ تلحق بي؟
التفت نحوها متعجبا من نبرتها المنفعلة، فحاول تخفيف حدة الجو بضمها له قائلا بحنية طيبة:
-عزيزتي...!!
لكنها باغتته بصفعة أخرسته و تركت يديه معلقة بالهواء قائلة:
-لقد أخبرني رئيس الخدم أنك سترافقني أثناء سفري!!..ألم تقل أن قدماك لن تطئ تلك الأرض؟!
مرر (أرغد) يده على شعره ببطئ محافظا على حنية نبرته اللطيفة كاظما غيظه:
-و ما الخطب في مرافقة أريمي بسفرها؟..لن أتركك وحدك يا عزيزتي!!
-أسيلسقني وجهك أينما ارتحلت؟...أريد اشتمام عبير أجدادي و أصولي هناك من دون أن يعكر صفو راحتي...أفهمت؟
-عزيزتي و ماذا عن صفو راحتي أنا...
مررت (أريم) سطح يدها على خده بعطف، لكنها قالت ساخرة:
-عن أي صفوة تتحدث إن تركت "أتالا" يا (أرغد)...
قاطعها قائلا:
-أتحدث عن الصفوة التي كسرها طيش ابنك بما قام به...
-طيش ابني؟
-نعم...لقد أشعل بحمايته لفتاة فتيل النار الخامد لثلاثة عشر عاما...
ثم أضاف بابتسامة ساخرة مصطنعة:
-و علي الذهاب بنفسي مع أريمي لإصلاح ما أقامه ابننا من فوضى!
-ليس ذنبي أنني ربيته على أن يكون نبيلا...لكن ما الذي يجعل انقاذه لفتاة يشعل كل هذه الفوضى...
-لقد عاكست جنديين و أحدهما ذو منصب عال بالسلم العسكري و بهذا كسرت موازين القوة التي عملت جاهدا على خلقها هناك لأن المسكينين ببنيتهما ارتعشا من فتاة صغيرة...و ما كانت لتكون رمزا لتبدأ الفوضى لو أن (فيصل) سمح لتلك الرصاصة بإخراس أنفاسها و إخراس الأمل بقلوب من أحاطوها...
-ألا تخاف من المترصدين الكارهين إن علموا أن قدمك وطئت أرضهم من جديد؟!
-أتمزحين؟!..أنا...
صمت لوهلة متفكرا ما قالته بابتسامة صغيرة ثم أردف كلامه و هو يحط كلتا يديه مطوقا بهما كتفيها:
-منذ متى؟!...لحظة!!..أصرت تخافين علي؟
ابتسمت هي الأخرى له بحنية لكنها سرعان ما قلبت تعبيرها عبوسا ضاربة ذراعه لتبعدها عن كتفها:
-أنا أتملص منك فقط يا غبي!!...بالإضافة إلى أن (فيصل) رافقاه صديقاه...أي أنه ليس طيشه وحده..!
شاهدها (أرغد) بعدما أتمت كلامها تغادر، ليعود هو نحو مكتبه و يضيع مجددا بين صفحات كتابه...

الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن