انقبض وجهها من الألم، و عضت شفتها بقوة لكتم صوت الأنين الذي كانت على وشك إصداره، فالصداع و الدوار الذي أصابها لم يُسَخِّر لها بوصة طاقة لتنتفض من مكانها.
حين عاينت الفتاة محيطها بأعين زائغة، حركت يدها بخفة نحو ظهرها، لتستقر راحتها فوق مقبض صلب تعلم تفاصيل شكله أكمل العلم.
أخرجت (روسلين) سيفها ببطئ من غمده، و بعد إخراجه نظرت إلى نصله الذي عكس صورة فتاة شاحبة اللون بأعين حمراء منتفخة و كأنها بكت دمعا لساعات.
أشاحت الفتاة ناظرها عن النصل، و صوبت شفرته باتزان مختل لشمالها و كأنها تهدد أحدهم.
《أستقتلينني إذا؟..》
صكّت (روسلين) على أسنانها في اللحظة التي كادت تخرج فيها شهقة حين زحفت بجسدها للخلف مبتعدة عن الكيان بقربها:
-لما أشعر و كأني خرجت من حرب دامية، كنت فيها لوحدي ضدد جيش كامل...
-يمكنك وصف الأمر بهذه الطريقة.
نظَرت في عينيه و لم تستطع مقاومة ثقل جفونها من الصدمة حين علمت من يخاطبها بتلك النبرة الدافئة الشجية.
لم يسمح لها برهة للتعليق، و تقدم نحوها بخطوات خفيفة متناغمة، حاولت هي أثنائها إخراج صوتها و إخباره بأن يبتعد عنها و أن لا يقربها بوصة، لكن صوتها خانها و تحدث نصلها بدلا منها حين رفعته لصدره بجزع.
لكنه بادل ردة فعلها استخفافا، و حط بطرف أصبحة على شفرة النصل، و أنزل جسد السيف ببطئ، و هي بدورها لم تحرك ساكنا و كأن شيئا خفيا شنج أضلعها.
ما إن أتم فعله، مد راحته نحوها بوجه خال من أي تعبير...
أمسكت الفتاة بدورها كفه، ليساعدها على الوقوف، لكنه وقبل محاولته لإصدار أي حكم، كُسر شتات أفكاره حين شاركهم المساحة شخص آخر.
وقف بشموخ علوه كالصنم بينهم، و لم تمر لحظات إلا وقد أمسك بمعصم (روسلين) و وجَّه خِطابه نحو من كان معهم أيضا:
-سيادتك، قائدنا المجيد (فيصل) أستسمحك عذرا عن تعبك و وقتك الثمين الذي أضعته معها.
ثم انحنى احتراما وسط نظرات (فيصل) المستغربة، و فاه (روسلين) المنصرع أمامه من الصدمة...
أمسك الرجل بمعصم الفتاة و شدها نحوه، مصوبا قدميه لمغادرة المكان، لكن حركته خرست، حين علق (فيصل) بنبرة صوت ودودة غير تلك الخشنة الصاخبة التي تبث بقلب مخاطبها الجزع و الرهبة من مالكها، و التي يخاطب بها في أغلب الوقت الجنود من الكتيبة التي تحيطه لكونهم الوحيدين القادرين على الحصول على تواصل مباشر معه نظرا لمنصبه المحترم بالسلم العسكري الأتالي، لكن ذلك الاختلاف لن ينكر حقيقة أن صوته لم يتغير، بل بالعكس...طفت على نبرته حنية طفيفة فقط:
-أغيرت تصفيفة شعرك يا (فراس)!!
لم يتلقى ردا بالكلام، بل ملامح بحدقات متسعة، ليعلق (فراس) أخيرا من بعد ما خرج من قوقعة صدمته و صمته لإنقاذ الموقف:
-أعتذر يا سيدي، ما الذي تقصده؟
-(فراس) لما أصبحت فجأة تتحدث بصيغة احترام؟!
شهق (فراس) و (روسلين) معا:
-ماذا..؟؟!!
شعرت الفتاة بتوتر (فراس) من شحونة اللحظة المحرجة و الغريبة، و لن تنكر أنها كانت متوترة أيضا، فما كانت تسمعه منذ نعومة أظافرها من همهمات من طرف سكان بلدها هي عن جزعهم و خوفهم من القائد الأعلى للسلم العسكري للاحتلال، أو الأسرة الملكية كافة باختصار...متذكرة أيضا جبروته و هيبته حين رأته لأول مرة و هو يصد الرصاصة بنصل سيفه، و الطريقة العدوانية الوحشية التي رفس بها ملامح جندي من جنوده بلا رحمة رغم أنه كان أيضا ذا منصب...
ما أصاب الاثنين من توتر لم يكن ناتجا عن ما تذكراه من أقاويل و همهمات، بل نتج عن فكرة أن تلك الأقاويل لم تطابق أبدا ما يسمعانه الآن...
ترنحت خطوات (روسلين) للخلف ثم همست بنبرة تسمح ل(فراس) وحده بسماعها:
-(لوسين) يا إلهي أنقذي الموقف!!
لم يرد (فراس) عليها، فنظرات (فيصل) قوضت حركت لسانه...
لكن صيرورة الأمر لم يدم طويلا، فلقد كُسِر الصمت حولهم بدبيب خطوات صاخبة امتزجت بصهيل خيول مزعج.
التفت الثلاثة نحو المصدر، لتبرز من ملامح البعد، إحدى الكتيبات التابعة للاحتلال و ما ميزها الفرس الأشهب الذي يقودها...
لم تعلم (روسلين) بالأول عن مغزى ما يكون هوية مجموعة الفرسان المتجهين نحوهم، إلا حين اعتلت الصلابة ذاتها وجه (فيصل) من جديد، و زاد توتر (لوسين) المتشكلة أمامها على هيئة ولد.
اغتنم (فراس) الفرصة حينها و شد على معصم (روسلين) و ركض بأقصى طاقته نحو العراء ليختفيا به، جارا معه إياها غير آبه لتذمرها، بعدما وجد في تشتت انتباه القائد فرصة للانتهاز و الابتعاد.
وقف الاثنان يتنفسان الصعداء بأنفاس متقطعة لاهثة، لكن (لوسين) كانت الأكثر تعبا، فقد سقطت على ركبها ما إن سمحت لها الفرصة، خارَّة بذلك بوصات الطاقة المشتعلة بداخلها، و معيدة شكلها الذكري لشكلها الطبيعي.
بعدها و بروح منكسرة خالية من الحيوية، اتكئت على جدع إحدى الأشجار القريبة منها، ثم نطقت الفتاة أخيرا و هي تحاول استجماع شهيق من الهواء بتعب:
-أعتذر، لم أكن أقصد!!
-تقصدين ماذا؟
-تركك لوحدك..!!
شهقت (روسلين) و كأنها تذكرت للتو شيئا نسته:
-يا إلهي أين كنت طوال هذا الوقت..!!
-أنت تعلمين كامل العلم بطبيعة الشخصية الرئيسية التي ألعب دورها يوميا دون كلل أو استراحة...
زادت حنية صوتها و كأنها على وشك البكاء و هي تضم قدميها لحضنها:
-لم يسمحوا لي بالمغادرة إلا بعد إتمام واجبي العسكري و الذي دام لمدة طويلة لم تكن لصالحي بسبب جموع الجمهور المتجمهر أمام منصة الإعدام... حاولت و حاولت بأقصى طاقتي إنهاء الأمر لكنني...حين أتممته و أخيرا لم أجد لك أثرا...غير همهمات خلفتها ورائك لا أقل ولا أكثر...آس...
قاطعتها (روسلين) حين قامت باحتضناها:
-لا عليك يا صغيرتي...كنت قلقة عليك فقط.
-حقا..!؟
-و لما عساي أكذب؟!
أجهشت (لوسين) دمعا، و ما كان بيد (روسلين) سوى طمئنتها و الطبطبت على ظهرها كي تهدئ، هامسة في آذنها بعبارات لطيفة...
خفف ما فعلته الفتاة من شحونة الجو الكئيب، لتنطق (لوسين) أخيرا:
-يا إلهي...!!
صوبت (لوسين) ناظريها نحو يديها الراعشتين:
-كنت...كنت خائفة حقا!!!..
صمتت..
-ظننت لوهلة أنني كنت سأخسر صديقة...
ضربت (روسلين) على كتفها بلكمة وهمية لتَبتُر صرير كلامها:
-ليس أمرا قد يكسر علاقة ما!!...
صرخت الفتاة بتلك الكلمات متناسية بذلك ما آرقها من أفكار و همسات سلبية سمعتها قبل لحظات...
-لما أنت متخوفة لهذه الدرجة من خسارة صداقة...
ثم أضافت ممازحة:
-لا تكوني سخيفة!!
ما إن تلاحت تلك الكلمات المتقطعة مسامع (لوسين)، انفجرت كالرضيع مجددا بين دموعها، لكنها هذه المرة كانت بحرقة قاسية...
و بينما كانت أوصال (روسلين) تترنح من غرابة الموقف، و عجزها المشَنَّج...
خرج من حشائش الغابة ظل شامخ صرخ بصلابته:
《لن أنكر أنني لا أعلم كيف أتحكم بأعصابي...!!》
أنت تقرأ
الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْ
Fantasyفي حِقْبَة مِن الزَّمَان...قرر القدر بمحضِ الصدفة قلب الموازين بطريقة غامضة، واستخدمت ذرِيعة خفية مَحاها الزمن لتغيير مجرى التاريخ. عندما أَبَاد الطَاغية أرغد الأسرة الملكية بأكملِها، الأسرَة الوحيدة القَادرَة بدِمائها على تسيير الأرض، بدا أن الأمَل...