مَا مَعْنَى المَوْتْ؟

16 4 1
                                    

《لما دفنتها تحت التراب؟》
نطقت فتاة بالخامسة من عمرها و هي تشد على ملابس أخيها بيد و باليد الأخرى أمسكت هرا صغيرا..
أجابها ماسحا كفه بملابسه المتسخة المهترئة بسبب قدمها:
《لأنها ماتت يا (إمِلين)》
ردت (إمِلين) و قد احمرت جفونها كعادتها إن بكت:
-ما الذي تعنيه بكلمة ماتت؟
-أقصد أنها نائمة...
علقت الفتاة مشيرة للهر الذي تحمله:
-و متى ستستيقظ؟...تعرف أن (نايا) لا يحبذ فكرة اللعب وحده من دون (لونا)...
-لن تستيقظ (لونا) مجددا يا (إمِلين)...
-لكن الجميع يستيقظ بعد قيلولة..
-أظن أن قيلولتها أطول من أن تستيقظ مجددا
-سيكون (نايا) تعيسا لسماعه هذا..!
-لا...سيكون سعيدا لأن أخته و أخيرا سترتاح.
-ترتاح من ماذا؟
-لقد كانت مريضة يا (إمِلين).
-أهذا ما يعنيه الموت إذا؟..الراحة؟
-نعم!!
-لما حين أسمع أن أحدهم قد مات، أجد محيطيهم يبكون عليه؟
-هذا لأنهم يشعرون بالغيرة!
-حقا؟
-نعم...الموت يتحدث عن أساه الأحياء فقط...أرأيت شخصا ميتا من قبل يتحدث عن تجربته تلك؟
-لا...
-هذا لأنه يا (إمِلين)...لا يريد الأموات جعلنا نتقاسم معهم مكانهم المريح...
شهقت (إمِلين) بعبوس قائلة:
-يا إلهي...يا لهم من مجموعة مغرورين!!
-لا يا (إمِلين)!! يجب أن نذكر موتانا بالخير...كلامك هذا يشمل (لونا) أيضا!!
ضربت الفتاة الصغيرة على فمها بلطف لتقول معتذرة:
-آسفة، لن أعيدها مرة أخرى...!
ركع الفتى على ركبه ليمسح بكم قميصه دموع أخته المتمردة على خدها:
-لا عليكِ يا (إيمِي)..
ثم أضاف بنبرة لطيفة ممسكا بكفها الصغيرة:
-أنعود للمنزل الآن؟ أظن أن أمي سيخالها القلق لو شعرت بغيابنا!
عادت أسارير السعادة لملامح (إمِلين) لتقفز سعيدة دون أن تلمح أن القط قد سقط:
-هيا بنا!!
سار الاثنان بخطوات صغيرة لطريق العودة ،لكنها حين لاحظت غياب (نايا) أخيرا...
نكزت ذراع أخيها بذعر:
-نسينا القط يا أخي!!
التفت الصغيران معا ليجدا أن الهر قد نام فوق التراب التي دفنت بها أخته بجسد مرتعش ،و حين أرادت الفتاة الذهاب نحوه لجلبه معها أوقفها أخوها مانعا إياها:
-لا إتركيه...
-لكن..؟
-أمي تنتظرنا يا (إمِلين)...
لوّحت الصغيرة للهر ثم أتمت مسيرها مع أخيها...
...
قطع الاثنان المسافة المتبقية أمامهم...
و حين وصلا مشارف بيتهما لمحا أمهما جالسة على كرسي بالخارج و قد اعتلا وجهها المتضرر بكدمات زرقاء الحزن لكنها كسرته بابتسامة...حين هرولت (إمِلين) بأقصى طاقتها و ارتمت بحضنها قائلة بحماس غريب:
-أمي أريد أن أموت!!
علقت الأم منصدمة بما سمعته:
-لما قد يريد أحدهم أن يموت؟
قفزت (إمِلين) من حضنها لتجر أخوها من معصمه لأمها:
-أخبرها بالحقيقة يا (أرين)...أخبرها هيا...
ابتسم (أرين) بوجه أمه لتفهم هي مغزا ابتسامته ،فضحكت و هي تدس دراهم بكف ابنتها:
-لما لا تذهبين لتشتري الحلوى من البائع هناك؟
-حقا؟!
-نعم يا حبيبتي!!
انفجرت أسارير (إمِلين) بضحكة طفولية لتقول مخاطبة (أرين):
-أتريد بعض الحلوى أنت أيضا؟
-لا يا (إيمي) ،استغلي المال كله لصالحك...
عانقت (إمِلين) أمها و أخاها بسعادة، ثم غادرت راكضة لتشتري الحلوى...
عم الصمت بينهما مدة...
كسرتها الأم حين قالت بحزن:
-ما الذي أخبرتها؟...كنت أنتظر عودتها بأعين منتفخة من البكاء...لقد كانت تلك الهرة بمثابة...
قاطعها (أرين) بملامح باردة:
-أخبرتها يا أمي ما يجدر لفتاة بعمر الرابعة سماعه!
-أعتذر يا بني لجعلك تتحمل أمورا أكبر من أن يتحملها طفل منذ السادسة من عمره...
-عمري يا أمي خمسة عشر سنة...
-عنيت بكلامي أنك منذ الخامسة و أنت تعيش عمرا ليس بعمرك.
-...؟
-صرت تتحدث كشخص بالثلاثين من عمره...
تجاهل (أرين) كلامها و سألها بغضب مكبوت:
-أهو سبب الكدمات بوجهك؟
-بني...!
قاطعها بصرامة:
-أهو سبب الكدمات بوجهك؟
-بني...إنها قديمة!!
بنبرة عالية:
-تلك، لم تكن البارحة يا أمي.
تسربت الدموع على خد أمه حين قالت:
-آسفة يا بني...لكنه ليس خطئه أيضا لقد كان ثملا فقط؟
-ليس خطئه؟ أتمزحين؟!
ما إن أتم كلامه سار نحو درفة الباب ليفتحها لكنها قاطعته حين قالت:
-بني...أرجوك لا تفتعل شجارا آخر معه...يبقا والدك بعد كل شيء!
رمقها (أرين) للحظات ثم قال أخيرا:
-سأحضر لك بعض الثلج فقط
-انتظر!!...
-ماذا؟
-لكنه بالداخل!!
-لا يهم
لم يسمح الفتى لأمه برهة للتعليق فقد دخل للبيت...
أنار (أرين) المصابيح بالمقبس...
ليلمح والده جالسا بأحد الكراسي و زجاجات النبيذ تحيط به من كل مكان...
الزجاج منكسر بكل مكان...
قطرات الدم المتناثرة لطخت الأنحاء...
و شخيره عكر صفوة الجو...
تحسست عينا الرجل الضوء ليستيقظ بدَجر صارخا بتذمرِ:
-من أنار الضوء اللعين!
لم يتلقى ردا ففرك عينيه بقوة ليستيقظ جيدا ، و حين لمح خيال (أرين) مارا من قربه ،صاح بصوت أعلى:
-(أرين) أتريد مني إعادة تربيتك من البداية يا أيها الوغد الأرعن؟
لم يتلق تفاعلا مرة أخرى من الفتى فضاق صبره ، ثم نهض من كرسيه كالهمجي و حمل ثلاث زجاجات خمر و رماها عشوائيا بالهواء قصد إصابة (أرين)...
لكن محاولاته الثلاث قد أخفقت لأن خيال ابنه تلاشا بالمطبخ، ليقول مكيلا له العديد من الشتائم:
-لما لا ترد يا غبي!..ستنال (أسيل) ألذ ألوان العقاب بسبب تربيتها الفاشلة.
حينها خرج (أرين) من المطبخ حاملا قماشا احتوى قطعا صغيرة من المكعبات الباردة ،قائلا بوجه لم يشبه تعبير بسيط:
-لن تحط أناملك القذرة عليها مجددا!
ضحك الأب بصوت عال ثم أردف مقلبا إحدى الزجاجات  بين يديه:
-أعد ما قلته؟
-لن تحط أناملك القذرة مجددا عليها!...أأعيد قولها مرة أخرى؟..أعتقد أن سمعك قد تضرر بسبب جرعات الخمر و السجارة...
قاطعه والده حين صرخ فيه و هو يرمي بتلك الزجاجة نحو رأسه:
-فل تذهب للجحيم يا أيها الوغد الأرعن!!
خرست كلمات (أرين) و ترنح خطوات للخلف بوعي شارد و ذهن مشوش من قوة الضربة التي أصابت جانب رأسه...
رمق الولد فم والده الذي تحرك بكلمات لم يسمعها بأعين مضطربة...
حمل بأقصى طاقته يده الخدرة المرتعشة و غطى بها أذنه اليسرى المتضررة...
حينها اتسعت عيناه لما رأى والدته تدخل باب البيت خائفة...
أغلق عينيه من التعب...
ثم فتحهما ليجد أمه ملقاة بالأرض...
والده غير موجود...
و أخته تبكي و حلواها قد سقطت جميعها أرضا...
لم تكن الأصوات تتلاحا لسمعه بوضوح ،لكن الضجيج برأسه أخبره أن الفوضى عمت المكان...
ترنح بخطوات خفيفة للأمام...
ثم انحنى ممسكا بحلوى أخته رغم أنها لُطِّخت بالدماء التي نبعت من أذنه قليلا...
ليقول محاولا تصنع ابتسامة فاشلة ليطمئن أخته:
《لما تبكين يا (إيمي)؟! ألم تعجبك الحلوى؟》
...    
           

الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن