سار بخطوات مترنحة متكسرة برعشات متقطعة سرت بأوصاله، ممسكا بما تبقى له من قوة أذنه التي لطخت بدمها ياقة عنقه المهترئة...وسط صخب المطر المنهمر عليه بالشارع...
وصل أخيرا لمبتغاه ببوصات الطاقة المتبقية، ثم طرق الباب منتظرا رد صاحبه، و ما إن فتح له الباب سقط مغما عليه كالثمل بين ذراعي الشخص، لينطق صاحب المنزل بحنية ماسحا على خده المحمر الساخن قائلا:
-ما الذي أوصلك لهذه الحالة يا ابني (أرين)...؟!
همهم الفتى بأنين خافةٍ غير مفهوم، ليدخله الرجل لبهو بيته، ثم وضعه فوق أريكته بحزن مقلبا جسده بعينيه:
-من أصابك يا ابني؟!
-وال..وا...
-لا تخبرني أنه من فعل (رغام) مجددا!!
هزَّ الفتى رأسه إيجابا، حينها علق الرجل غاضبا:
-أقسم أن ذلك الثمل قد تعدا حدوده!!
ثم غادر البهو ليعود مجددا بعلبة من الأدوية و الضماضات:
-لا تخف يا (أرين) فأنت بين أيدي حكيم القرية...أيد أمينة..
ليهم الحكيم بعد إتمام تعليقه بمسح الدماء اليابسة المتجلطة على جلده، لكن (أرين) قاطعه محاولا التكلم:
-ل..لا...يا...سي..سيدي...أنا لست...هنا لكي...تع..تعالجني...جئت...لتصف لي...دو...دواء لوالدتي...لقد أغمي عليها...و..ه..،هي متضر...متضررة!!
وقف الرجل مصدوما من ردة فعل الولد لكنه أتم تطهير جراحه منفعلا:
-سنعالج أمك أيضا...لكن تأجيل معالجتك لثوان أخرى لن يكون أمرا بصالحك، إن لم تطهر هذه الجراح، تعقم و تعالج فقد يأدي ذلك لأضرار غير حميدة، و الأسوء الموت..
ضرب (أرين) يد الحكيم، ثم نطق متأوها الألم بذراعه:
-أمي!!
-بني..،الأمر ليس مزحة!!
انهمرت دموع الفتى بحرقة محاولا النهوض:
-أمي!!...قد تم..تموت...أمي...مص..مصابة يا عم.
-الوقت ليس بصالحنا...قد تموت أنت إن تأخرنا لثوان أخرى..،ألا تشعر بالنار المشتعلة برأسك؟!
-سأقتل...سأقتل نفسي إن ماتت هي إذا!!
توقف الحكيم لبرهة يراقبه، ثم صرخ أخيرا مخاطبا أحدهم:
-(عفراء) تعالي يا عزيزتي و حاولي تطهير جراحه إن استطعتي..
ثم أضاف حاملا متاعه بحقيبة سوداء كبيرة قاصدا الباب، في حين دخلت (عفراء) متوترة بحزن حين لمحت حال (أرين):
-أنا علي الذهاب لمعاينة (أسيل) بسرعة!!
-رافقتك السلامة...
خرج الحكيم مهرولا وسط صخب المطر المنهمر عليه متناسيا أمر المظلة، و في كل مرة كانت صورة (أرين) تطن برأسه، عبس من الحزن، كان يعلم كامل العلم بحالته و بالمحيط الذي ترعرع به، ليس هو وحده بل أهالي القرية جميعهم، فالأخبار كانت تتناقل بخفة سريعة بين الأذان و الأفواه المتلهفة لسماع و قول ما لا يعنيها أبدا، لكن لم يجرئ أحد على تحد والده السليط و إيقافه عند حده لإلمامهم الشامل أن (رغام) كان جنديا أتاليا رفيع المنصب إلا أن الأقدار شائت و جعلته يطرد من الخدمة ليصبح عاشقا لرائحة الخمر و الثمالة و اشتام مساحيق تغيب عقله بنهم، رغم أن تلك الأفعال القذرة هي السبب وراء طرده أصلا...
وقف الحكيم أخيرا مكسوفا أمام الباب المنصرع على مصرعه متغافلا عن فكرة أنه خائف من حقيقة وجود (رغام) بالداخل..
لكن كسوفه و توتره قطع حين أمسكت يد صغيرة طرف أصبع و هزته بصعوبة لبعده...
انحنى للأسفل بجزعٍ إطمئنَّ حين رأى أنَّ فتاة صغيرة كانت وراء الفعلة، ليتناها لذهنه أن اسمها (إِميلين) حين ضاع شتات أفكاره بعينيها الحمراوتين البندقيتين و شعرها الأسود الكثيف المنسدل على كتفها متذكرا بذلك أنه رآها من قبل..
كسرت الفتاة شروده حين هزت طرف أصبعه مجددا:
-سيدي أرأيت أخي؟!
ثم أضافت و دموعها تنهمر من محجريها:
-أخبرني أن أظل ماكثة بقرب أمي إلى أن تستيقظ لكنها لا تفعل...أخاف أن (لونا) غوتها لتأخذها معها!!
اتسعت حدقتا الرجل باستغراب غير فاهم ما ترمي له الفتاة بكلامها، ليقول منقذا الموقف من الصمت الذي انطلا بينهما:
-لا تخافي إنه بأيد أمينة، أوالدك بالداخل يا صغيرة؟
-لا
-حسنا، سأدخل لألقي على أمك نظرة، أتسمحين لي؟
هزت الفتاة طرف إصبعه جارة إياه للداخل نحو أمها الملقاة أرضا، ما إن خطت قدما الحكيم بداخل المنزل عبست ملامحه و غطى أنفه من رائحة الشراب المنتشرة بالجو راجحا الأمر بسبب الزجاجات المكسورة حوله، و بعد لحظات هزت (إملين) مجددا طرف أصبعه مشيرة لجسد والدتها:
-ها هي ذي!!
جلس الحكيم على ركبه و قلّب حقيبته لثوان، ثم أخرج مصباحا صوبه بمحاجر (أسيل) التي سرعان ما انكمش بؤبؤها باللحظة التي فتح فيها جفونها بلطف بعدها، ثم حط بأناملها على رسغها و منطقة دقيقة بحنجرتها، لتعلق (إملين):
-ما الذي تفعله يا عم؟!
-أتحقق من النبض و استجابة العين للتأكد إن كانت لاتزال على قيد الحيا...
صمت الرجل مدركا ما كان على شفا قوله لفتاة بالرابعة عن أمها..
-ما الذي يعني ذلك إذا؟
-أن أمك يا صغيرتي تحتاج لقسط من الراحة فقط، هي بخير الحمد لله...
ثم أضاف مبتسما:
-أين تنام والدتك؟..عليها أن ترتاح بمكانها المريح
أمسكت (إملين) بطرف أصبعه معلقة بحماس طفولي لطيف:
-تعال تعال...
جرّت الصغيرة الحكيم نحو إحدا أبواب الغرف المتواجدة بالبيت، ثم أشارت إلى قماش خيش متآكل مُفرَشٍ على سطحية الأرض...
-لا يوجد شيء هنا يا ابنتي!!..أين فراش والدتك؟
-ما الذي تقصده؟
-الغرفة خالية إلا من لحاف الخيش ذلك و كسر الخبز المتعفنة هناك...!
أجابت (إملين) بعفوية طفولية لطيفة:
-ذلك سرير الأميرات السحري خاصتي يا عم، (أرين)أخبرني أن الكثير من الأميرات الصغيرات مثلي ينمن بشبيهه، و إن شاركته مع أمي و أخي فسيمكنني أخذهم هم أيضا معي لعالمي السحري...
صمت الحكيم سارحا بخيال الغرفة أمامه، لتضيف (إملين) هازة طرف أصبعه البعيد عنها:
-ما بك؟!..أتريد أن أشاركك خاصتي!!...ليس لدي مانع..
انحنى الرجل و قبل جبهة (إملين) بقليل من الحزن ثم قال بعد أن تلاحا لمرمى عينه خبايا الأثاث بالغرفة المجاورة:
-و لما لا نستعمل ذاك إنه أفضل...أقصد بأنه ليس سحريا كخاصتك...و لكن والدتك لا تحتاج للسحر بهذه الحالة...
التفت الصغيرة نحو مقصد الرجل فتحجرت الكلمات بحلقها، ليهز الرجل أناملها بلطف لأن صمتها طال فعلقت بتوتر:
-لا يا عم...
رفعت الفتاة كم قميصها لتظهر كدمة زرقاء داكنة:
-لا أريدك أن تحصل على واحدة من هذه...
-يا إلهي من فعل بكِ هذا؟
ضحكت الصغيرة ضحكة حنونة:
-كنت حزينة لأنها آلمتني، لكن أخي أخبرني أن جنية صغيرة ستقدم لي الحلوى إن لم أبكي بسببها...و بالصباح وجدت حقا واحدة بجانبي...لكني لا أقول بكلامي هذا أنني لا أريدك أن تحصل على حلوى أنت أيضا...لا أريدك أن تتألم فقط..
حاول الحكيم التعليق على كلامها لكنه قوطع حين دخل عليهم (أرين) بأنفاس متقطعة من التعب، بأذن مضمضة، ندبات متفرقة بأنحاء جسده الواهن، لكنه تصلب محاولا التغافل بقليل من قوته على ضعفه ليمنح أخته بعض الطمأنينة.
لم يتأخر (أرين) ثانية ليتسائل مكلما الحكيم و عيناه على أمه:
-كيف حالها يا عم؟
بقليل من التوتر:
-لا خشية عليها يا ابني، تنفسها مستقر و حرارة بدنها كذلك أيضا، أظنها بحالة إغماء فقط و لن يطول الأمر...لقد كنت على وشك أخذها لفراشها لترتاح..
وثب (أرين) بخطوات خفيفة نحو والدته و حملها برفق بين يديه، ثم أخذها للحاف الخيش ووضعها برفق بعد أن وسد لها غشاء مهترئا آخر كوسادة، تحت نظرات الحكيم المسعوقة و المصدومة.
أتم الفتى مهمته الصغيرة ثم التفت للحكيم ليشكره، لكنه استغرب من رأيت فاهه المفتوح و أعينه المتعجبة، فعلق قائلا:
-أوضعتها بوضعية قد تضر صحتها؟
-يا إلهي كيف قويت على حملها بتلك القوةة و أنت طفل صغير واهن من المرض؟!
صرخت (إملين) بعفوية:
-ليس طفلا صغيرا، بالإضافة إلى أنه يحمل أثقل من والدتي!!
لم يعلق (أرين) و راقب أنفاس الحكيم بصمت، ليقول الرجل متحسسا جبينه المحمر:
-لا زلت مصابا بالحمى، حرارتك غير مستقرة، عليك أن ترتاح أنت أيضا يا بني و سأصف لك دواء!!
-لا حاجة له يا عم، أشكرك على وقتك الثمين الذي أهدرته معنا...
-لا عليك يا ابني لكنك تحتاجه، لست أمزح!!
سرح (أرين) بجسد أمه الذي بدا أنه بحالة جيدة:
-الأهم هو أنها بخير.
قطع صرير كلامه حين دخلت (عفراء) عليهم منهمكة و هي تشير لوجه (أرين) بأيد مرتعشة:
-يا إلهي أكنت تهرول أو تطير، فقدت عيناي خياله بسرعة بالأفق!!
رد الرجل عليها متأففا:
-لما كل هذه الجلبة..
-لم يسمح لي أن أتم معاينتي له و حزّرني على أن يعود لبيته و أن ما فعلته كاف، و لحقت به طمئنة فقط...
قاطعها (أرين) حين انحنى معتذرا:
-أعتذر يا خالة حقا على إتعابك معي اليوم، و أطلب سماحك أنت أيضا يا عم...
ثم دس رزمة نقود بكف الحكيم:
-أتمنى أن تقبل مني هذا الثمن المتواضع كجزية لتضحياتك معنا أنت و زوجتك.
-لكن يا بني ما أعطيتني إياه لا أتقاضا مثله حتى بالحصص العلاجية المهمة...
-تعبكما لن يقوى على رد خيره أحد...
و بعد مناوشات، إقناعات و جدالات عالية خُتِمت جميعها بأخذ الزوجين لحصة النقود التي قدمت إليهما و مغادرتها...
جلست (إملين) بحضن أخيها بغية أن تغفوا بعد أن أغلقا الغرفة بالقفل لتحصل أمهم على قسط الراحة التي تستحقه دون تعكير صفوة تلك الراحة بثمالة والدهم...
همست الصغيرة بصوت مكسر بأنفاسها الناعسة:
-أتتذكر حين أخبرتني أن هنالك راحة بالموت؟
-نعم...
-أريد أن يموت والدي و لكنني لا أريده أن يرتاح بقبره!!
بصوت خفيض:
-من اللُّئم قول شيء كهذا عن والدك يا (إيمي)
-آسفة...
طبطب (أرين) على ظهر (إملين) كإشارة منه أنه سامحها على ما قالته...
و لم تمر لحظات إلا و قد غطت الصغيرة بنوم عميق...
ليجلس (أرين) سارحا بين ملامح أخته و أمه بحزن...
ليقول هامسا بنَفَسِ تكَسّر بأنفاسُه الحانِقة:
《إلى أن يَعهَدني الموت، أعدك يا والدي بأن تنال قصَاص أفعالك قبل أن تلامس جثتك العفنة أوصال التُّراب》
أنت تقرأ
الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْ
Fantasiفي حِقْبَة مِن الزَّمَان...قرر القدر بمحضِ الصدفة قلب الموازين بطريقة غامضة، واستخدمت ذرِيعة خفية مَحاها الزمن لتغيير مجرى التاريخ. عندما أَبَاد الطَاغية أرغد الأسرة الملكية بأكملِها، الأسرَة الوحيدة القَادرَة بدِمائها على تسيير الأرض، بدا أن الأمَل...