سارت (روسلين) بخطوات بطيئة وسط السوق نظرا للازدحام الذي كونه الحشد الهائل المتجه نحو المنصة المتواجدة بوسط المدينة، حدّجَت الفتاة وجوه الناس واحدا تلو الآخر باحثة عن مرادها، لكن صبرها ضاق حين اكتشفت أنها تخطت بوابة الصور المحيطة بالمنصة بخطوات عديدة، لتفقد أخيرا الأمل في أنها ستجد الشخص المنشود، لتختار أحد الأماكن الجانبية بالساحة بضجر متأففة و هي تقول:
《يا إلهي...لم أكن أود رأيت مراسم الإعدام، أتيت فقط من أجلها و ها هي تركتني لوحدي..!!!》
التفت (روسلين) خلفها لتعود أدراجها، لكنها انصدمت من الحشد العظيم و الهائل الذي وقف خلفها، لتكتشف أن التداحس الذي صنعه الناس لم يسمح فجوة لتمرين منها، فاستسلمت و أتمت مشاهدتها للمراسم بعصبية..
دخل المنصة رجل كهل ليعم المكان الصمت، ثم فتح كتابا جلديا كان يمسكه بين يديه و قرئ من صفحاته بصوت عال و جوهري:
《سيداتي و سادتي...شعب رنتال العظيم...و لأن جميعكم على دراية بما حال البلاد..،و اتباعا للدستور المسني من قبل الأباطرة السبع...فإن القوانين و الأحكام جميعها ستسري تحت قيادة الدستور الأتالي المختار و بعيانة من قبل ملك أتالا...(أرغد)..》
قطع كلام الكهل حين سُمعت همهمات صارخة من قبل الحضور بكراهية لكنها سرعان ما خرست حين أتم كلامه:
《و نظرا لما حدث البارحة من تَعدٍ على مواطِنَينِ كبيرين في السن، و استعمال الجندي لسلاح غير مرخص ناحية فتاة صغيرة من قبل الحاكم..، فسيعاقب المعني بالأمر بالإعدام تحت القانون رق...》
أصاب (روسلين) الملل من كلام الرجل، لكنها لم تعر أهمية لما كان يقوله بعدها فقد شد مسامعها محادثة صغيرة جانبية بقربها بين رجلين حين قال أحدهما مخاطبا الآخر:
-اللعنة سماع كلامه غثيث!!
-لما؟
-يعيد قول نفس الأصطوانة في كل مرة يتم فيها إعدام أحدهم بالمنصة...لقد ضجرت حقا من سماع اسم ذاك الطاغية!!
-لم أكن صاحب فكرة أن نحضر هنا، لقد كنتَ أنت.
-لأن هذه المرة الأمر مميز!
-أنت تناقض نفسك يا أخي...لتوك قلت أن الأمر مضجر و الآن تقول أنه مميز؟
-ألم تسمع بما حدث البارحة؟
-نعم إنه السبب اللعين الذي أتواجد بسببه هنا!!
-أليس سماع ما مرّ أمر مدهش!!
-لا...أتظن أن سماع جنديين يجلدان عجوزين بسياطهما بشراهة متعطشة للتعذيب..و أن أحدهما كان على بنس شفة من قتل فتاة لم تبلغ حتى سنها العشرين أمر مدهش يا أيها الغبي؟!
ضرب الرجل بقبضته كف أخيه بغضب:
-أتنعتني بالغبي؟!..احترمني فأنا أكبرك سنا!!
أجابه أخوه متأوها ألم الضربة:
-أخبرني إذا ما المدهش بالأمر..و لما هو أمر مميز هذه المرة؟
-الأمر المميز بالأمر هي الفتاة التي كانت على بنس شفة من لقاء مصرعها تحت رصاصه!!
خرست أنفاس (روسلين) فجأة لتصرخ هي و الأخ بالآن نفسه:
-ماذا؟؟!!
التفت الرجلان نحوها من الصدمة لتقول منقذة الموقف بتوتر:
-ما الأمر؟
علق الرجل باحتقان:
-أكنت تتنصطين على كلامنا؟
-آسفة حقا...سماع ذاك الكهل يتحدث أمر مضجر...و لأن أصواتكم كانت عالية شردت و ركزت بالغلط على محادثتكم.
ضحك الأصغر مخاطبا أخاه:
-ألم أقل لك أن صوتك عال جدا حين تتحمس أثناء الحديث.
رمق الأكبر الآخر بغضب و لم يعلق، لتنطق الفتاة معتذرة مجددا:
-أستسمحكما عذرا.
-لا عليك..، لكن ما الذي تفعله فتاة صغيرة..
قاطعته:
-عمري يا سيدي 17 عاما أتعتقد أنني لازلت صغيرة؟!
-نظريا نعم و لكن واقعيا لا...لازلت بحاجة لرفقة لن تكون فكرة وجودك وحدك بالخارج فكرة حميدة!!
-من كنت سأكون برفقته قد تأخر لمدة طويلة!!
-يمكنك البقاء معنا أنا و أخي إن كنت متوترة من أن يتعرض لك أحدهم؟أو خائفة من أن تعاقبك أنظار الناس...
-ما الذي تقصده بكلامك؟
-أعلم أنك تفهمين قصدي
-لا شكرا يمكنني حماية نفسي...
تبادل الرجلان النظرات بينهما لأنهما تعجبا من شجاعة الفتاة رغم بنيتها التي تبدو ضعيفة مقارنة بالآخرين، ليعلق الأكبر:
-هذا ما قصدته يا أخي بقول أن الفتاة من البارحة كانت مميزة...ذاع صيت ما فعلته بين الناس و ها هي الآن تُلهم الأخريات باتباع خطا شجاعتها...و ليس الفتيات فقط، بل الرجال أيضا...لم يرض أحدهم بسماع أنها عاكست جنديا ذا منصب عال بمهارة بعمر صغير بينما هم لم يحركوا ساكنا...قد يغير الأمر شيئا قليلا بقضية الاحتلال هذه...
-لا أظنها فقط فتاة ثملة حالفها الحظ بالغلط.
-لما تقول أمرا كهذا؟
-أتخبرني أنها عاكست جنديا ذا منصب ببنية الفأر تلك و هزمته...أظنها ثملة محظوظة؟!
علقت (روسلين) بسخف:
-أتغار منها؟
-أغار منها؟؟!!
-بالطبع نعم...لأنك أنت ببنية الدب هذه و بطنك المستديرة التي لو رآك أحدهم بها من بعيد لظنك مرأة حامل بشهرها الثامن!! و لم تقوى حتى على النظر لعيني جندي دون خوف...أما بنية الفأر كما لقبتها صارعت بسيفها دون أدنى جزع لأن شرف أهل شعبها مس...إذا ردّت فعلك هذه غيرة فقط..!
تقدم الرجل بغضب نحوها و كوَّر قبضته بالهواء مستنكرا:
-أقسم أنني سأشوه ملامحك هذه إن لم تخرسي...
تراجع أخوه للخلف من الجزع لأنه يكره رأيت أخيه غاضبا إن كان الأمر له علاقة بوزنه، أما الفتاة فتقدمت نحوه بابتسامة كبيرة رافعة سبابتها نحو وجهه غير معيرة لفكرة أنه يهددها بقبضته:
-لا...لا...لا...لا...!!..أتسمي هذا نبلا يا سيدي؟!..ضرب فتاة أمام الجميع؟!
-إخرسي!!
ضحكت (روسلين) ضامة ذراعيها بصدرها:
-أتغار من الفتاة مجددا؟!..أ لأنها كانت نبيلة القيم تجاه شعبها؟
لكن الرجل لم يجعل هذه المرة قبضته على شاكلة تهديد بل صوبها نحو وجهها باحتقان...لدرجة أدت قوة صوت الاصطدام لإخراس الهمهمات و الكهل فوق المنصة...ليلتفت الجميع بأنظارهم بالآن نفسه نحوهم بالإضافة للمحكوم عليهما بالإعدام...
من بعد ما علا الغبار الذي حجب المنظر انصدم الجميع برؤية جثمان رجل صريع تحت أقدام فتاة بالسابعة عشر من عمرها، ليتبع المشهد بصراخ أخيه بوجهها قائلا:
-يا إلهي ما الذي فعلته بأخي، الرجل لا يفتح عيناه..
-أخوك مغمى عليه فقط...أتظن أن أحدهم سيظل يقظا بعد ارتطامه بالأرض بتلك الحدة...
ثم أردفت بتوتر بعدما شاهدت أن عيون جموع الناس حولها جميعها مصوبة نحوها:
-التي جعلت الجميع ينظر نحوه..!
-ما الذي فعلته به...؟!
أجابت الفتاة بتوتر متمنية لو أن الأرض انشقت لتبلعها من الخجل:
-لويت يده التي صوبها نحو وجهي و دفعته للخلف بقدمي..
صرخ (تميم) من بعدما قُطِّعت عصابة عينه من أجل تفعيل الحكم، و من فوق المنصة بأعلى صوت:
-أتلك هي الغبية التي بسببها أنا هنا؟!
ارتفعت الهمهمات فجأة، و وقفت (روسلين) كالمجرمة بينهم بتوتر بينما تلاحا لسمعها جمل كالقذائف لقلبها:
《أتلك ابنت (سلاف)؟!》
《أظنها عضوا من الإيلان》
《أتلك هي الثملة التي يتحدث عنها الجميع؟؟!!》
《لو كانت تلك ابنتي لتبرأت منها》
《لا أرى وصيا معها...يا للعار!!》
《أتمنى شجاعتها!!..》
تخشب لسانها بحلقها شاعرة باحتياجها لتعلم إغلاق فمها ،لتظل هي كالمترنحة بين تعليقات الجمهور، و يظل ذهنها يكذب الإيجابية منها و يخزن السلبية ليجعلها تطن من بعد برأسها...خارسا بذلك الشجاعة التي حاولت استجماعها...
لم ينقذها من الموقف إلا ظل خيالٍ حملها بين جموع الناس و لم تقوى على رؤيته بسبب دموعها التي حجبت كيانه عنها...
أنت تقرأ
الترنيمة : لَعْنَةُ يَنَارْ
Fantasíaفي حِقْبَة مِن الزَّمَان...قرر القدر بمحضِ الصدفة قلب الموازين بطريقة غامضة، واستخدمت ذرِيعة خفية مَحاها الزمن لتغيير مجرى التاريخ. عندما أَبَاد الطَاغية أرغد الأسرة الملكية بأكملِها، الأسرَة الوحيدة القَادرَة بدِمائها على تسيير الأرض، بدا أن الأمَل...