الفصل الثالث عشر

77 4 3
                                    

الفصل الثالث عشر /
عند إنتهاء صفحة نطويها ونبدأ بأخرى ، وهكذا هي الحياة مهما تخبطنا بين أقدارها نبدأ من جديد .
أسبوع مر على وجودها معهم ...ولكنها في عالم بعيد .. عالم من لا يوجد فيه أحد غيره.
تارة يضحك لها وتارة يحتضنها...وتارة أخرى يداعب شعرها.
كانت الفتيات تجلس معها بالتتابع....محاولين بقدر ما يمكنهم التخفيف عنها وعن والدتها التي تبكي قهرا كلما جلست معها.
أما الرجال كانوا مشغولين بالعمل من جهة وبالبحث عن بسمة من جهة ومحاولة مؤازرة أيمن من جهة أخرى.
...........
ولكل منا طريق عليه أن يجتازه ... لكل منا إختبار عليه أن ينجح فيه .
كانت تتململ ف جلستها..أمامها أنواع عدة من الفاكهة ولكن لا تشتهى أيا منهم ، يوجد شيء تغير بها ، لا تعلم ما هو ؟ ولكن تشعر به .
سمعت الباب يُفتح لتندفع واقفة تراه وهو دالف بهدوء وعلى وجهه إبتسامة بسيطة :
_مساء الخير ...لسه صاحية؟
_معرفتش أنام...من إمبارح وإنت بره ..أول مرة تحصل ..مقصدش حاجة بس ..ياعني أقصد إن ....
لم تستطع تكملة حديثها لشعورها بالإرتباك والخجل .
رأى تغيرات وجهها مسح على وجهه بإرهاق  فهي لا تساعده إطلاقا بتلك النظرات .
ظل ينظر لها بغموض قبل
أن يتنهد بقوة قبل أن يجلس ويطلب منها الجلوس وشرع في الكلام:
_إمبارح كلمت أوس أشوفه ناوي ينفذ طلبي أو لأ ...طلب يقابلني وإتصافينا بعد ما نفذ كل طلباتي ...كان المفروض ترجعي البيت من إمبارح بس أنا .....
قاطعت حديثه متسائلة :
_ولما الأمور بينكم سهلة وبسيطة كدة مقابلتوش وإتفقتوا من الأول ليه ؟ وسابوني هنا كل الوقت ده ليه؟
_أنا كنت متأكد إنه هيدور عليا في كل مكان ...فعملت حسابي ..كنت مرتب الأمور إني أكلمه بعدها بتلت أيام بس في اليوم الرابع عرفت بموت دكتور مراد في حادثة
شهقة فزع خرجت منها قبل أن تسأله بعينيها إن كان لا يقول الحقيقه ولكنها أصبحت تعلم صدقه من عينيه لذا لم تتكبد مجهود في السيطرة على شهقاتها ولا دمعاتها.
ظلت قرابة النصف ساعة تبكي ...وتبكي ...تحدث نفسها بصيغة سؤال مجروح :
_ليه الطيبين بيروحوا...كان محترم وأخلاقه جميلة ..كان واضح حبه لمريم ...
وعلى ذكرها ...
_مريم...مريم كويسة؟؟
_كانت معاه...جروح ودراعها مكسور.
_يا حبيبتي ...دي تستاهل كل خير ..كانت بتعاملني كأني أختها وطول الوقت من يوم ما عرفتها مع بعض ..عمري ما حسيت معاها إني غريبة .
_بسمة...إجهزي علشان أوصلك.
شعرت بالتخبط...نظرت له بحيرة وياللعجب...بخوف .
لما الخوف الآن ؟!!...من المفترض أن تكن سعيدة فقط برجوعها أخيرا لعائلتها.
ظلت تنظر إليه نظرة تقص الكثير بما يجوش صدرها وما كان منه إلا أنه بادلها ذات النظرة.
.....

الجميع بالحديقة أرادوا التخفيف عنها بعض الشيء ...لم يستطع أحد أن يجعلها تتحدث ولو بكلمة واحدة ...أحيانا يشعرون بها عندما تتجاوب بنظراتها بينهم ..وأحيانا أخرى يقسمون أنها بعالم آخر.

_مساء الخير
قالها أيمن بعدما تقدم بإتجاههم وعيناه مثبتة عليها.
_إتفصل يابني...أعذرني مقدرتش أحضر وأقف جمبك.
_مقدر ياحج حسين .. ربنا يبارك في عمرك.
كان مازال ينظر لها وهي تبادله النظرات المُغشية بالدموع...جلس مقابلها وتحدث بهدوء :
_تفتكري مراد هيبقى مبسوط دلوقتي وهو شايفك بالحالة دي ؟؟. ، إرجعي مريم إل حبها ..خرجي نفسك من الدايرة دي علشان هو يرتاح .
علت شهقاتها وتحدثت من بينها بثقل ووجع :
_مقدرتش أعمله حاجة...كان بيموت قدام عيني ومقدرتش أنقذه...جه كان كل همه نوصل للمطار بسرعة...نزلنا وركبنا أول تاكسي قابلنا ..بس ....
كل حاجة حصلت بسرعة ..عربية فضلت ماشية ورانا تضايق السواق لغاية ...لغاية ما العربية إنقلبت...
كل حاجة حصلت بسرعة ...بسرعة أوي ..شوفت السواق بيموت ..شوفت مراد بيموت..كان بيبتسم ليا .. كان عاوز يطمني حتى وهو بيموت ...أنا دكتورة ومقدرتش أساعده....حسيت بالعجز والقهر ..إتمنيت الموت.
لم يتحدث أحد..لم يشؤا أن تنسحب من عالمهم مرة أخرى ... كانوا ينظرون لأيمن برجاء وشكر في نفس الوقت لإستطاعته جذبها من قوقعتها البعيدة ...بينما هو فقط يركز معها وعقله في رسالة إبن أخيه التي إستلمها مع جثمانه ..فكانت بداخل جاكت بدلته للزفاف التي أصر على شراؤها هدية له.
((عمو ...عارف إني أغلى شخص على قلبك في الدنيا دي....دايما كنت تقولي لو طلبت مني حاجة هنفذها ولو كانت آخر شيء أعمله في حياتي...كنت بصدقك لما كنت تقولي أفديك بروحي...أنا مش هطلب روحك...أنا هطلب حياتك....
لو قرأت الرسالة دي يبقى أنا خلاص معدتش موجود في الدنيا...بس في حتة مني موجودة ...حافظ عليها ...
البدلة وصلتلك...طالما الرسالة في إيدك...إلبسها... إفرح...وعيش حياتك...كنت وعدتك أختارلك العروسة.. أنا إخترتهالك......مريم ...دي وصيتي))
.......
حاول إجلاء صوته قبل أن يسألها بعتاب:
_مقدرتيش تنقذيه...هتفرطي في إبنه؟!
نظرت له بدهشة وصدمة لم تقل عن صدمتهم لتتحدث بتساؤل:
_عرفت إزاي؟؟
_رسالة مراد ....
سكت قليلا يركز بعينيه على قسمات وجهها يحاول أن يستشف معرفتها بالأمر أم لا ..وأكمل بتريث :
_رسالته ليا قال إن في حته منه موجودة...وقالي وصيته.
لم يحتج لأي حديث منها ليعلم معرفتها بتلك الوصية ..فإحمرار وجهها غضبا ونفورا أعلمه.
نهضت بعنف نافرا وتحدثت بلهجة جديدة عليهم جميعاً:
_مستحيل...سامع مستحيل.
وقف بهدوء وقبل أن تدلف للداخل أردف بصوت مرتفع جاد ليصلها :
_ده آخر طلب ليه ...وهنفذه مهما كانت الطريقة .
صعدت مهرولة تبكي وتنتحب...تستمع لصوت مراد وهو يخبرها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة
((عيشي حياتك...عمو أيمن يربي إبني ....وافقي ))
كانت تظن بداية أنه يريد أن تعطي إبنه لعمه فبكت ..بكت لأنه يخبرها الآن بنتيجة الإختبار المعملي وأنها تحمل في أحشاؤها طفله...ولكن كلمته الأخيرة جعلتها تذعُر تماما
((إتجوزيه))
تبعتها الفتيات ووالدتها ووالدة أوس فهي تشعر بالشفقة عليها .
.......
_فهمنا يا أيمن .
نظر لهم أيمن وقسمات وجهه أصبحت أقسى :
_شوف يا أوس ...إسمعوني كلكم ...وصية مراد هنفذها لو كان آخر يوم في عمري .
_طيب يابني متفهمنا إيه هي الوصية دي؟
_الوصية يا عم مصطفى ...إني أتجوز مريم وأربي إبنه .
هاهي صدمة أخرى .....الموقف وأكبر من أي حديث
_معتقدش إن ده وقته يا أيمن...كان باسم أول من تجاوز صدمة حديثه وتحدث بتريث ليومأ له أيمن ويضيف :
_عارف إنها فى العدة...لكن حبيت أعرف لو كان عندها علم ..وكمان علشان أعرفها إني ناوي على تنفيذ وصيته..وأظهر نيتي قدامكم كلكم ...إن كان فيا عمر بعد العدة بيوم مريم هتتكتب على إسمي....بعد إذنكم.
إلتفت ليغادر ولكنه توقف فجأة عندما لمح بسمة...ليس وحده بل الجميع وقف.
هرع باسم لشقيقته يفحصها بعينيه سريعا يتأكد من سلامتها ثم إحتضنها بقوة .
بينما وقف آسر مشدوها وتحدث بتعجب مردفا :
_عامر!
نظر الباقون لمن يقف بجوار بوابة المنزل يستند بذراعيه على الجدار يناظرهم وهم يستقبلونها.
حاول باسم ومحمد الوصول له إلا أن كلا من أوس وحسن منعوهم..وتحدث أوس بترحاب رغم نظرات الغموض التي شمل بها صديقه :
_إتفصل يا عامر.
تقدم عامر ببطئ ووقف أمام باسم ونظر بإتجاه بسمة التي يحتضنها حسين بقوة كمن عادت إليه روحه بعد عناء مع المرض .
_أنا آسف إني إتصرفت بالطريقة دي ..وأي عقاب أو أمر تحكموا بيه مستعد أنفذه.
_إنت واحد مختل عقليا ...جاي تقول كده على أساس كسرت طبق دي بنتنا إنت خطفتها ويا عالم عملت فيها إيه .
_بنتكم سليمة يا عم محمد ...مش معنى كده إني مغلطتش ..بس أعتقد إنت أكتر واحد عارف لما رغبة الإنتقام تتمكن من الإنسان مبيشوفش قدامه .
إبتسم أوس بخفه فهاهو صديقه ذو العقل الرزين إستطاع أن يجابه هجوم عمه.
نظر عامر لباسم وأردف بآسف حقيقي:
_أكتر حد مديونله إنت ...أنا عارف ياعني إيه أخت مُعرضة للخطر ...أنا أختى ماتت من سنين ولسه جرح موتها معلم جوايا...أنا آسف ليك ...
أنهى جملته ونظر لبسمة ليجد عيناها تمتلأ بالدموع ..تقدم منها وتآسف لها ورحل ...وكأنه لم يكن .
........
شهران مروا وإلى الآن لم تعد حياتهم كما كانت .
أو بالأحرى كلا منهم يحاول التخلص من ندوبه.
عاد كلا من محمد ومصطفي ووفاء بصحبة مريم لمنزلهم ليباشروا حياتهم ويراعوا أشغالهم .
تبدلت أحوال مريم ...عادت تتحدث وتأكل ...وجودها في منزلها وقضائها وقتا بين الأراضي الخضراء ساعدها على الإسترخاء..إهتمت بأكلها وتغذيتها ومتابعة الطبيبة النسائية ...كانت متمسكة بالحياه بقوة من أجل صغيرها التي علمت منذ أيام أنه صبي ...يا لفرحتها ...قررت تسميته كوالده مراد ليظل إسمه محفورا دائماً على لسانها .
لا تنكر أن أيمن يتعامل معها بلطف ورفق ...يأتي كل مرة معها للطبيبة وينتظرها خارجاً...يصر على أن يقوم بكل ما يخصها ويخص طفلها ...لم يتحدث معها بخصوص الوصية مرة أخرى مما أشعرها بالراحة.
أما حسن فبقي عند حسن مع باقي أحفاده...فقلقه على بسمة وتغير أحوالها جعله يستشعر مسؤلية ببقائه جوارها إلا أن يتم زفاف أخيها بعد شهر .
كانت بسمة مكتبئة دائما...تجلس وحيدة معظم وقتها ...أكلها ضعيف ...تفقد أعصابها على أقل شيء .
........
تجلس تقرأ إحدى المجلات التى تتحدث عن الأطفال..تشاهد صور الأطفال المرفقة بعيون دامعة .. لم تنتبه لمن جلس بجوارها...بل أخذت تسترجع ذكرياتها.
في وقت سابق/
ذهبت للشركة بعد إلحاح من بشمهندس سعد فكانت لا طاقة لها تشعر بالإرهاق المُصاحب للحمل وأيضاً إنهيار شقيقتها أمس وعودة بسمة كل ذلك أتى مع بعضه ليضحل من قوتها .
دلفت للشركة لم تجد أحد كما المتوقع ليوم العطلة ولكن كيف ذلك وقد أخبرها سعد بأن هناك آخرون غيرها سيأتون.
همّت بالرحيل لتجده يدلف من الباب وعلى وجهه إبتسامة لم تشعرها بالراحة.
_بشمهندس سعد هو الإجتماع إتأجل ولا إيه؟!!
_إتأجل إيه بس ..أنا بقالي أسبوعين بجري علشانه..بس إنت تقلان عليا يا جميل.
تعجبت من كلماته وطريقة نظراته أشعرتها بالتقزز فأهدرت غاضبة وهي تراه يغلق الباب :
_بتعمل إيه ..إفتح الباب .
_أفتح الباب ...ده أنا مصدقت يتقفل علينا باب واحد .
_يا حقير...إبعد عني .
حاولت بكل قوتها أن تدفعه بعيدا عنها وتجذب يداها التي إستطاع إمساكهم منه ولكنه كان أقوى منها ..أخذت تركله وتنهش في يده بأسنانها إلى أن صرخ بقوة وصفعها بقوة لتسقط فوق الطاولة الزجاجية وينغرس طرف الزجاج ببطنها.
صرخت متآوهة ملتاعة تزامنا مع جذبه لها من حجابها بقوة ودفعه لها بإتجاه الأريكة  وما كاد أن يقترب منها ووجد أحدهم يحاول فتح الباب إلا أن إستطاع.
........
الوقت الحالي/
_ميوش هتفضلي تعذبي في نفسك ..قدر الله وما شاء فعل..ربنا هيعوضنا إن شاء الله يا حبيبتي.
إرتمت بأحضانه تبكي فقدان جنينها رغم أنه مر شهران ولكن قلبها مازال ملتاعا.
_يالا يا حبيبتي ننزل الكل مستنينا على العشا .
بالأسفل /
كان أوس يضع يده فوق بطن زوجته البارزة يبتسم تارة ويضحك الأخرى عندما يركله إبنه....
_تعرف إن باباك وأنا حامل فيك كان طول الليل بيحط إيده يسمعك .
أردفت بها حنان بإبتسامة وهي ترى سعادة إبنها ليقول حسن بإبتسامة :
_ياااه كانت أحلى أيام وأنا حاسس إن في حتة مني تبكبر يوم بعد يوم .
_على كده أوس كان شقى ولا هادي وهو صغير .
تساءلت كروان بمرح لتجيبها حنان :
_أوس كان شقى .. إنما آسر كان هادي .
_مين جاب في سيرتي؟!
_مامتك بتقول إنك كنت هادي مش عارف ليه مش مقتنع.
قالها بمزاح وضحك شاركه الآخرون بينما أجابه آسر بغيظ :
_طبعا كنت هادي وطيب..الدور على مراتك كانت مجننانا.
_إنت بتقلب الحوارعليا يا آسر ...سامع يا بابا.
_سيبك منه يا حبيبتي...ده غيران منك .
نظر آسر لشقيقته التي تفتعل حركات مضحكة بوجهها لإغاظته بحنق قبل أن ينظر بإتجاه كروان متسائلا بحماس :
_صحيح يا كروان هتسمي الواد ده إيه ؟؟
إبتسمت كروان بفرح وأردفت :
_هسميه عُدي ...عُدي أوس درغام.
_مساء الخير
نظر الجميع بإتجاه الصوت ليجدوا رجلا خمسينيا يحمل حقيبته بيده.
_رؤوف !!
لم يجدوا وقتا للتعرف إليه فصراخ الخادمة من الطابق الثاني تحديدا من حجرة بسمة فقد طلبوا منها مناداتها دفع القلق وبث الخوف بقلوبهم.
.......
الزمن ....الحياه...القدر
كلمات تقتص من أرواحنا...قد تُهلكنا أحياناً..وقد تبتسم لنا أحياناً أخرى .
يبدوا دائما الزائر الغير المتوقع كدخيل ولكن ماذا إن تعلق الماضي به...بل ماذا إن كان هو من نسج خيوط الماضي .
حياتهم متشابكة ...لم يصلوا لبر الآمان بعد ....فهل ستستقر حياتهم أم لا ؟

أحفاد درغام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن