الفصل الثاني
انفطر قلبها منذ اللحظة التي حرمت فيها من وجود رضيعها إلى جوارها قبل حتى أن تشتم رائحته، تضمه إلى صدرها، أو حتى تُطعمه من لبنها، كان ذلك أقسى ما استطاعت اختباره في هذه الدنيا المجحفة، فمنذ أن رمتها الحياة إلى هذا المنزل المملوء بكل مساوئ البشر، تحملت كل شيء، وصبرت على ما لا يمكن لفردٍ سوي احتماله، لعل وعسى يأتي من ينتشلها من هنا، ومع ذلك ظلت قابعة في الوحــل، تتنقل بين الرجال كأنها سلعة مستهلكة، هذا يهينها، وهذا يدللها، وهذا يصب عليها جام غضبه، سكتت، وتقبلت الهوان على نفسها، إلى أن علمت بمسألة حملها، شعرت آنذاك بأن هناك بارقة من الأمل، ستكون لها عائلة، وإن كانت مكونة منهما فقط.
لكن ربة المنزل وصاحبته اللئيمة رفضت إكمال هذا الأمر بشدة، وسعت لإجهاضها والتخلص من بذرة الســــوء تارة بالضـــــرب المُبرح، وتارة أخرى بالأدوية المسببة لإسقـــاطها، إلا أن جنينها أظهر تشبثه أكثر بالحياة، فتخلت "توحيدة" عن مسألة حرمانها منه، وقتها ظنت "وِزة" أن قلبها رقَّ إليها، وستمنحها ما تطمح فقط لامتلاكه؛ لكن تحطمت أبسط أحلامها على صخرة الواقع القاسية حينما اختطـــــفته منها، لتأخذه إلى المجهول.
لم ينضب دمعها، ولم تكف عن النواح والاستجداء، بل إنها تحينت كل فرصة تجدها فيها رائقة المزاج، لتسألها عن مصيره، ورغم أن جوابها كان متكررًا، بأن تنساه، إلا أنها لم تفقد الأمل، فقد توهمت أنها أودعته كأمانةٍ عند أحدهم، كنوعٍ من العقاب لها لمخالفتها أوامرها.
هذه المرة انتظرت انتهائها من تمضية وقتها الخاص مع "عباس" لتتسلل إلى مخدعها، كان الأخير في الحمام الملحق بالغرفة يغتسل، و"توحيدة" تتمدد باسترخاءٍ على سريرها وهي في قميص نومها ذي لون الأحمر القاني. ولجت "وِزة" إلى الداخل دون استئذانٍ، مقتحمة عليها خصوصيتها المزعومة، ثم أحنت رأسها في ذلٍ، وتوسلتها بصوتها الباكي:
-بالله عليكي يا أبلتي تخليني أشوف ابني.
انتفضت لرؤيتها بداخل غرفتها في وقاحة فجة منها، وصاحت بها وهي تعتدل في رقدتها:
-إنتي اتجننتي؟ داخلة عليا أوضتي من غير إحم ولا دستور؟
اعتذرت منها في التو:
-حقك عليا، بس نفسي تريحيني.
نهضت عن الفراش، وسحبت روبها الملقي بإهمالٍ على الأرضية لترتديه، وهي لا تزال توبخها بحدةٍ:
-إيه ما بتزهقيش من الأسطوانة دي؟
هدر "عباس" من داخل الحمام مبديًا تذمره من صوتهما المرتفع:
-في إيه يا "توحة"، ليه في دوشة عندك؟
انقلبت سحنتها للغاية من تسببها في تكديره، ولو بشكلٍ بسيط، راحت "توحيدة" تلكزها في كتفها لتدفعها نحو باب الغرفة وهي تعنفها بغيظٍ:
YOU ARE READING
فوق جبال الهوان - قيد الكتابة
No Ficciónرواية تدور أحداثها في الضواحي والأحياء الشعبية