الماضي لا يموت.. الفصل العاشر

0 0 0
                                    

الفصل العاشر... جحيم الشك.

عند ظهيرة اليوم الثاني كانت ماسة على وشك الانفجار، تشعر بضيق يجثم على أنفاسها حتى أوشكت على الاختناق. نظرت لفيروز التي تلملم أشيائها القليلة في حقيبتها وسألت بحنق:
هل سترحلين معها يا فيروز؟
انشغلت فيروز بوضع بعض الملابس في الحقيبة قبل أن تجيبها بعجز: إنها والدتي يا ماسة، لا أستطيع عصيانها. أخبرتني بأن أستعد للرحيل اليوم فماذا أفعل؟
سألتها ماسة بضجر: ألا تستطيعين البقاء معي إلى أن يمر هذا الاسبوع؟ لا أريد ترك جمانة وحدها.
هزت فيروز رأسها بالرفض بينما تحاذر أن تلتقي عيناها بعيني ماسة كي لا تقرأ رغباتها. قالت بهدوء: كوني معهما فهما معتادان على وجودك، أما وجودي فلن يلاقي منهما الترحيب.
غمغمت ماسة بقلق: لِمَ تتصورين ذلك؟
عضت فيروز على شفتيها، تتشاغل بجمع أشيائها لبعض الوقت؛ وعندما تيقنت أن صمتها لن يزيد ماسة إلا إصرارًا على المعرفة، تنهدت واستدارت نحوها أخيرًا قائلة بهدوء لا يتناسب مع سنوات عمرها الأقرب للطفولة أو توتر حركات يديها:
بغض النظر عما أتصوره أنا، فالحقيقة تقول بأنهما معتادان على وجودك في الفيلا لبعض الوقت، أما أنا فلم تكن أمي تسمح لي بالمبيت هنا من قبل أبدًا، لذا فإنه من المستحيل أن تسمح لي الآن وبالأخص أنها تصر أني لم يعد لي أحد هنا. سأرحل معها يا ماسة فأنت تعرفين نتيجة التجرؤ على عصيان أوامرها.
تنهدت ماسة بضيق، لا تريد لفيروز الرحيل وبالأخص في تلك الفترة. لا تعرف لِمَ تشعر بكل هذا القلق وكأنها تتوقع حدوث كارثة أخرى.
قالت بيأس: حسنًا يا فيروز اهتمي بنفسك، وإن أردت التحدث معي بأي وقت فسأكون موجودة.
هزت فيروز رأسها مؤمنة وعادت لإنهاء إغلاق حقيبتها: بالطبع يا ماسة أنا أعلم ذلك.
بعد رحيل فيروز مع إيثار عادت ماسة لترتمي على فراشها، تشعر الآن بأنها أصبحت عالة على الجميع وكأنها مشردة لا تملك المأوى، فمنزلها لا تحب العيش فيه بعد وفاة والدها إذ أن إيثار دائمًا ما تحاول استفزازها وإحالة حياتها إلى جحيم فأصبحت تهرب منه إلى فيلا عمها الذي رحل، والواقع يقول إن جمانة ليست من أقاربها لذا فماسة تشعر بالتطفل على حياتها. قررت أنها ستظل في العاصمة حتى تتجلى لها بعض الحقائق ثم تغادر فيلا عمها بلا رجعة سوى للزيارات، وربما تبحث لنفسها عن شقة تسكنها في العاصمة هربًا من إيثار.
سألت نفسها باستهجان "هل سيتركها الناس في حالها إن انتقلت للسكن بمفردها؟" كان سؤالًا غير هادف، لا تبحث عن إجابة له لأنها بالفعل تعرف إجابته.
***
أتاها اتصال مالك قرابة العصر وقد بدا قلقًا على حالها لكنها طمأنته أنها بخير. رغم عدم وجود مبرر لديها لعدم ردها على اتصاله بالأمس، لكنه أصر على معرفة ما حدث معها فسأل بإلحاح عن سبب انهيارها أثناء مكالمته معها، وحينها صمتت قليلًا تفكر بما تخبره به، ثم في النهاية بعد تردد دام قليلًا، أجابته بخفوت:
لا شيء! أمر بمرحلة متخبطة في حياتي، ربما أبالغ في ردّات فعلي تجاه بعض الأمور.
لم تخبره الحقيقة التي شعرتها بالأمس، فحين أخبرها بمرض عمها شعرت بأنه كان سيرحل بأية حال، وأحزنها إخفاؤه حقيقة مرضه عن الجميع كما أخفى ذلك الشيء الذي تحاول معرفته من ماضيه. شعرت بأنها لا تعرف عمها مراد كما كانت تظن، أو أنها تعرف مرادًا آخر غير ذلك الذي بدأت تظهر بعض سماته. أيعقل أنها عاشت طوال ذلك العمر تتوهم له شخصية خيالية غير التي يملك؟ أين كل تلك الشعارات التي كان يملأ بها أذنها وهو يبثها كلامه عن مدى القوة التي يجب أن تتحلى بها لتعترف بما أخطأت فيه، ولتصحح ما تراه خاطئًا في مسار حياتها؟ أين كل تلك الشعارات التي كان يهديها إياها عن كونها ابنة مراد وليست ابنة محمود، فهي تشبه عمها في تمرده وسعيه دائمًا خلف إسعاد أسرته؟
أكملت بصوت خرج غاضبًا رغمًا عنها: لا تشغل بالك بردّات فعلي كثيرًا يا مالك، فربما كل تلك الأحداث حولي تشوش تفكيري!
أتاها صوته متفهمًا: أتفهم ما تقولين يا ماسة. إن أردت مساعدتي لك فلن أتأخر، وثقي بأنني لن أتركك حتى تستعيدين زمام أمورك.
شعرت بالامتنان له وفكرت بأنه الوحيد الذي يتفهم وضعها الآن: أشكرك.
ثم استطردت آملة في الحصول على أي معلومة: هل اتصالك بي يحمل لي أية أخبار؟
تنهد بقلق قبل أن يقول: تلك القضية التي حدثتِني عنها، لقد بحثت خلفها اليوم قليلًا ويبدو أن موضوعها شائكٌ يا ماسة.
اعتدلت في فراشها، تسأل بقلق وعيناها تلمعان بالإثارة: كيف ذلك؟
صمت ثم قال بعد هنيهة: إنها تخص التلاعب الأنساب، وقد كانت قضية رأي عام لما أحدثته من صدمة بين الناس حين عرضها.
سألت بحيرة: ماذا تقصد؟
عاد ليتنهد قبل أن يقول: اسمعي يا ماسة، من الأفضل ألا نبحث خلف ذلك الشيء من الماضي فربما وجدنا ما يؤلمنا.
قالت بإصرار: ماذا تريد أن تقول؟
حاول اثنائها عن رأيها بهدوء: أقول إنه من الأفضل أن نترك تلك القضية يا ماسة ونستأنف حياتنا.
ردت بغضب: لا أستطيع يا مالك! هناك شيء من الماضي انبعث ليطارد عمي فأودى بحياته المنتهية من أساسها، لكنه لن يكف عن مطاردة كل من له علاقة بعمي. اسألني أنا فلقد تعرضت للإصابة مرتين بسبب ذلك.
عقب على كلامها بغضب: وذلك أكثر مدعاة لتركها خلفنا يا ماسة، لن يفيدنا النبش بالماضي كثيرًا! صدقيني، ربما تتخيلين أنه الأفضل لكنني أخبرك بأن حياتك ستتوقف عند نقطة ما، ما إن تعرفي حقيقة لا تحبينها.
مسّ كلمه جزءًا من الحقيقة لكنها عاندت بالقول: هي حياتي يا مالك وأنا اتخذت قراري بشأنها، فإما أن تساعدني كما كان الاتفاق بيننا وإما تدعني أكمل بحثي بطريقتي كما يحلو لي.
قال بغيظ أكبر: أنت ترغمينني على مجاراتك فيما تفعلين بالرغم من رفضي الكلي له.
قالت بسخرية: لم أجبرك يا مالك! يمكنك الانسحاب صدقني، فعمي لم يكن سوى عميل لدى مكتبكم، ولست أريد إرغامك على فعل ما لا ترتضيه.
صمت لفترة كأنه يدرس كل الاحتمالات في رأسه. علم أنها ستكمل غبائها سواءً بمساعدته أم دونها، ومن يدري ربما حينها تلتحق بعمها بسبب ذلك الإصرار العنيد. شعر بغصّة تلهيه عن التفكير بالانسحاب. تنهد بغضب: أنا معك وليسامحنا الله!
قالها ثم صمت فسألته بحذر مبددة سحب الصمت التي تلفهما: ألن تخبرني بما عرفته؟
هدأ قليلًا وكأن الصمت امتص نوبة الغضب من أعماقه. أجابها: كانت تلك قضية كبيرة في ذلك الحين، لم يسعفني وقتي بالبحث خلف كل جوانبها لكن ما وجدته منها جعل قلبي يسقط بين قدمي.
تابعته بفضول تحثه على الإكمال فاستأنف: ألقي القبض على ذلك الطبيب لأن أحد الآباء رفع قضية إثبات نسب ضد مركزه الطبي لحمل زوجته بطفل غير شرعي. القصة باختصار أنه حين علم الأب بأنه لا يستطيع الإنجاب واحتفظ بفحوصاته التي تثبت ذلك لنفسه مخفيًا الأمر عن زوجته وأهلها، رفض أن يجري الفحوصات لنفسه مبررًا لهم أنه أجراها من قبل ونتائجها كانت سليمة. كانت الكارثة حين ذهبت الزوجة من خلف زوجها إلى ذلك المركز سعيًا خلف حلمها بالأمومة فما كان منهم إلا أن طمأنوها بأنها سليمة وبإمكانها إجراء عملية حقن مجهري وحمل طفل أنابيب، كان المركز في ذلك الحين هو الأشهر وكانت نتائجه مبهرة بنسب نجاح تتعدى كل مراكز زراعة الأجنة حينها. المركز كان ملكًا لطبيبين، أحدهما كبير السن والأخر يصغره عمرًا وأكثر شهرة لأن نسب نجاح عملياته كانت مبهرة. أخبرت الزوجة زوجها بأن ذلك المركز هو المعجزة التي يبحثان عنها، وأنها مستعدة لتفعل أي شيء كي تنال ذلك الطفل الذي تحلم به، ولأنه شعر بالشفقة نحوها فما كان منه سوى أن ذهب معها وهو يأمل أن تفشل تلك المحاولة فتهدأ ولا تعود للحديث عن الأطفال مرة أخرى، لكن صدمته جاءت حين أخبروه بأن زوجته حامل أخيرًا! وسط كل تلك الدموع التي رآها والتهاني التي تلقاها لم يهدأ قلبه. شعر بالغضب الذي كان يلتهم روحه ويحرقها كلما ظهرت أعراض الحمل على زوجته. ذهب لطبيب آخر في الخفاء وأعاد فحوصاته مرة أخرى ليؤكد له ذلك الطبيب بأنه لا يملك أية حيوانات منوية تصلح للإخصاب؛ لذا فنسبة الحمل تكاد تكون مستحيلة. تملك قلبه الشك فما كان منه إلا أنه انتظر عملية الولادة ليرفع قضية نسب على الطفل تثبتها المحكمة حينها بفحص (دي إن إيه) أو الحمض النووي، وأثبت حينها أن الطفل بالفعل ليس من صلبه، ولأن المركز كان قد أخبره بأنهم حصلوا على بعضٍ من حيواناته المنوية الصالحة للإخصاب بأعجوبة؛ اتهم المركز بتزييف العينة التي حصلوا عليها من الزوج، وعندها انكشفت الحقيقة البائسة؛ فقد كان الطبيب الأصغر سنًا يستعمل عينات من السائل المنوي الخاص به لحقن النساء اللاتي ليس لديهن أمل في الحصول على حمل طبيعي. كانت قضية رأي عام وفضيحة أخلاقية اهتز لها المجتمع حينها حتى أن النيابة قد منعت النشر في تلك القضية.
صمت يلتقط أنفاسه فأتاه صوت ماسة المصدوم:
يا إلهي! لا تخبرني بأن الطبيب الأصغر سنًا هو صاحب الصك الذي كتبه عمي!
قال بتأكيد: بل هو بالفعل، الطبيب راجي عاطف سند.
وضعت ماسة يدها تخفي وجهها قائلة بصدمة موجعة:
يا إلهي، يا إلهي!
أنبها مالك: أخبرتك بأننا لا يجب أن ننبش في ماضي قد يحمل لنا إيلامًا أكثر مما نتحمل.
لم تهتم لتأنيبه بل سألت بصدمة: ألم تعرف شيئًا عن ذلك الطبيب أو لماذا كان اسمه على أوراق عمي المخبأة؟
فكر مليًا ثم قال: لم أبحث خلفه بعد. لقد سألت أحد زملائي القدامى والذي صادف بأنه كان موجودا عند إثارة القضية في أروقة المحاكم فأجابني بما عرفه حينها. تبقى فقط أن أبحث عنها في سجل ملفات المحكمة كي أصل لكل تفاصيلها
سألت بتوتر: هل من الممكن أن نرى ملفات القضية القديمة؟
قال بهدوء: بالطبع ليس بتلك السهولة لكنني سأحاول.
ترجته قائلة: أريد أن أكون معك حينها، رجاءً! أريد أن أرى ما كتب في ملف تلك القضية علني أتوصل لبعض الحقائق.
قال بعد فترة صمت قضاها مفكرًا: حسنًا! سأرى ما يمكنني فعله.
هتفت بحماسة: نعم، نعم! أخبرني متى أقابلك وسأفعل.
ضحكة خافتة انبعثت منه قبل أن يقول: تتصرفين كالأطفال. من كان يظن أن تحت تلك الهالة التي تحيطين بها نفسك من القوة تحملين داخلك طفلة تتصرف بعفوية؟
بهتت ماسة فلم تجد ردًا حاضرًا لديها. وخزها ذلك الإحساس المبهم الذي بات يزورها مؤخرًا كلما تحدثت معه. حين طال صمتها قال ممازحًا: هل نمت؟
تنحنحت لتجيب بصوت أظهرت اللا مبالاة فيه: متى يمكنني مقابلتك في المحكمة؟
غزا وجهه ابتسامة عريضة لم ينتبه لها مجيبًا سؤالها: غدًا سأخبرك ما إن أقرر الذهاب، فربما لا أستطيع مغادرة المكتب.
قالت بسرعة: سأنتظرك! أقصد سأنتظر مكالمتك.
غمرها الخجل لزلة اللسان تلك لكنه كان من اللياقة بأن لا يبدي لها انتباهًا فعقب:
حسنًا يا ماسة، أراك بخير.
حين انتهت المكالمة كانت تتصبب عرقًا وتسب انفلات لسانها في سرها، أما هو فقد كانت هناك ابتسامة غير منطقية تزين ثغره، ظلت ملازمة له بقية اليوم.
***
في مستشفى ضخمة على أطراف العاصمة، جلس طبيب شاب على مقعده في غرفة الأشعة يطالع تقارير ورقية بيده بتأن قبل أن يرفع رأسه ليسأل الشاب الواقف أمامه عمّا يريده تحديدًا فقد كان منشغل الذهن ليستوعب طلبه في البداية.
تنهد الشاب ثم تكلم بثقة: هذه فحوصات والدي المتوفى منذ عدة ليال. أردت متابعة ملفه الموجود لديكم.
سأل الطبيب بحذر وقد خطر له أن ذلك الشاب يبحث عن المشاكل:
لماذا؟ هل تشك بأنه توفي نتيجة الإهمال الطبي؟
فهم عمر تخوفه فقال بسرعة نافيًا: لا! لقد مات نتيجة حادث. أنا فقط مشوش التفكير لأنه أخفى حقيقة مرضه عنا، وكنت أريد معرفة اسم الطبيب المختص بعلاجه لمعرفة كيف كانت حالته آنذاك. إنها خدمة انسانية تقدمها لي ليس إلا.
ظل الطبيب يرمقه بحذر قبل أن يستدير ليجري بحثًا على جهاز الكمبيوتر خاصته ثم يعود ليرمق عمر قائلًا بهدوء حذر: سأكتب لك اسم الطبيب المعالج لحالة والدك ويمكنك مقابلته وسؤاله عما تريد.
هزّ عمر رأسه موافقًا بلهفة، فما كان من الطبيب سوى أن تناول ورقة صغيرة دون بها اسم الطبيب الآخر ثم ناولها له.
شكره عمر ثم أسرع بين أروقة المستشفى حتى وصل لمكتب الاستقبال، فسأل الموظفة المتأنقة عن وجود ذلك الطبيب، ولحسن حظه أو ربما لسوءه فقد استطاع مقابلته، ويا لها من مقابلة!
خرج عمر من المستشفى يشعر بالصدمة؛ فقد علم حقيقة مرض والده بتفاصيلها، وتأكد له حقيقة إخفاء مرضه لأسباب لا يعلمها إلا الله. أحس بالوجل فثمة مصائب لابد وأنها مخفية من قبل والده كما أخفى عنهم حقيقة مرضه، وعليه أن يعرفها الواحدة تلو الأخرى. لا يدري من أين يجب أن يبدأ سعيه! هل سيجد ما يبحث عنه بين أروقة الشركة وحيث وقعت جريمة القتل؟ اتخذ قراره بالذهاب لمكتب محامي والده عله يجد لديه ما يريد
***
أيقظ رنين الهاتف ماسة من نومها مذعورة. كانت قد سقطت نائمة في فراشها بعد مكالمتها مع مالك دون مقدمات لشدة التعب. أمسكت الهاتف تطالع شاشته فتفاجأت بأن الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحًا.
أجابت الاتصال قائلة بصوت قلق: فيروز ماذا حدث؟
أتاها صوت فيروز الخافت قائلة: أنا خائفة!
قالت ماسة بقلق متزايد: مِمَّ أنت خائفة يا فيروز؟ هل حدث مكروه لك؟
قالت فيروز بصوت متحشرج: لا أريد البقاء في المنزل!
هبت ماسة جالسة على الفراش لتقول بخوف: أخبريني لِمَ؟
لكن فيروز اكتفت بالقول: أنا خائفة يا ماسة، أشعر بأنني وحيدة وأفتقدك بشدة.
قالت ماسة بهدوء: أخبريني يا فيروز، هل حدث شيء أخافك؟
لم تجب فيروز سؤالها بل قالت بصوت مرتجف: أفتقدك يا ماسة. لا أستطيع النوم، تنتابني كوابيس مرعبة بخصوص عمي.
سألت ماسة وما زال القلق يعصف بداخلها: أين والدتك؟
أجابت فيروز بخوف: لا أجدها!
تعجبت ماسة: ماذا؟ أين هي؟
شرحت فيروز بقلق: ذهبت للنوم حوالي العاشرة مساء واستيقظت منذ نصف الساعة، شعرت بالقلق فدخلت غرفتها لكن فراشها كان مرتبًا والشقة فارغة.
قالت ماسة تطمئنها: ربما كانت في الشقة التي في الدور الأرضي يا فيروز، هل حاولت مكالمتها؟
عقبت فيروز بخوف بدأ يتزايد وكأنها على وشك الانهيار: هاتفها مغلق، هل يجب عليّ الهبوط للأسفل كي أتحقق من وجودها؟
حذرتها ماسة: لا تخرجي من الشقة يا فيروز! احكمي إغلاق الباب جيدًا ولا تفتحيه لأحد أبدًا.
لكن فيروز سألت وقد تصاعد خوفها: هل تعتقدين أنها تأذت؟
سخرت ماسة بقسوة: بالطبع لا! صدقيني، لا يستطيع أحد إيذائها؛ فهي قادرة على افتراس من يقترب منها. ستعود حتمًا فلا تقلقي.
هدأ صوت فيروز قليلًا لكنها قالت بقلق: أنا خائفة. أريد أن أطمئن أنها بخير، ربما سيكون الهبوط للتحقق من وجودها في الأسفل فكرة جيدة.
أكدت ماسة عليها بصرامة: إياك أن تغادري الشقة يا فيروز! لا أريد إخافتك لكنك آمنة داخلها، فقط احكمي إغلاق بابها.
سألت فيروز بخوف متجدد: هل تظنين أن وجودي وحدي يعرضني للخطر؟ صدقيني أشعر بالخوف الآن وخاصة بسبب مام...
بترت كلامها لتستدرج قائلة بحزن شديد: بسبب ما حدث لعمي. أشعر كم أن حياة البشر هينة ورخيصة في مواجهة الأطماع، وكأن التخلص من روح شخص كالتخلص من حفنة من الأوراق غير ذات الأهمية.
هبط قلب ماسة بين قدميها لكنها قالت بتماسك: اتركيها لله. إنه الأجل، متى ما أزف موعده نفذ.
همست فيروز بتوتر وكأنها طفلة غير متزنة: ونعم بالله! يقلقني غياب أمي، هل تظنين أنها بخير؟
تنهدت ماسة قائلة: لا تقلقي بشأنها يا فيروز! إيثار قادرة على حماية نفسها. افعلي كما قلت لك وسأبقى معك على الهاتف حتى تهدئي وتنامي.
خرجت فيروز من غرفتها تجوب الشقة بحذر، تتأكد من خلوها من صحبة غير مرغوبة ثم أغلقت الباب جيدًا بالمفتاح وقفل الأمان. عادت لغرفتها فأوصدتها من الداخل ثم تدثرت بغطائها، بينما تتابعها ماسة على الهاتف حتى اطمأنت أنها أتمت التعليمات. ظلتا تتحدثان سويًا لبعض الوقت حتى أنهت ماسة المكالمة حين شعرت فيروز بالنعاس، بينما يعتصر قلبها القلق وينتابها الخوف، خوف مبهم من شيء مجهول لا تدري كنهه.
حينما أتى النهار أخيرًا كادت ماسة أن تموت رعبًا وقلقًا على فيروز. نامت نومًا متقطعًا مليئًا بالكوابيس وكلها تتعلق بالقتل والدماء. مرة ترى عمها وثقب رصاصة في صدره تتفجر منه الدماء، ومرة ترى شبحًا متشحًا بالسواد يلاحقها ويحمل سكينًا عملاقًا يريد ذبحها به، ومرة ترى فيروز تختبئ في بيت مهجور بينما هناك لصٌ يبحث عنها ليقتلها، وفي كل مرة كانت تستيقظ فزعة تمسك هاتفها لترى إن كان هناك أي اتصال وارد من فيروز ثم تعاود النوم القلق مرة أخرى.
عندما استفاقت أخيرًا أمسكت هاتفها لتتصل بفيروز كي تطمئن عليها، لم ترد فعلها من قبل كي تمنحها نومًا مستقرًا ولا تسبب لها القلق. أجابت فيروز بصوت منخفض: صباح الخير يا ماسة، لقد استيقظت منذ قليل على طرقات أمي على باب الشقة. أخبرتني بأنها كانت تنام في الأسفل كي تؤمن البيت لأنها شعرت بالقلق، ولم ترد إيقاظي كي لا أقلق معها.
لم تعجب ماسة بمبررات إيثار لكنها ارتأت الصمت فقالت بهدوء: أخبرتك يا فيروز، لا داعي للقلق أبدًا بخصوص والدتك، هل نمت جيدًا؟
صمتت فيروز تستجمع أفكارها ثم قالت بخفوت: تمامًا مثل الصخرة. سقطت كالميتة حتى أيقظتني إيثار صباحًا بسبب طرقاتها على الباب واتصالها المتكرر بهاتفي.
قالت ماسة بهدوء بينما في داخلها تغلي غضبا: هذا جيد، سعيدة أنك بخير. إن أردت يمكن أن تأتي لتقيمي معي في فيلا عمنا حتى نعود سويًا.
_ لا أستطيع يا ماسة، فأمي تخاف عليّ ولن ترضى بذلك. ليس بعد كل ما فعلته لأجلي.
_ وما الذي فعلته لأجلك تحديدًا؟
سؤالها الساخر صفع أذن فيروز فتلعثمت وتهدج صوتها ثم حلّ الصمت دون أن تجد ما تجيب به. علمت ماسة أنها قست عليها بالسخرية من والدتها، لكنها لم تتمالك نفسها فتولت الإجابة على سؤالها بسخط أن والدتها لم تفعل لها ما يجب على أي أم أن تقدمه لأبنائها، ثم حين أفلت منها زمام التحكم بغضبها قررت أن تنهي المكالمة، خاصة حين وصلها صوت فيروز المضطرب والذي ينبئ عن بوادر انهيارها وهذا ما لم ترِده الآن أو فيما بعد.
انتابها إحساس مستمر بغرابة تصرفات فيروز مؤخرًا. شعرت بأنها ازدادت انطواءً وعزلة، وتلك اللهجة الغريبة من الانكسار جديدة عليها. ظنت السبب هو موت العم فقالت بغضب داخلي: لن أترك من فعلها يهنأ بفعلته! سأعرف من هو عاجلًا أم آجلًا وسأجعله يعرف أن الجاني سيأخذ جزاءه ولو بعد حين.
قالتها ولم تكن تدري بأنها تفتح أبواب الجحيم المغلقة منذ زمن، جحيم الشك وجحيم الطغيان!
***

الماضي لا يموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن