الماضي لا يموت.. الفصل الحادي عشر

0 0 0
                                    

الفصل الحادي عشر... هل تعرف حقًا؟

قرب الظهيرة جلست ماسة في غرفة جمانة التي بدت قلقة وهي تتطلع نحو جبيرة قدمها، تتساءل عن كيفية خروجها للشارع وقدمها بتلك الحالة. لوحت لها ماسة بيدها بلا مبالاة مخبرة إياها بأنها بأفضل حال ولا تعوقها عن الحركة، لكن جمانة المتشككة سألتها عن الدافع الملح لخروجها بينما قدمها بالجبيرة وخاصة أن اليوم هو السبت، إجازة من الجامعات كما تظن. هزت ماسة رأسها بموافقة ضمنية ثم عادت لتخبرها بمراوغة بأن لديها جلسة محاكمة تود حضورها والاستفادة من المرافعة فيها. حينها تعجبت لأن ماسة في الآونة الأخيرة لم تكن تحضر كثيرًا بسبب انشغالها، لكن ماسة أكدت بأنها تعمل في المكتب منذ عدة أسابيع.
كانت تكذب لكنها أملت ألا تكتشف جمانة ذلك. انطلت كذبتها على زوجة عمها التي شعرت بالقلق لأجلها فوبختها بلطف كي تهتم بنفسها، خاصة أن وجهها ازداد شحوبًا وظهرت الهالات السوداء تحت عينيها كعلامة واضحة على ارهاقها وعدم انتظام نومها، لكن ماسة تعللت بوجوب نزولها اليوم ثم بعد ذلك سترضخ لرغبات زوجة عمها الحنونة بأن تهتم بنفسها وراحتها، رافضة كل ما يقف بوجه تحقيقها السري الذي تجريه. رغم صعوبة خروجها بجبيرتها إلا أنها تحاملت على الألم في سبيل تحقيق الغاية.
_ماسة حبيبتي، أريحي نفسك قليلًا، وجهك شاحب كالأموات.
- الحياة لا تتوقف يا خالتي، لابد أن تسعي خلف كل ساعة تقضينها بها.
_ لقد أحسن مراد زرع مبادئه داخلك، أشعر أن مراد هو من يحادثني.
- أما أنا فلم أعد أعرف من أكون! في داخلي اضطراب وتخبط يكاد يوصلني للجنون وأنا أسأل نفسي دائمًا ماذا لو؟ (همست ماسة باقتضاب حزين)
_ ماذا لو تحققت كل أحلامنا؟ ماذا لو أخذنا من السعادة ما يشبعنا طوال العمر؟ هل تظنين أننا سنكتفي؟ لا يا ماسة! الإنسان لا يكتفي أبدًا! حتى وإن نال كل ما تمناه، فسوف يعلو سقف أمانيه وطموحاته وسيظل طوال عمره يسأل ماذا لو؟ ونحن لا نرضى بهذا بل نقول الحمد لله فقضاؤه غالب، أليس كذلك؟
وافقتها ماسة قبل أن تنهض لتخرج من الغرفة فلاحقتها جمانة بالسؤال: أما زلت مصرة على الخروج يا ماسة؟ ارتاحي في فراشك اليوم وسوف أرعاك حتى تستعيدين بعضًا من رونقك.
ضحكت ماسة بسخرية قائلة: لا تتعبي نفسك فوجهي كما هو المعتاد، شاحب وسيبقى هكذا، وجه الجثة.
قالتها بغيظ وكأنها تذكرها بذلك اللقب البغيض إلى قلبها فتغضنت ملامح جمانة قائلة بتأنيب:
لا تدعي أحدًا يهز ثقتك بنفسك يا حبيبتي! لست شاحبة بتلك الطريقة السيئة! أراك جميلة كما أنت، وكلتانا تعلم أن إيثار تحاول دائمًا إشعارك بالدونية. لا تدعيها تكسب ذلك التحدي! أنت رائعة وإياك أن تصدقي إهانتها لك.
باغتتها ماسة بالسؤال: خالتي جمانة، أخبريني عن علاقتك بإيثار طوال فترة معرفتكما ببعضكما. أريد أن أعرف سبب اختيار والدي لها دونًا عن كل النساء، فالنساء يفهمن بعضهن جيدًا.
تنهدت جمانة وغرقت في صمت دام قليلًا وكأنها تسترجع شيئًا ما بذاكرتها قبل أن تقول باختصار:
كانت تعمل في المستشفى التي كنت أتابع فيها حالتي الصحية. بدت لطيفة مع الجميع وخصوصًا أنت. محمود والدك رحمه الله كان يمر بأزمة نفسية شديدة ولم يستطع رعايتك كما يجب في ظل حياته الممتلئة بالأعمال، وكان في ذلك الوقت يميل للبحث عن زوجة ترعاك في غيابه. استطاعت إيثار بلطفها وكل ما تملكه الأنثى من أسلحة خفية أن تجعل والدك يميل لاختيارها زوجة بالرغم من معارضة مراد تلك الزيجة.
سألت ماسة بفضول: لماذا كان عمي يعارض تلك الزيجة؟
تنهدت جمانة لتقول بحيرة: لست أدري تحديدًا السبب خلف معارضته، لكنه كان يقول إنها صائدة فرص.
- صائدة فرص؟!
هكذا كانت نظرة مراد الدقيقة لما خلف البشر. يحب تحليل شخصية كل من يراه أو يتعامل معه. كان دائمًا ما ينعت إيثار بأنها علقة ممتصة تعيش على عرق الأخرين. أنا لم أرَ منها ما يسيء لي شخصيًا لكنني شعرت أنها تتعامل بتحدٍ مع وجود مراد، تتعمد أن تضايقه أثناء وجوده، تأخذ عمر لتلاعبه وهي تعلم بأن ذلك يضايق مراد بشدة.
اتسعت عينا ماسة، سألت بفضول بينما تعود لتجلس قربها وكأنها نسيت سبب خروجها:
لماذا كان يتضايق من ملاعبتها لعمر؟
تنهدت جمانة مرة أخرى ثم قالت بحذر: لا أدري يا ماسة! لكن كل ما كانت تفعله كان يضايق عمك بشدة، وكأنه يعرف عنها شيئًا ويكرهه فيها.
صمتت لتفكر قليلًا قبل أن تقول: حتى ليلة وفاة والدك عندما أخبرتنا أنه مات كان يغلي غضبا قائلًا إنه لن يرحمها وسوف يفضح أمرها في كل مكان.
سألت ماسة بصدمة: يفضح أمرها بخصوص ماذا؟
قالت جمانة بغمزة مصاحبة من عينيها: بخصوص موضوع الإرث كما تعلمين.
صمتت ماسة تحدق في وجهها بينما تفكر بكلامها عن الإرث؛ فقد علمت بعد وفاة والدها أنها لا تملك سوى نصف المنزل الذي تقيم فيه، وحين أخبرها المحامي بذلك بكت يومها بكاءً مريرًا ليس لأنها لم ترث شيئًا، إنما بكت والدها الذي استطاعت تلك المخلوقة الوضيعة أن تجعله يظلم ابنتيه بذلك الشكل المريع وهو الذي عاش طوال عمره حكيمًا لا تحركه أهواؤه ولا يرتضي الظلم، لكن عمها حينها أمسك يدها قائلًا:
أنت ابنتي يا ماسة، لا تقلقي حبيبتي بخصوص مستقبلك فهو مؤمن تمامًا.
لم تسأل عمها عن معنى كلامه لكنها علمت منه فيما بعد بأنه قد تشارك مع والدها بأحد المشاريع وأنها سوف تجنى أرباح شراكتهما، ومنذ ذلك الحين يصلها مبلغ مالي ثابت، ليس ضخمًا لكنه يكفل لها معيشة مريحة. كانت تدفع بما يفيض من مصاريفها الشخصية إلى حساب توفيري كي تضمن أن يكون لها نقودًا كافية إن أرادت ذات يوم إجراء تغيير في حياتها، لكنها أرجأت الفكرة حتى تضمن أن تكون فيروز بخير. أصبحت تتنقل بين فيلا عمها وبين منزل والدها الذي آل لإيثار، يعززها أنها لن تستطيع طردها منه.
لم تستطع السير دون الالتفات خلفها تاركة فيروز لمصير تعتبره ماسة مجهولًا، قررت البقاء حتى تضمن أنها ستكون بخير وحينها ربما استطاعت ماسة المضي قدمًا بحياتها بعيدًا عما يربطها بإيثار كما تحلم دائمًا.
قطع أفكارها صوت جمانة المحمل بالعاطفة: مراد دائمًا ما رأى الجانب غير المرئي للأشخاص، أما أنا فلم أرى منها ما يسوء؛ فهي مجاملة، تتعامل بأناقة ودبلوماسية مع الجميع، تظهر حبها لوالدك علنًا ولا تخجل من ذلك. والدك كان متحفظًا حيال تصرفاتها لكنه كسائر الرجال، لابد أنها خلبت لبه بكل تلك الأنوثة المحيطة بها. كانت تتصرف كما يفترض لأنثى أن تكون.
ضحكةٌ مقتضبةٌ من ماسة أخرجتها من ذكرياتها لتنظر نحوها جمانة بفضول. هزت ماسة كتفها لتقول بسخرية: كانت تتعمد فعل ذلك أمامي بالرغم من رفض والدي له، وكأنها تظن أنها ستثير حنقي بذلك التصرف.
قالت جمانة بهدوء مخفية امتعاضها من جرأة إيثار: لها طريقتها في التعامل مع من تحب كما اعتادت أن تخبرني. لست ألومها وإن لم أتفق معها!
باغتتها ماسة بسؤال آخر خطر لها: هل كنت تعانين من مشاكل بالحمل يا خالتي؟
اهتزت تنظر نحوها بتوتر غير مبرر وسألت بحذر: لماذا تسألين؟
قرأت ماسة قلقها لكنها تظاهرت بالبراءة قائلة: لا شيء! لقد استوقفني قولك إنها كانت تعمل في المستشفى التي كنت تتعاملين معها، وأنا أعلم بأنها مستشفى متخصصة في الحمل عن طريق التلقيح الصناعي، لذا سألت.
كانت مقامرة غير مضمونة الإجابة، احتسبتها ماسة كمحاولة لتعرف شيئًا تجهله إذ لم تكن تعرف بتاتًا مكان عمل إيثار السابق، وهل هو نفس المستشفى التي وجدت شعارها على تلك الورقة المخبأة في غرفتها أم لا؟
قالت باقتضاب وملامحها تشي بالتوتر الجم: بعض المشاكل البسيطة كأي زوجين لكن لا شيء خطير. حدث الحمل لكنني فقدت رحمي بنزيف شديد عند الولادة...
ثم بترت كلامها وكأنها تمنع نفسها من الاسترسال، لكن ماسة المشغولة بفضولها سألت: أخبريني كيف كان حملك بعمر؟
رمقتها جمانة باضطراب لتقول لها بذكاء محاولة عدم الإجابة: أليس لديك موعد في المحكمة تلحقينه؟
أجابت ماسة بسماجة: لقد أعجبتني حكاياتك. لو استمر اليوم بيننا بسرد كل ذكريات الماضي فلست أمانع عدم الذهاب.
دفعتها ممازحة: لا أستطيع أن أقضي يومي كله أتحدث، سأصاب بالدوار! هيا انهضي واذهبي لعملك!
علمت ماسة بأنها خسرت الفرصة للحصول على بعض الإجابات لأسئلتها العالقة فنهضت تضحك ضحكة مصطنعة: حسنًا! سأذهب للعمل وأنا أحمل شغفي معي، وذلك لأنك لم تتعطفي عليّ بإخباري بعض حكايات الماضي الجميلة.
تبسمت جمانة لطريقة ماسة في استعطافها لكنها قالت بتصميم: اذهبي يا ماسة ودعي ذلك الشغف عنك، فلا فائدة ترجى من نبش الذكريات.
خرجت ماسة من الغرفة وما إن أصبحت خارجها حتى تجهمت ملامحها تفكر بأسى بأنها لن تعلم شيئًا مما تريد بالطريقة البسيطة. يبدو أنها سوف تعاني كثيرًا قبل أن تتوصل للحقيقة، وكما يبدو فهي حقيقة مريرة سعى الجميع لإخفائها ودفنها في الماضي.
ولم تعلم جمانة أن ماسة لن تذهب للعمل بل هي ذاهبة لفعل ما نهتها عنه، نبش الذكريات وإزاحة رماد السنين عنها، وسوف تزكم الأنوف رائحة الماضي!
***
عندما وصلت ماسة إلى مبنى المحكمة، ترجلت من سيارة الأجرة لتتحرك نحو المبني بوجه شارد مهموم، تشعر بأنها عاجزة عن معرفة ما يُسكن عقلها الثائر ويريح جنون أفكارها. اتجهت ببطء نحو مدخل البناية دون أن تنتبه إلى تلك الوجوه الكالحة المحيطة بها، لكنها ما لبثت أن امتقع وجهها لدى رؤيتها. سيدة مكبلة بالأصفاد في يد شرطي بدين، كانت المرأة تتطلع نحو العيون المحدقة بها بوقاحة وكأنها تقول لهم أنها لا تأبه بهم، أما ماسة فما زالت تشعر بالاضطراب كلما رأت شخصًا ما يفقد حريته بأصفاد أو دونها.
ظلت تتطلع نحو الأشخاص المكبلين، تحاول أن تتخيل حكاية تناسب هيئة كل شخص وتعبيرات وجهه.
فمثلًا تلك السيدة بملامح وجهها الشرسة ونظراتها الوقحة تعطي انطباعًا بأنها سيدة مشاجرات. ربما هي إحدى أولئك النسوة اللاتي يمتهنن (البلطجة) كأسلوب للمعيشة. أما هذا الرجل البسيط بملامح وجهه الحزينة الكسيرة فربما يكون سبب احتجازه خارج عن إرادته أنه عاجز عن تسديد دينه.
أشاحت بوجهها تشعر بالقلق وبوخزة خفيفة في معدتها لا تدري سببًا لها، ربما لأنها ما زالت حساسة تجاه التنمر من الأخرين، فما زالت ذكريات تنمر إيثار عليها أثناء طفولتها عالقة في ذهنها إلى اليوم وكأنها تأبى مفارقة خيالها، وكل ما نمر به في طفولتنا يظل أثره عالقًا بأرواحنا، يصر على تشويه نقائها كلما كبرنا واشتد عودنا فيدمينا كأول مرة وكأنه لا يخفت أو يقل بتقادم الزمن.
لم تلمح تلك العينين المراقبتين لها باهتمام، تحاول سبر أغوارها وقراءة تعبيرات وجهها المبهمة بتمعن، فقد شعر مالك بأن خلف تلك الهيئة الصلبة اللا مبالية التي تدعيها ماسة، هناك ماسة أخرى مختلفة؛ ربما أكثر هشاشة وحساسية تجاه الأخرين. ما إن اقتربت من مكانه حتى تنبهت له فتوجهت نحوه بخطوات متباطئة شاردة. عيناها تحملان سؤالًا متشككًا استطاع قراءته بسهولة ليجيبها بغمزة سخيفة من عينيه قائلًا لها: اتبعيني لتعرفي!
تبعته متسائلة بقلق خفي: هل هناك جديد؟
قال بغموض: لنحاول أن نخلق جديدًا!
_ ماذا تقصد؟ (استفهمت منه)
- لديك كل الوقت لنعرف جديدنا سويًا فقد استطعت حجز المكان لما بعد الظهيرة كاملًا.
قالها ممازحًا. لم تفهم ما يقول لكنها آثرت الصمت واتباعه حتى تفهم فلم تحب إظهار غبائها للغرباء.
ما إن وصلا غرفة ملفات الأرشيف حتى فوجئت بشخص يخرج منها قائلًا بصوت خافت:
لديك ساعة منذ الآن ثم سأعود.
دلف مالك تتبعه ماسة التي تطلعت نحو الرجل بحيرة لكن الرجل كان يتطلع حوله بنظرات قلقة ثم ما إن دلفت داخل الغرفة حتى تقدم نحو الباب ليغلقه فجأة من الخارج عليهما.
صدمت ماسة فتراجعت نحو الباب متسائلة بصدمة: ماذا يفعل؟
لكن مالك قال محذرًا: لا تصدري صوتًا!
سألت بجزع: لماذا أغلق الباب علينا من الخارج؟
أجابها بتململ: كي يدعنا نتصفح الملف بحرية وراحة.
استمرت بالسؤال: ولِمَ يحتاج حبسنا في الداخل؟
تنهد قبل أن يقول بملل: ماسة، ما بك؟ وددت أن تحضري معي لقراءة ملف قضية قديمة، هل ستظلين طوال اليوم تسألين لمَ نحن محتجزان في غرفة ملفات في محكمة، والنبش في قضايا لا تخصنا؟ ما بالك اليوم؟ هل تريدين أن نكمل مهمتنا أم أهاتفه لنخرج وننهي هذه المهمة المقيتة؟
أصرت بعبوس: وهل يشترط احتجازنا هنا بين كل تلك الملفات الورقية العفنة لنكملها؟
استدار بملل ليتجه نحو ملف معين موضوع على الطاولة فيتناوله قائلًا لها: إن تفتق ذهنك عن خطة بديلة أرجوك اعلميني! وحتى ذلك الحين سأهتم بقراءة هذا الملف وحدي أو يمكننا فعلها سويًا إن توقفت عن أسئلتك الوجودية تلك وساعدتني على الانتهاء سريعًا.
جلس على المقعد ثم فتح الملف ليبدأ في تصفحه فاندفعت ماسة للاقتراب بخطوات متلهفة وصوت عصاها تطرق الأرض بقوة قائلة وقد نسيت حذرها وتشككها: هل هذا هو الملف؟
الحماسة أعمتها عن الألم الكامن في قدمها بل كانت مخدرًا لها فلم تشعر بألم حركتها المعاقة بتلك الجبيرة المحيطة بقدمها. اقتربت لتسحب مقعدًا مقابلا له فتجلس عليه وقد غلبها حدسها البوليسي قائلة: أطلعني على ما به.
وضعه على المكتب ليفتحه كليًا أمام عينيها فسحبت منه ورقة وحذا حذوها.
انشغل كلاهما بقراءة كل الأوراق التي كان الملف يحتوي عليها بعد أن قام مالك بتوزيع قسم منها بينهما كي يستطيعا تصفحها جميعها قبل أن ينفد منهما الوقت، لكن ماسة بتفكيرها البديهي أخرجت هاتفها وقامت بالتقاط صور حصتها من الأوراق، ما دفع مالك ليحذو حذوها مبتسمًا بتهكم:
أفضل القراءة الورقية لكني لا أمانع أن أجاريك فيم تفعلين.
كان الملف ضخمًا يحتوي على عدة أسماء للضحايا الذين انضموا للمطالبة بحقوقهم من المركز جراء الاحتيال عليهم. الأسماء المذكورة لم تكن معروفة لهما ولا يوجد اسم عمها أو زوجته ضمن الضحايا.
كل الشكاوى كانت تتضمن قيام الطبيب بمنح عيناته لإخصاب الضحايا من السيدات لكن هناك شكوى وحيدة مختلفة، الشكوى تخص سيدة تتهم بها ممرضة في المركز بأنها حاولت إيهامها بأنها لن تستطيع الإنجاب مرة أخرى، والمفارقة العجيبة أنها كانت تعرض عليها التبرع ببويضة مقابل مبلغ مالي كبير كي تستطيع أن تحمل طفلًا لطالما اشتاقت لحمله بين ذراعيها.  كادت الضحية أن تصدق لولا أن تصادف أنها أجرت فحصا في مكان آخر فأخبروها بأنها سليمة وليس لديها مشاكل تمنعها من الإنجاب، فاتهمت المركز بمحاولة النصب وسعيه للحصول على أموالها بشكل غير قانوني.
استوقف ماسة ذلك البلاغ المقدم لاختلافه عن باقي البلاغات. لم يكن يحمل سوى اسم السيدة المشتكية وعنوان سكنها آنذاك أما عن اسم الممرضة التي أوهمتها بذلك الهراء فلم يكن موجودًا.
قالت ماسة لمالك وقد التمعت عيناها بالإثارة: هذه شكوى غريبة تقدم ضد المركز، لكنها منتقصة ولا يبدو أن أحدًا التفت إليها أو أخذها على محمل الجد.
التهم مالك السطور بعينيه في صمت قبل أن يرفع عينيه اللامعتين نحو ماسة قائلًا:
هل تظنين أن ذلك الاتهام صحيحًا؟
فكرت بتأني قائلة: كل شيء جائز. دعنا لا نغفل عن أي تفصيل نجده فربما يكون مفتاح خيط لما يحدث.
هز مالك رأسه ثم أخرج دفترًا صغيرًا من حقيبته فدون به العنوان قائلًا: إن حالفنا الحظ وجدنا أنها لم تغير عنوان مسكنها.
مر الوقت سريعًا دون أن ينتبه كلاهما وهما منهمكان في تصفح أوراق تلك القضية العجيبة، قضية تحكي بين ثناياها أغرب ما يمكن أن تتوصل له النفوس البشرية من الشر والطمع. تحمل أكبر جرم يمكن ارتكابه بحق البشرية، جريمة اختلاط الأنساب التي حرمها الشرع بكل المقاييس وفي كل الأديان لتستحلها نفوس طامعة بأرباح دنيوية زهيدة وساعية خلف نجاحات شكلية مصيرها الزوال حتمًا.
فوجئ مالك وماسة بالباب وهو يُفتح ويطل عليهما منه موظف الأرشيف المتواطئ ليسأل بحذر:
هل انتهيتما؟
قال مالك بامتنان: نعم انتهينا! سنرحل الآن.
نهض تتبعه ماسة مقتربًا من الرجل، قائلًا بحرارة: أشكرك على تلك الخدمة التي قدمتها لنا. لن ننسَها!
خرج خلف ماسة متمهلًا بخطواته سامحًا لها بالتحرك حثيثًا، وحينما أصبحا خارج مبنى المحكمة توقفت ماسة لتسأل بترقب: والآن، ماهي الخطوة التالية؟
تطلع مالك لساعة يده مفكرًا معها بصوت عالٍ: ما زال الوقت مبكرًا ولذا يمكننا الذهاب لنبحث عن السيدة وفاء صاحبة الشكوى المختلفة؟
تساءلت ماسة عن مدى قرب عنوانها فأخبرها أن العنوان يسهل الوصول إليه مع قليل من الحظ إن كانت الطرقات غير مزدحمة، لذا أومأت برأسها موافقة على فكرته. ثمة غموض يحيط بتلك القضية تحتاج ماسة لفك طلاسمه بسرعة. الوقت يمر وتفكيرها لم يهدأ وحماسها ازداد اشتعالًا كلما اقتربت من كشف غموض خيط من خيوطها، لكن يبدو أن القضية تصر على إغراقها بتفاصيل مبهمة لا تعرف لها آخرا.
اتجه مالك نحو السيارة المصفوفة قائلًا بإحراج: أحضرت سيارتك كي أوصلك بها إلى الفيلا ثم أتركها وأعود بسيارة أجرة. أعتذر لعدم إخباري إياك بما انتويته.
قالت ماسة بسرعة تزيل عنه حرجه: لا عليك! أعلم بأنك وعدتني بإحضارها لي.
ما إن استقرت في السيارة حتى انطلق مالك نحو العنوان الذي كتبه. كان العنوان لأحد الأماكن القديمة في العاصمة والتي من غير المؤكد أن تظل صاحبة الشكوى مقيمة فيه بعد مرور عشر سنوات أو أكثر، لكنها كانت محاولة مستميتة من قبلهما للحصول على بصيص من النور يهديهما في طريق تحقيقهما.
ما إن وصلا العنوان بعد عناء شديد بسبب ازدحام العاصمة في ذلك الوقت المعروف بوقت الذروة حتى كادت ماسة تنفجر من الحنق والملل. أعلنت تأففها بعبارات غاضبة:
أشفق على هؤلاء الذين يقضون حياتهم بين غبار عوادم السيارات، لهم الله!
تبسم مالك من قولها فرمقته بملل: هل قلت ما يجعلك تبتسم؟
قال وقد اتسعت ابتسامته: كلامك يشبه كلام شخص عزيز على قلبي. جدتي أطال الله في عمرها دائمًا ما تقول لي هكذا "أشفق على من يعيشون جو المدن الملوث بكل هذا الغبار، لا أجمل من الهواء النقي الذي خلقه الله لنا!"
تبسمت ماسة تلقائيًا لتقول بمشاكسة: إذًا أنا مثل جدتك! ربما أحمل نفس حكمة كبار السن!
مازحها قائلًا: سأكتفي بالحكمة فقط ولن أذكر العمر.
انتهى الحوار بينهما عندما وصلا العنوان المنشود، بناية قديمة في منطقة قديمة مزدحمة. عندما صعدا البناية التي تنقل فخامة بنائها فيما مضى أما الآن فقد أصبحت متهالكة تحمل عبق الزمن، قالت ماسة بانبهار: تمامًا مثل الأفلام القديمة!
وافقها مالك قائلًا بينما يدور برأسه يتأمل البناية من داخلها: أحب الأماكن القديمة، تحمل لي نفحات من زمن تمنيت العيش به.
طرق باب الشقة بحذر مرة فلم يصله رد، أعاد الطرق مرة أخرى بشكل أقوى دون مجيب. تقدمت ماسة لتضغط الجرس بإلحاح فقال مالك: توقفي يا ماسة! ربما ليس هناك أحد في الشقة الآن.
عندما استدار كلاهما شاعرين بخيبة الأمل ليستخدما المصعد القديم هبوطًا، وجدا عينين تحدقان بهما بتعجب. كانت السيدة المسنة تتطلع نحوهما بفضول من خلف باب شقتها المقابل قبل أن تسأل عمن يريدان، فأجابها مالك بهدوء أنه يبحث عن السيدة وفاء. عندها خرجت من خلف الباب تقف أمامه وقد عقدت حاجبيها تسأل بفضول أكبر عن هويتهما تحديدًا. حينها سألت ماسة بلهفة:
هل تعرفينها؟
أجابت العجوز بلؤم: هذا يعتمد على ما تريدانه منها.
اندفعت ماسة بلهفة طائشة تحمل قلة خبرتها: صدقيني خيرًا، لا نريد منها سوى كل الخير!
لكن العجوز عادت تسأل بإلحاح عن سبب رغبتهما بمقابلتها، فتطلع كلًا من ماسة ومالك نحو بعضهما قبل أن يقول مالك بهدوء: نريدها بخصوص شيء من الماضي نبحث عنه.
تفاجأ كلاهما من ردة فعلها إذ حدقت بهما قبل أن تستدير قائلة بفتور: لست أعرفها!
عادت إلى داخل الشقة مرة أخرى وهمت بإغلاق الباب فأسرع مالك خلفها قائلًا:
انتظري يا سيدتي، هل تعرفين ما نبحث عنه؟
توقفت لبرهة قبل أن تستدير قائلة لهما: لا أعرف ولا أهتم بالمعرفة فالسيدة وفاء لم تعد تقيم هنا، لقد انتقلت منذ عدة سنوات.
قال مالك بإصرار: لكنني أصر أنك تعرفين ما نبحث عنه. صدقيني، نحن نريد بعض الحقائق ليس إلا.
فجرت السيدة العجوز في وجههم القنبلة قائلة: في آخر مرة خدمت أحدهم كادت وفاء أن تفقد ابنها الوحيد، لذا فأنا أخبركما بأني لا أعرف مكانها.
تدخلت ماسة برجاء قائلة: هل كان أحدهم يسعى خلفها؟ أخبريني، من أخبرتِ عنها.
قالت العجوز بلا مبالاة: يمكنك الذهاب يا فتاة، فلست أريد أن يأتيني تهديد بفقدان حياتي أيضًا. يبدو أن ذلك الماضي العفن لن يدعها وشأنها.
تقدمت ماسة تعرج بقدمها لتتحدث باستعطاف: لكن ألا ترين أننا لن نضرها بشيء؟! أنا أبحث عن بعض الحقائق فقط.
مطت السيدة شفتيها ثم نظرت لقدم ماسة بتعاطف ظهر في عينها. أعقبت بخفوت:
نعم أستطيع أن أخمن بأنك غير قادرة على إيذائها، لكنني أيضًا تخيلت بأن السيد مراد لن يؤذيها عندما أتى سعيًا خلف بعض الحقائق.
سألت ماسة بتوتر مذعورة: مراد؟ مراد من؟
تطلعت العجوز لوجه ماسة الشاحب بقلق قبل أن تقول: قدم لي نفسه على أنه رجل أعمال اسمه مراد خطاب و...
لكن ماسة حطت على الأرض فجأة دون سابق إنذار.
****

الماضي لا يموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن