الفصل التاسع... الموت يأتي مرة واحدة.
عندما وصلت ماسة إلى الغرفة المخصصة لها وجدت فيروز تجلس على حافة الفراش الوثير الذي يتشاركانه في غرفتها الأنيقة التي اختارت أساسها بنفسها حينما أتت في أولى سنوات الجامعة لتصبح شبه مقيمة عند عمها طوال فترة الدراسة. ما إن لمحت فيروز دخول ماسة إلى الغرفة حتى قفزت تجري نحو الحمام لتغلق الباب خلفها بعنف. توجهت ماسة نحو الباب قائلة بقلق: فيروز، ما بك؟
كانت قد لمحت ملامح وجهها الشاحب وارتجاف شفتيها كأنها على وشك البكاء.
أتاها صوت فيروز مختنقًا: لا شيء يا ماسة أنا بخير، فقط أحتاج الخلوة قليلًا.
قالت ماسة بإصرار: لا لست بخير يا فيروز فأنا أعرف متى تكونين بخير ومتى لا تكونين! الآن أحتاج أن أعرف ما بك، وصدقيني سأكون متفهمة لما تمرين به فوق ما تتخيلين.
تحشرج صوت فيروز فبدا أكثر اختناقًا: أعلم، فقط دعيني لحالي لبعض الوقت وسأكون بخير.
لم تجد ماسة ما تفعله فقالت بتفهم: سأكون خارج الغرفة لبعض الوقت، خذي الوقت الذي تشائين لأني حين أعود سيكون بيننا حديث طويل.
قالتها ثم خرجت من الغرفة وقد شعرت بأن الظروف مواتية كي تنفذ ما كانت تخطط له منذ البداية، توجهت نحو غرفة عمر بحذر تراقب الطريق فلم تجد أحدًا من الخدم أو من المقيمين في الفيلا وقد كان وقت القيلولة حيث يعم الهدوء. مدت يدها تحرك مقبض الباب فوجدت الغرفة غير موصدة. دلفت بحذر لتغلق خلفها الباب ثم توصده من الداخل بالمفتاح، لا تريد أن يفاجئها أحد بالدخول أثناء مهمتها السريعة أو تفاجئها عودة عمر دون سابق إنذار.
استدارت تتطلع نحو الغرفة المرتبة باهتمام. كانت كما اعتادت على رؤيتها تمامًا، منظمة ونظيفة. اتجهت بخطواتها البطيئة نحو الفراش فرفعت الوسائد تبحث عما يلفت أنظارها. وجدت أن الأوراق التي رأتها من قبل ليست في مكانها. تبسمت هامسة بسخرية: بالطبع، فهو ليس مغفلًا ليتركها تقع تحت أيدي من يدخل الغرفة!
رتبت الفراش كما كان مرة أخرى ثم استدارت نحو المكتب الجانبي. الأدراج لها مفاتيح لكنها لم تر عمر يغلقها من قبل. توجهت نحوها تأمل ألا تكون مقفلة لكن رجائها خاب حين جربت فتحها الواحد تلو الأخر ففُتحت جميعها ماعدا الأخير. بحثت في الأدراج المفتوحة فلم تجد فيها ما تريد. أعادت ترتيبهم مرة أخرى ثم توقفت عند الدرج الأخير، تنظر إليه بعجز وقد تأكدت بأنه يحوي سرًا لذا أبقاه مغلقًا.
أخذت تفكر، أين تستطيع إيجاد المفتاح؟ أملت بأنه تركه خلفه في الغرفة قبل أن يغادر، لذا نهضت واتجهت نحو خزانة الملابس تفتشها بحذر كي لا تفسد ترتيبها. أخذت ترفع الملابس المطوية بعناية فتنظر تحتها ثم تعيدها مرة أخرى كما كانت، وبينما كانت تعيد الملابس لأحد الرفوف سقط شيء ما على الأرض.
وضعت الملابس بحذر ثم مالت تتناول ما سقط لتجد أنه مألوف، حلية ذهبية تحمل حرفي «F وO» فشهقت بصدمة غير مصدقة. تعرف هذه الحلية خير المعرفة، بل وسبق أن سخرت من صاحبتها لأنها توقعت أن حرف "o" يشير نحو عمر خصيصًا. تطلعت نحوها بذعر وقد تجمد تفكيرها. هل وجود تلك الحلية داخل ملابس عمر المطوية تعني شيئًا لم تعرفه من قبل؟ تأكدت بأن هناك لغزًا خلف وجودها هنا وفي هذا المكان بالذات. أخذت الحلية وأسقطتها في جيب تنورتها ثم أكملت ما كانت تفعله بشرود فعقلها مشتت يكاد ينفجر من التفكير.
لم تجد شيئًا آخر ذي قيمة فأغلقت الخزانة بعد أن تأكدت من ترتيب الملابس كما كانت، ثم استدارت تسير بخطىٍ بطيئة تتحامل على ألم قدمها الذي كان قد اشتد، ربما لأنها لم تنفذ تعليمات الطبيب عن الراحة.
حينما وصلت باب الغرفة كانت قد بدأت تلهث وتفقد حذرها. فتحت الباب لتخرج منه سريعًا فوجدت إيثار في الخارج _وكانت على ما يبدو في طريقها إلى غرفتها المجاورة_ تتطلع نحوها بدهشة. عقدت ماسة حاجبيها بضيق ودون أن تنبس شفتاها بكلمة أغلقت الباب ثم استدارت جهة غرفتها في الممر المقابل، لكن صوت إيثار الساخر لاحقها بحقارة: هل أصبحت تتسللين لغرف الشباب الآن؟ ليت والدك كان موجودًا ليرى كيف استطاع تربية ابنته!
تصلب ظهرها وسرت القشعريرة فيه، ودمائها تغلي بالغضب من حقارة العبارة الموجهة نحوها، وخاصة عند ذكر والدها بمثل تلك الطريقة المنحطة، ورغم ذلك استدارت ببطء ترمقها بنظرة ساخرة قائلة:
وهل يا ترى لو كان والدي موجودًا كنت ستخبرينه عن كيفية قضائك أغلب وقتك في الخارج؟
انقبضت ملامح وجه إيثار قائلة من بين أسنانها: أنا أرملة ومن حقي أن أفعل ما يحلو لي، أما أنت فلا تجعلي من نفسك قديسة وأنت ترتمين بين أحضان الشباب هنا وهناك دون رابط شرعي.
أوجع الكلام ماسة بصميمها لأنها لم تفعل أبدًا ما يشين، ثم تأتي هذه الحرباء وتتهمها بما يستوجب جريمة دفاع عن الشرف، لكنها تمادت باستفزاز إيثار فضحكت بسخرية مشيرة نحو غرفة عمر:
اذهبي وفتشيها بنفسك لتري مدى صدق كلامك المثير للقرف، قاطن الغرفة غير موجود بها في الوقت الحالي، ولا يشمل معنى الارتماء في أحضان الشباب في قاموس الحقيرات على دخول الغرف الفارغة كما أظن!
ثم عادت لتكمل طريقها قائلة بسخرية مريرة: إن كان من شيء خاطئ فعله والدي ذات يوم في حق نفسه فهو الزواج بك يا إيثار، ولا تظني بأني لا أعرف كل ما فعلتِه!
سقطت أرضًا فجأة مع جذب إيثار العنيف لذراعها، قائلة بغضب أسود:
وما الذي تظنين أنك تعرفينه عني؟
تكومت ماسة على الأرض وعكازها الطبي قد طار بعيدًا عنها جراء سقوطها المفاجئ. قدمها السليمة ملتوية أسفلها والأخرى التي في الجبيرة ممددة بوضع زاد ألمها. رفعت عينيها تنظر بغضب أعمى نحو إيثار، حفزته تلك الوخزات المؤلمة التي اندفعت في قدمها كأنها صاروخ ناري حارق قائلة:
كيف تجذبينني هكذا؟
لكن إيثار المندفعة بغضبها مالت لتواجهها قائلة بفحيح كالأفاعي: ما الذي تظنين أنك تعرفينه عني؟
ارتسمت على وجهها السخرية المبطنة بالحقد الأعمى والتي لطالما استطاعت ماسة التحكم بها من قبل، لكن على ما يبدو بأن الضغوط التي تعرضت لها مؤخرًا دفعتها لتظهر ما استطاعت إخفائه كل تلك السنوات!
قالت بصوت مرتفع أقرب للصراخ: أنت تعرفين من أنت تحديدًا، لذا لا داعي لأن تتحفي أذنك بمواصفات أنت تعرفينها بالفعل عن نفسك، ولا تجبريني على ذكرها؛ فمن عاب ابتُلي!
دفعتها إيثار بعنف وسحابة من الارتياح الغريب عبرت وجهها لتنهض قائلة بتشفي:
أنت شخصية حقودة يا ماسة، دائمًا عرفت ذلك. تظهرين الدماثة واللطف وفي داخلك تتآكلين حقدًا وسوادًا. تكرهين كل من هو أعلى منك شأنًا، لذا فكلامك لن يؤثر بي بل يسعدني، أتعرفين لماذا؟
مالت نحوها مكملة بشماتة: لأنك حين تنظرين نحوي هكذا أستطيع أن أستشعر مدى غيرتك مني، وكم كنت تتمنين أن تصبحي مثلي ذات يوم، لكن هيهات!
استدارت لتغادر بشموخ لكن صوت ماسة الذي يقطر غضبًا ارتفع فجأة من خلفها:
لن أتمسك بتلك الفكرة مطولًا لو كنت مكانك، ففي الغد سيعرف الجميع حقيقتك.
تسمرت إيثار مكانها لبرهة ثم عادت لتواصل مسيرها مطلقةً ضحكة ساخرة مرتفعة، لكن ضحكتها خرجت مهتزة جوفاء. ضحكة غير واثقة وقلقة.
***
جلس رجل الأعمال فاروق حمدي على مكتبه يتابع بعض الأوراق المهمة الخاصة بعمله حين أتته مكالمة هاتفية على هاتفه الشخصي. ما إن رأى اسم المتصل حتى ابتسم بتلقائية ومد يده يلتقط الهاتف، يجيب الاتصال بحبور: مرحبًا حلوتي، ما أخبارك؟
أتاه الصوت الأنثوي المجهش بالبكاء: لست بخير يا فاروق، لست بخير!
سأل بقلق: ماذا حدث يا حبيبتي؟
عقد حاجبيه وهو يستمع للصوت الباكي، يأتيه من الطرف الأخر ليحكي له مشكلة ما دفعته للهتاف بقوة: لا تخشي شيئًا يا حياة القلب! لن يجرؤ أحد على المساس بك، صدقيني! أنت تحت حمايتي وحبي وداخل قلبي، ولن أدع أي شخص يمسك بأذى أو يكشف سرنا.
أنهى مكالمته ثم أخذ يفكر بضيق، كيف يحل تلك المشكلة التي تلوح في الأفق، وعلى الطرف الأخر كانت محدثته تبتسم بخبث شديد؛ فقد استطاعت أن تحكم قبضتها هذه المرة وأصبحت لها كل السيطرة على جميع قطع اللعب، وكأنها تنتظر فقط لتقول «مات الملك!»
***
دلفت ماسة غرفتها فوجدت فيروز مستلقية على فراشها تحدق في السقف في خواء، وما إن رأت ملامح وجه ماسة المحتقنة حتى خرجت من شرودها لتعتدل متسائلة بقلق: هل أنت بخير؟ ماذا حدث؟
تجاهلت ماسة سؤالها وهي تقترب منها بعينين تطلقان الشرر المستعر قائلة بسؤال واضح:
ما الذي بينك وبين عمر؟
بهتت فيروز وحدقت بها كأنها مجنونة فقدت عقلها لكن صوت ماسة الغاضب عاد يكرر بعنف:
هل تخفين شيئًا بينك وبين عمر يا فيروز؟
غصت فيروز بريقها وهزت رأسها نافية وما زالت الصدمة تكسو ملامح وجهها، لكن ماسة المندفعة بفورة الغضب والألم اللذين يفتكان بها داخليًا وخارجيًا دفعها لقول المزيد: إذًا أخبريني بأنك أنت من تكنين له مشاعرًا من طرف واحد وبأنه لا يبادلك إياها!
ارتجفت شفتا فيروز وقالت بصوت متقطع: أقسم لك ألّا شيء بيني وبينه، لِمَ لا يصدقني أحد؟
أغفلت ماسة شطر الجملة الأخير وهي تقترب منها بخطوات بطيئة حتى توقفت أمامها، ثم فتحت قبضتها لتسقط منها القلادة الذهبية في حجر فيروز قائلة بسخرية: أخبريني، أليست تلك الحلية تابعة لك؟ فحسب ما أذكر أنك أخبرتني بأنها هدية من صديقتك في عيد ميلادك الماضي، أم أنني واهمة؟
فتحت فيروز فمها بصدمة تتطلع للحلية الذهبية بعجز، ثم عادت ترفع عينيها لماسة بذعر وكأنها تستجديها بأن تفهم ما لا تفهمه هي بشأن نفسها. سألت بخوف: من أين حصلتِ عليها؟
ارتمت ماسة بألم جالسة بجوارها، قائلة بلهجة ساخرة: من غرفة عمر، إن كان المكان يعني لك شيئًا.
شهقت فيروز بصدمة مستفهمة: لكن كيف وصلت لغرفة عمر؟ لقد كانت مع...
بترت جملتها لتحتقن ملامح وجهها بشدة وتزم شفتيها بيأس، فاعتدلت ماسة متسائلة بقلق وفضول وقد نسيت غضبها للحظة: مع من؟
تطلعت فيروز نحوها بيأس ثم طأطأت رأسها للأسفل قائلة: لا أحد! لقد ظننت أنها سرقت من الغرفة حين لم أجدها.
سألتها ماسة بإصرار: من الذي تظنين أنه أخذها؟
قالت فيروز بمواربة وقد تجمعت حبات العرق على جبينها: ربما أحد الخدم، لا أدري!
تنهدت ماسة قائلة بقلق فعلي وقد علمت أن فيروز خائفة من المصارحة: فيروز، أنا إلى جانبك ولست ضدك! لِمَ لا تخبريني بما تخفينه داخل قلبك وعقلك؟
أصرت فيروز المتصلبة والمتلفتة بعينيها بعيدًا: لست أخفي شيئًا!
قررت ماسة أن تطرق الحديد وهو ساخن، من ثم استلمت زمام المبادرة قائلة بحذر: أنا أعلم أن عمر يعني لك شيئًا هامًا، هل أنا مخطئة إن كنت أريد أن أعرف إلى أي مدى تطور الوضع بينكما؟
أجابت فيروز بسخرية مريرة: إلى الحد الذي يضعني به في قائمة الأخوات كما سمعت منه. لا شيء بيننا يا ماسة، ليس هناك أي شيء! أبدًا لم يكن ولن يكون!
صمتت ثم عادت لتكمل بحسرة: أو ربما توجد فتاة حمقاء وهبت مشاعرها منذ الطفولة لشخص لم يبد لها اهتمامًا عدا كونها أخت الفتاة التي يحبها.
اقتربت منها ماسة قائلة بعطف: وربما تلك الفتاة الحمقاء ستكبر يومًا لتسخر من نفسها أن كانت تحمل مثل تلك المشاعر الساذجة في زمن لا يسمح بالحب والمشاعر النقية.
ثم أردفت بهدوء: أنت يا فيروزي لست بحمقاء، أنت فتاة نقية لم تستطع الدنيا أن تلوث براءتها بعد، ولا يوجد من يستحق أن تذرفي الدموع لأجله. كوني فتاة قوية ولا تهتزي لمرورك بأي محنة، وأنا أعلم بأنك تستطيعين.
تنهدت فيروز بإحباط: لست مثلك يا ماسة! لا أستطيع أن أخلق من ضعفي قوة. لو لم تكوني في حياتي لكنت أنهيتها منذ زمن، أنت لا تعرفين شيئًا عن حقيقتي أو عمّا أمر به.
نهرتها ماسة بقوة: حياتك أثمن من أن تهدريها بكل تلك الأفكار الحمقاء يا فيروز. لا أحد يستحق أن تنهي حياتك لأجله. أنا أعرفك جيدًا يا أختي، أنت فتاة صغيرة وجدتني دائمًا بصفك فتواكلت عليّ، لكن ما إن تسنح لك الفرصة فستعلمين كم أنك قوية.
ظلت فيروز ترمقها بصمت، تهتز وتنتفض وترتعش شفتاها بشدة كأنها على وشك البكاء. الأسى يغلف مشاعرها، أينبغي أن تخبر ماسة بكل ما تمر به أم تلتزم الصمت كدأبها مؤخرًا؟ كل تلك الأفكار كانت تدور في رأسها بينما عيناها تحملان غيومًا من الحزن والقلق والتوتر.
صمتت ماسة تراقبها بمحبة ثم عادت لتقول فجأة دون أن تنتبه لتلك المشاعر العاصفة التي تجول في عقل أختها: من أين حصلت على تلك القلادة؟ ولا تخبريني تلك القصة السخيفة عن صديقتك المقربة التي أحبت أن تهديك هدية قيمة تذكرينها بها، فوضعت أول حرف من اسمها جوار أول حرف من اسمك.
أجابت فيروز باستكانة: لكن هذا ما حدث حقًا، اسمها علا.
قالت ماسة بلؤم: وربما يكون اسمها عمر بدلًا من علا، أليس كذلك؟
اهتزت فيروز بغضب مفاجئ على غير عادتها وسألت بعنف: لم لا تصدقينني؟
تعجبت ماسة لانقلاب حالها لكنها أجابت ببساطة: ربما لأننا في زمن يصعب فيه حصول الفتيات الصغيرات على مبلغ مرتفع لشراء حلية ذهبية واهدائها لفتاة غريبة عنها كليًا، ألا ينافي هذا المنطق؟
تنهدت فيروز قائلة باستسلام وقد شعرت أنها مستنزفة كليًا: حسنًا! تخيلي ما تشائين وصدقيه، فمثلك مثل إيثار.
انعقد حاجبا ماسة لتقول بغلّ: لست مثل إيثار يا فيروز ولا تشبهيني بها أبدًا، أفهمت؟
ثم أكملت بسخرية حادة: مع اعتذاري إن كانت والدتك، فهو شيء لم تختاريه بنفسك.
الصمت من جهة فيروز دفعها لتخرج من دائرة غضبها قائلة لها بلهجة اعتذار: لا تحزني يا فيروز فليس بأيدينا اختيار ماضينا لكن بالإمكان أن نصحح مستقبلنا كما يحلو لنا، فلا تحملي نفسك ما لا تطيقين.
هزت فيروز الشاحبة رأسها بصمت دون أن تنطق مما دفع ماسة لتكمل:
أنا لست أعترض على حبك لعمر يا فيروز، ذلك الحب الخفي الذي نجحتِ في أن تكتميه داخل قلبك لسنوات لأنه لم يكن ملائمًا حينها أن تظهريه. اعتراضي فقط في حالة واحدة يا حبيبتي، لا تقللي من شأن نفسك أبدًا! كوني مترفعة عن كل ما يؤذيك، وإن كان حبك لعمر يؤذيك في صميم مشاعرك فاوئديه يا فيروز. انظري خارج حياتك الضيقة المعتادة. أنت في عامك الجامعي الثاني، قطيطة صغيرة تبحث عن الدفء والأمان. اجعلي نجاحك هو دفئك وأمانك يا حبيبتي، لا تستجديه من البشر! وإن كان ذلك يعني المزيد من الصمت والتظاهر بالقوة فأنا أؤيدك وأسير بجوارك حتى تقرري ما تريدين في حياتك فيما بعد. هل يناسبك ذلك؟
قالت فيروز بصوت مختنق: نعم يناسبني، أنت أروع أخت.
قالتها ثم ارتمت على ماسة تحتضنها ودموعها تغرق وجهها مما دفع ماسة للتأوه قائلة بألم:
وإن لم تنهضي من فوقي فسأكون أروع أخت ميتة.
ابتعدت فيروز مبتسمة من بين دموعها: آسفة إن آلمتك، نسيت أمر كاحلك.
ربتت ماسة على ظهرها قائلة: لا عليك حبيبتي.
صمتت ثم عادت تقول متفكرة كأنها تخاطب نفسها: يؤرقني شيء واحد فقط، كيف وصلت قلادتك لغرفة عمر؟
ظل سؤالها عالقًا في سماء الغرفة يبحث عن إجابة شافية بينما غرقت فيروز في حالة عجيبة من الصمت لكن ماسة المتألمة كانت قد غرقت في بحر النوم دون أن تنتبه لها.
***
مرّ النهار عاديًا دون أي مستجدات، فبخلاف اعتكاف ماسة في الغرفة غير عابئة بمظاهر العزاء في الأسفل أو بالضيوف الذين يحضرون ويذهبون. لم يكن هناك أي تغيير!
جاءها طرق على باب غرفتها مساءً مما دفعها للتذمر، وقد كانت جالسة تحدق في هاتفها بلا هدف يذكر كأنها تستجديه أن ينطق فيخبرها بما تريد معرفته. أجابت بتذمر فأتاها صوت عمر قائلًا بقلق:
ماسة هل أنت بخير؟
شعرت بغضب مستعر يشوه روحها من الداخل، بل ويلتهم كل سلامها واتزانها النفسي فلا تعرف أتبكي أم تصرخ أم تضرب أحدهم ولم تفعلها من قبل. أجابته بسخرية سوداء:
نعم! بأتم خير كأي فتاة كادت أن تدهس تحت عجلات سيارة.
فتح الباب بحذر ليمد رأسه في الداخل مستفهمًا بتوتر: تدهس تحت عجلات سيارة؟ أليس سبب كسر كاحلك هو سقوطك الحر كما أخبرتني في الظهيرة؟
صرخت به بغضب: ألا تحترم خصوصيات غيرك أبدًا؟ كيف تفتح الباب دون أن آذن لك بالدخول؟
تطلع نحو حجابها الملتف حول رأسها بعشوائية ليقول باعتذار: لكنك ترتدين حجابك بالفعل فلم الغضب؟ ثم إن كلامك عن الدهس أقلقني فلم أفكر قبل أن أفتح بابك.
سألت بغضب: ولِمَ يقلقك كلامي عن الدهس يا عمر؟ هل أثرت خوفك أم لم تكن تتخيل أن يصل الأمر لذلك؟
تطلع نحوها بعدم فهم: لست أفهم إلامَ ترمين بكلامك! لكن إن أحببت المعرفة فنعم، أثرتِ خوفي يا ماسة بأن أفقدك أنت الأخرى. لقد فقدت والدي منذ يومين وها أنت تتحدثين عن دهس الفتاة الوحيدة المتبقية من عائلتي في حياتي بلا أدنى شفقة أو رحمة.
قالت بسخرية: هناك فيروز والخالة جمانة أيضًا.
قال بتأكيد: نعم، هناك أمي وبالطبع هي حياتي لكنها ليست صديقتي كما هو الحال أيضًا مع فيروز الصغيرة. أنت تختلفين وتعرفين ذلك جيدًا.
قاطعته بسخرية: هل هي تلك الفقرة حيث يعترف الفتى للفتاة التي كانت صديقته طوال العمر بأنه يُكن لها مشاعر بأكثر مما تتخيل؟ إن كان الأمر كذلك فأعفني من مشاهدة تلك الحلقة يا عمر.
بهت عمر وتطلع نحوها بصدمة لكنه عاد ليتمالك نفسه قائلًا بضيق شديد: في أحلامك يا ماسة. لست تستحقين اعترافًا كهذا بالطبع!
ثم أكمل بحنق: هذا إن وجد من الأساس.
استدار ليخرج لكنه التفت مكملًا بصوت خرج مهتزًا بصورة ملحوظة: كما أنني لا أهتم بأن أسمع منك شيئًا بينما أنت في مزاجك السوداوي هذا، ولن أخبرك بما أردت قوله لك.
نادته قبل أن يخرج من الباب تسأله بحذر: ما الذي أردت قوله؟
توقف ليقول دون أن يهتم بالنظر نحوها: لا شيء مهم! فقط أردت الاطمئنان على حالك، وبالنظر لمزاجك القاتل كالأرملة السوداء* فأنا لست مستعدًا للتضحية بحياتي، لذا إن تحسن مزاجك ربما حينها نتحدث.
ثم خرج دون أن ينظر للخلف ولا مرة تاركًا إياها تحدق بظهره بضيق وتلعن مزاجها الأسود الذي منعه من اطلاعها على شيء مهم.
***
عندما أتتها مكالمة مالك المتأخرة كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بقليل حيث تستلقي في فراشها، تصارع أشباح الغضب الذي لازمها منذ حديث إيثار معها. لا تدري لِمَ آلمها اتهام إيثار لها بمصاحبة الشباب؟ وهل يا ترى تقصد بجمع كلمة الشباب إيلامها فقط، أم أنها تنوي أن تروج إشاعة عنها لغرض معين يدور في عقلها؟
رن هاتفها فأمسكته بتخاذل وما إن قرأت الاسم حتى تسارع نبضها بطريقة لا إرادية لكنها أجابت الاتصال بحذر: مرحبًا.
أتاها صوت مالك محملًا بالأسف: مرحبًا ماسة، كيف هي حال قدمك الآن؟*(الأرملة السوداء نوع من العناكب السامة للغاية من جنس الزوع، وتتميز إناثها بأن لها لونًا مميزًا من الأسود والأحمر وتأكل أحيانًا شريكها بعد الإنجاب، وتستوطن هذه الأنواع أمريكا الشمالية).
مطت شفتيها بلا مبالاة وكأنه يراها قبل أن تقول بصوت بارد: بخير. لا جديد، ما زلت بالجبيرة.
ضحكة صغيرة من مالك غزت روحها قبل أن يقول: بالطبع ما زلت بالجبيرة، فهي لم تُكسر سوى اليوم.
قالت بسخرية: أشعر بأنها منذ قرون لكن بما أنك أخبرتني بأنها كسرت اليوم فبالطبع سأصدقك، والآن هل تحمل لي أي أخبار تحرك ذلك الركود الذي أشعر به منذ عودتي إلى هذا المكان الكئيب؟
لاحقها مالك بتأنيب: على رسلك يا ماسة! لم تمر سوى عدة ساعات وتطالبينني بأن أحل لغزًا منذ عشرات السنين!
تنهدت بحسرة قبل أن تقول: هات ما لديك!
صمت مالك قليلًا، يستجمع ما يريد قوله لها ثم قال: عمك كان يحتضر.
ردت ببلادة: لقد مات بالفعل!
قال بهدوء: لقد كان يحتضر قبل أن يُقتل يا ماسة. كان مصابًا بسرطان الرئة في مرحلة متأخرة جدًا لا تستجيب للعلاج، وقد كان أمامه وقت قصير قبل أن يرحل بالفعل.
حين لم يأته ردها سأل بقلق: ماسة، هل ما زلتِ معي؟
قالت بهمس: نعم أسمعك.
عاد يستكمل: بالطبع الطبيبة لا تعلم كم كان يملك من الوقت قبل أن يموت، لكنها أخبرتني بأنه كان يأخذ علاجًا لتخفيف الأعراض التي يشعر بها وبأنها كانت مسألة وقت قبل أن يُحتضر بالفعل.
صوت تنفسها المرتفع أثار قلقه فسأل بقلق: ماسة، ما بك؟
لم تجبه! كانت تمسح دموعها التي تهطل في صمت باستمرار ولا تجرؤ على النطق كي لا يظهر البكاء في صوتها. عاد يناديها بخوف: ماسة، هل أنت بخير؟
قالت فجأة بلا مقدمات: لا لست بخير! وداعًا.
ثم أنهت المكالمة دون سابق إنذار. عاد هاتفها يرن بإلحاح لكنها اكتفت بالتحديق في الشاشة وكأنها تراها من خلف زجاج مبلل بالماء، فلم تكن ترى سوى شاشة مضيئة تحمل حروف اسم مالك المتراقصة بغير وضوح.