الماضي لا يموت.. الفصل الثالث عشر

1 1 0
                                    

الفصل الثالث عشر... غموض.
دقت الساعة منتصف الليل وماسة جالسة في فراشها، تحدق في الفراغ غير عابئة بمرور الوقت. لا تعرف ما هو التصرف الأمثل الذي يجب أن تتخذه حيال فيروز. لم تعاود الاتصال بفيروز مرة أخرى وهي بدورها لم تتصل. القلق العاصف بمشاعرها وتفكيرها كان رفيقها منذ عودتها من الخارج. تحاول أن تعرف منذ متى وفيروز تتصرف بمثل تلك التصرفات المراوغة. هل كانت تفعل ذلك طوال العمر وهي لشدة حبها لها كانت تغفل عن تلك التصرفات؟ أم أن هناك مصيبة ما تحاول فيروز أن تجنب ماسة معرفتها؟ وجود إيثار مع فيروز لم يشعرها بالاطمئنان أبدًا بل العكس، ازداد قلقها وإحساسها بالتوجس مما قد تخطط له فهي أبدًا لم تتفاءل خيرًا بتصرفاتها.
طرقات خفيفة على باب غرفتها أصابتها بالقلق، فمن في الفيلا كان مستيقظًا مثلها إلى ذلك الوقت؟ لم تفكر بالرد على الطارق فقد قررت التظاهر بكونها نائمة أو ميتة، لا يهم! لكن صوت عمر الهامس أتاها منخفضًا: ماسة، افتحي الباب! أعلم أنك ما زلت مستيقظة.
صمتت قليلًا لكن اصراره على طرق الباب دفعها لتنزع نفسها من بئر الصمت فتجيبه بضيق:
أنا أحاول النوم.
تسلل همسه الساخر من خلف الباب المغلق: ولن تنامي يا ماسة، فأنا أعرفك أكثر من نفسك.
تأففت لتعتدل على فراشها ثم تقول بضيق بعد أن وضعت حجابها على رأسها كيفما اتفق:
ادخل أيها الظريف.
فُتح الباب ليطل عمر برأسه قائلًا: هل أدخل أم ستقذفينني بشيء على رأسي؟
لوحت بيدها قائلة بغيظ: يعتمد على سبب زيارتك، ماذا تريد؟
مد يده فأشعل الإضاءة ثم تقدم بخطوات قليلة ليقف خلف الباب قائلًا: قبلًا أردت الاطمئنان على قدمك.
تطلعت نحوه بنظرات تحمل ضيقًا قائلة: إنها بخير. أما كنت تستطيع الانتظار للغد حتى تمارس لطفك الزائد بخصوص قدمي؟
علق بابتسامة خفيفة على كلامها: تعرفين أنك لن تخيفينني بطريقتك الفظة هذه.
تنهدت لتقول بتأفف: لا أريد إخافتك! أنا بالفعل متضايقة.
قال بهدوء بينما يتقدم ليسحب كرسيًا فيجلس عليه في منتصف الغرفة: أعرف يا ماسة، وهذا ما دفعني للقدوم إليك في هذه الساعة فقد أخبرتني أمي أنك منذ عودتك لم تغادري الغرفة، وأنا أعلم بأن تلك حالتك حينما تتضايقين.
غمغمت بتوتر: أنا بخير، ربما كنت مرهقة بعض الشيء.
لكنه تابع بقلق: أعرفك جيدًا يا ماسة، هل تخفين عني شيئًا؟
رفعت عينيها تنظر نحوه بتحفز متسائلة: وهل تفعل أنت؟
توتر عمر، نعم لقد توتر ورفّ بجفنيه مرتين متتاليتين قبل أن يقول بسرعة: وماذا سأخفي؟
اعتدلت ماسة لتقول بقوة بعد أن قرأت توتره: لا أدري! أخبرني أنت، إذ يبدو بأنك تعرف شيئًا ما وتخفيه عن الآخرين أو ربما فعلت شيئًا لا تستطيع تحمل تبعاته.
كانت مغامرة محسوبة من جانبها أن تضغط على عمر، نعم مغامرة وليدة اللحظة دفعتها إليها رؤيته متوترًا. تعرف جيدًا بأنه لا يجيد إخفاء الأسرار، لطالما كان عمر الطرف الأكثر ضعفًا في علاقة صداقتهما البعيدة؛ لذا فكرت بأن ممارسة قليل من الضغط عليه كفيلة بأن يكشف سره لكنه تكلم بتوتر مراوغًا: وماذا لو كنت أفعل؟ فأنا لن أفعل شيئًا يضر من أحبهم.
قالت متملقة تحثه على الكلام باللين من جانبها: أخبرني ماذا تخفي وحينها ربما نتعاون سويًا!
نهض من مقعده قائلًا برفض قاطع: انسي الأمر، لقد جئت لأطمئن عليك لا لأعترف لك بمكنون قلبي.
قالت بخبث: وماذا سيحدث لو شاركتني ما تخفيه فأنا أجيد التصرف أكثر منك، وربما أجد لك بعض المبررات لما تفعل.
رمقها بغيظ قائلًا: لن يجدي استفزازك لي شيئًا بكلامك الغريب هذا الذي لا أفهم إلام تلمحين به! أردت الاطمئنان أنك بخير ولو غيرت رأيك وقررتِ البوح بما تخفينه عني فربما حينها سأكون أكثر عدلًا منك وأخبرك بكل شيء.
قالت لتمنعه من المغادرة: لست أخفي شيئًا! أنا فقط أجري تحريات خاصة وقد تفضي إلى لا شيء.
توقف مكانه وقد بان في عينيه بعض اللوم: بخصوص مقتل والدي؟ أعرف ما تفعلينه. أردت معرفة ما توصلت إليه.
تبرمت قائلة: لا شيء حتى الآن فكل الطرق تؤدي إلى حائط صلب لا يمكن تخطيه.
حفزها حين لاحظ احباطها: يمكنك استخدام ذكائك والالتفاف حوله.
تطلعت نحوه بصمت قبل أن تقول بتباطؤ متعجبة من رباطة جأشه التي صار يتمتع بها الآن:
فكرة جيدة، سأفكر بها. (ثم أكملت بتلهف) ألن تخبرني بما توصلت إليه؟
فكر قليلًا قبل أن يقول بتوتر: ستعرفين كل شيء في وقته، فما أعرفه لا يصدق.
كانت نظراته نحوها عجيبة وكأنه متردد حيال أمر ما ويخشى تنفيذه أو إخبارها به. ظل هكذا للحظات ثم استدار مغادرًا ليقول قبل أن يغلق الباب خلفه: سررت أن قدمك بخير.
تطلعت نحو الباب المغلق قبل أن تعقد حاجبيها قائلة: لست أفهم شيئًا! ماذا كان يفعل هنا؟ هل جاء ليثير حنقي فقط؟ ثم ماذا قصد بما لا يصدق؟ هل عرف هوية القاتل أم يحاول درء الشبهات عنه؟
وبقيت أسئلتها عالقة في فضاء الغرفة تبحث عن إجابة منطقية تشفي حيرتها وقلقها.
***
تناولت هاتفها الملح بالاتصال الذي أيقظها من النوم بقلق. لا تستطيع التركيز في قراءة الاسم المكتوب على الشاشة ففركت عينيها عدة مرات حتى طار النعاس منها وأصبحت الرؤية جيدة. وجدت أن المتصل مالك زيدان فطالعت الساعة لتجدها قد تجاوزت التاسعة صباحًا بقليل. ما إن أجابت اتصاله حتى سمعت صوته يأتيها موبخًا بمزاح عن طول فترة نومها فتنحنحت مرة كي تجلو صوتها الناعس لتدافع عن نفسها: لم أنم جيدًا أثناء الليل! بل لم أنم جيدًا منذ...
ثم صمتت. فهم مالك رغبتها بالقول إنها لم تنم منذ وفاة عمها لذا أسرع يؤكد بأنه سعيد لأنها استطاعت أخيرًا الحصول على قسط وافر من النوم. لم يعلم بأنها لم تنم أكثر من عدة ساعات قلقة تخللتها أحداث درامية تطاردها في حلمها حتى أنها تشعر الآن بعد استيقاظها وكأن قطارًا دهسها فمزق أوصالها كما مُزقت روحها.
تمتمت تشكره ثم صمتت. وعيها لم يعد إليها كاملًا كي تزن كلامها فالتزمت الصمت عله يتطوع من تلقاء نفسه ليخبرها عن سبب اتصاله. أتاها اعتذاره بلياقة عن إيقاظها ثم أخبرها بأن جلسة إعلان الوراثة ستكون في الغد في مكتب السيد أمجد، ويشترط حضور جميع الورثة الشرعيين. تعجبت ماسة من اشتراط حضورها وفيروز إلى تلك الجلسة فعمها له وريث بالفعل وهو عمر لكن مالك أخبرها أن ذلك كان شرط عمها حين سلم وصيته للمكتب، وعليهم جميعًا الحضور إلى المكتب عند التاسعة صباحًا لكن ردة فعلها حيرته. الصمت بسط سحبه في الأجواء حتى قطعته بكلمتين لا ثالث لهما: لا أستطيع!
-لا تستطيعين ماذا؟
خانها صوتها فبدأ بالارتجاف: أجد كل ذلك غريبًا فما زلت غير مستعدة لسماع وصيته. لا، لن أستطيع! حينها سوف... (تقطع صوتها فصمتت).
-حينها سوف تتأكدين بأنه مات بالفعل دون أن يحرك أحدهم ساكنًا؟
هزت رأسها بالإيجاب ناسية بأنه لا يراها بينما بدأت دموعها بالتسلل خلسة من تحت جفنيها فأتاها صوته قلقًا: ماسة، هل ما زلت معي؟
لم تجبه مباشرة محاولة السيطرة على دموعها قبل أن تهطل بقوة، لكنه التقط تلك الشهقة الخفيفة التي أصدرتها فسأل بجزع: ماسة، هل تبكين؟
حينها فقط لم تستطع الكتمان، وكأن سؤاله فجر الأحزان والأوجاع الكامنة فأخرجها من معاقلها. قالت من بين شهقاتها التي تفجرت: سأكلمك فيما بعد، معذرة منك.
ثم رمت الهاتف فجأة لتدفن وجهها بالوسادة، تكتم شهقاتها ودموعها الجارية على وجهها كالسيل. ما زالت تشعر بأنها تعيش كابوسًا غير حقيقي. لا تعرف لمَ تشعر بكل هذا الضعف مؤخرًا؟! شعرت بأنها ترزح تحت حمل أثقل كتفيها فناءت به وانحنى ظهرها لثقله. لم تعد تتحمل تلك الصفعات المتتالية كما السابق! أصبحت أكثر ضعفًا مما كانت. دموعها الأبية صارت تهطل لأتفه الأسباب. تلك الحالة كانت تنتابها على فترات متفاوتة منذ وفاة والدها لكنها أصبحت ملازمة لها في الآونة الأخيرة، وكأن رداء القوة الذي حاولت ارتدائه على مرّ السنوات نقبته عثة الظروف ومهما حاولت رتقه انفتق في موضع آخر حتى أصبح باليًا لا يقيها برد الفراق ولا حرارة التعاسة التي تحاوطها وتكتم أنفاسها!
قالت من بين شهقاتها المتتالية: يا إلهي لقد تعبت بحق. ارحمني مما أنا فيه. لم أعد أحتمل، صدقًا فاضت آلامي وغطت كل مقدرتي على الاحتمال.
وعلى الطرف الآخر من الهاتف كان مالك يستمع لشهقاتها شاعرًا بالصدمة فلم يكن يتخيل بأنها ستمزق قلبه بكل ذلك البكاء. كانت وكأنها كبتت نفسها أعوامًا عديدة لتنفجر ببكاء خزنته بمُرِّ الظروف!
وبالرغم من ذلك لم ينبس ببنت شفة. ظل يستمع ويستمع وقلبه يخفق بعنف، ويتمنى لو كان بجوارها فيحتضن آلامها ويربت على روحها الموجوعة.
***
على مائدة الغداء جلست ماسة صامتة، تقلب صحن حسائها بعدم اكتراث وذهنها شارد بمكالمة مالك لها صباحًا. كانت قد استعادت نشاط ذهنها بدرجة كبيرة بعد لحظات الانهيار التي تلت انهاءها المكالمة. أخذت تفكر بسبب منطقي يجعل استدعاء المحامي لها ولأختها في جلسة سماع الوصية مهمًا بذلك الشكل. تعلم بأن لها ميراثًا في شراكة بين عمها ووالدها الراحل وقد تكفل عمها بإبلاغها بذلك من قبل، كما تعلم بأن ذلك الميراث لم تعرف عنه فيروز شيئًا لأن عمها حرص على عدم معرفتها بذلك كي لا تخبر إيثار. هل هذا ما يريد عمها أن تعرفه فيروز في الغد؟
-ماسة، ماذا تفعلين؟
قطع تفكيرها سؤال جمانة المؤنب فرفعت رأسها بارتباك لتصطدم بنظرات عمر المتفحصة لها ونظرات أمه المتعاطفة والتي تحمل شيئًا من التأنيب. سألت بهدوء مرتبك: ماذا فعلت؟
- تقلبين صحنك دون أن تتذوقيه، هل هناك ما يسوؤكِ؟
- كلا، لكني لست جائعة!
عنفتها جمانة بطريقة أمومية كما تفعل مع عمر: ماسة، أنت لم تتناولي إفطارك اليوم وعشاءك بالأمس. صدقيني، إن لم تتناولي الغداء أيضًا فسوف أغضب منك.
تبسمت ماسة قائلة بمحبة: بالطبع لا أريد إغضابك، وسأتناول الطعام لأرضيك فقط.
تابعها عمر واجمًا دون أن ينطق بكلمة، وعندما انتهى من تناول الطعام نهض مستأذنًا للصعود إلى غرفته متعللًا بالصداع. قلقت والدته عليه لكنه طمأنها بأنه سيتناول قرص المسكن وسيرتاح قليلًا وبعدها سيكون بأفضل حال ثم غادر على عجالة إلى غرفته. تأكدت ماسة من تصرفاته بأنه يخفي شيئًا فقررت اللحاق به علّها تستطيع اكتشاف ذلك السر.
نهضت بعد قليل تستأذن زوجة عمها بالصعود إلى غرفتها متعللة بالإرهاق وأنها تحتاج مزيدًا من الراحة في الفراش فسمحت لها جمانة وقد أقلقها شحوب ماسة وإرهاقها الواضح على وجهها. حينها مالت ماسة لتقبلها بامتنان فغمرتها بأحضانها وكأنها دعوة لتنسى كل ما يكبل روحها ويجثم على أنفاسها وذلك البؤس الذي باتت ترزح تحته مؤخرًا.
شعرت ماسة لوهلة بالدفء يغمرها، دفء أخرجها من مشاعرها السلبية التي تكتنفها هذه الأيام وتحيل حياتها لحياة خاوية لا معنى لها. استكانت للحظات، تغمر نفسها في أحضان جمانة ثم انتزعتها نزعًا مذكرة نفسها بأنها ستتألم فيما بعد عندما تشتاق لحضن مثله ولا تجده.
قالت بابتسامة بطيئة: أشكرك خالتي على ما فعلتِه لأجلي طوال سنوات عمري.
أجابتها بمحبة صادقة: لم أفعل لك شيئًا يا ماسة فأنا أحبك كما أحب عمر! أراك ابنتي التي تمنيت وجودها في وقت ما.
اندفعت ماسة قائلة وقد حركتها عاطفتها التي استطاعت كبتها كثيرًا من قبل: وأنا اعتبرك أمي أيضًا.
هزت جمانة رأسها وتجمعت غلالة رقيقة من الدموع في مقلتيها لتقول بحسرة:
نعم يا ماسة! كلتانا فقدت شيئًا في الماضي، فقد فقدت والدتك بينما فقدت أنا مقدرتي على إنجاب طفلة جميلة مثلك لكنني أشعر اليوم بأن خسارتي سابقًا لا توازي حسرة قلبي على رحيل مراد. لقد كان كل من أحتاجه في الحياة.
هزت ماسة رأسها مؤكدة وقد تطافرت الدموع من مقلتيها حزنًا على رحيل عمها فهربت من أمام جمانة قبل أن تفقد زمام تحكمها وتبكي من جديد كما فعلت صباحًا.
عندما صعدت ماسة للأعلى بعد قليل، وجدت باب غرفة عمر مفتوحا جزئيا. اقتربت بحذر تتلصص على وجوده داخلها فما زالت أفعاله تثير شكوكها وتحرك مؤشر فضولها نحو النهاية، لكنها تفاجأت به وقد فتح الباب ناظرا نحوها بغموض، مستفهمًا عم تفعله. فقدت ثباتها للحظات قبل أن تتمالك نفسها مرة أخرى متعللة بأنها أرادت الاطمئنان على حاله، وحينها رمقها بسخرية ثم استدار للداخل قائلًا بهدوء:
تعالي يا ماسة. ادخلي واسحبي الباب قليلا فما أود قوله لك لا أريد أن يعلمه أي إنسان.
توترت ماسة بشدة. دلفت تتوكأ على عصاها حتى وصلت لمقعد مجاور للباب فجلست عليه بقلق دون أن تنطق وكأن لسانها تحول لقطعة من الحجر داخل فمها. ظلت تنظر إليه علّه ينطق لكنه زاد توترها حدة حين ظل يحدق بعيدًا في الفراغ فقالت بحدة بعد أن خرجت من صمتها: تكلم!
نظر نحوها قائلًا بصوت خرج مرتبكًا: لا أعرف كيف أبدأ الكلام!
قالت بنفاد صبر وقد بدأت أعصابها بالتلف فقد توقعت أن يعترف لها بفعلته:
- عمر لا توترني! أخبرني ما فعلت.
عاد ليتنهد مرة أخرى ثم قال بتوتر متحاشيًا النظر في وجهها:
لم أفعل شيئًا صدقيني! إنه بخصوص إيثار.
- ماذا فعلت إيثار؟
- بل ما الذي لم تفعله؟!
تجمدت ماسة تحدق به وقد بدأ يسرد على أسماعها ما جعلها تحدق به بذهول وتنتفض غضبًا وحنقًا.
***
صباح اليوم التالي في مكتب المحامي، اجتمعت الأسرة بأكملها بانتظار حضور فيروز للاطلاع على الوصية. أمسكت ماسة هاتفها للمرة العاشرة تحاول الاتصال بفيروز التي كان هاتفها مغلقًا باستمرار.
شعرت ماسة بالذعر فبعدما أخبرها به عمر بالأمس تأكدت بـأنها تعيش في عالم غير حقيقي، عالم لم تستطع تخيل وجوده بالرغم من سنوات عمرها التي تخطت الثانية والعشرين بقليل.
تطلعت العيون نحوها بترقب فأنزلت الهاتف عن أذنها، تبادلهم النظر بقلق وتهزّ رأسها بالنفي.
تعلقت عيناها للحظات بعيني مالك لتجد بأنه ينظر نحوها بقوة، وكأنه يحاول أن يبثها اطمئنانًا تفتقده. تفاجأت من ردة فعل عمر إذ نهض مقتربًا منها يسأل بقلق عن حالها لكنها لم تهتم سوى بقلقها على أختها فسألته بذعر: لست أدري لماذا هاتفها مغلق؟
قال عمر بصوت قلق لكنه حاول بث الطمأنينة فيه: ربما لا يوجد إرسال حيث هي أو يكون هاتفها قد فقد شحن بطاريته.
هزت رأسها بقلق مضطرب بينما عادت عيناها رغمًا عنها تستمد الاطمئنان من ملامح مالك الساكنة.
بعد مرور نصف الساعة، دلفت السكرتيرة الخاصة بمكتب السيد أمجد إلى غرفة الاجتماعات لتقول:
سيد مالك، هناك سيدة في الخارج تريد الدخول وتقول إنها والدة الآنسة فيروز.
قال مالك بهدوء بعد أن رفع عينه عن بعض الملفات التي يتصفحها: دعيها تدخل، وأخبري السيد أمجد بالحضور.
دلفت إيثار المتأنقة دائمًا بطريقة مبالغ بها. بدت مكتملة ومتألقة ترسم على وجهها ابتسامة لطيفة معسولة وقالت بغنج معتذرة: آسفة! لقد حدث حادث على الطريق مما أجبرني على التأخر.
سألتها ماسة بتجهم: أين فيروز، لِمَ لم تأت معك؟
نظرت نحوها بحاجب مرتفع لتقول بتأثر مدروس: فيروز مريضة. ألم تحدثيها لتطمئني عليها بالأمس؟
سألت ماسة بقلق: مريضة؟ ما بها؟
أجابت إيثار بحزن مبالغ به: لو كنت تهتمين لأمرها لكنت علمت ما بها. إنها تعاني الحمى منذ ليلتين.
قالت ماسة دون تفكير وبسرعة: ماذا؟ لقد كانت بخير أول الأمس. لقد رأيتها وكانت تبدو بخير.
تطلعت نحوها إيثار متسائلة بحذر وقد لمعت عيناها بشكل مقلق: أين رأيتها؟  
تنبهت لزلة لسانها فقالت بفتور: لا يهم! لكنها كانت بخير.
ثم زمّت شفتيها وصمتت. ظلت إيثار ترمقها خلسة بين الحين والآخر دون أن تنتبه لنظرات عمر القلقة نحوها.
أخيرًا دخل السيد أمجد إلى غرفة الاجتماعات محييًا الجميع قبل أن يتخذ مقعده على رأس المائدة، ينظر إلى ورقة موضوعة في ملف أمامه. راجعها سريعًا ثم رفع عينيه نحوهم مستهلًا كلامه:
الآن سأتحقق سريعًا من قائمة الموجودين كي نبدأ دون تأخير.
تحقق من الأسماء الموجودة وعندما وصل لاسم فيروز ردت إيثار بغنج: فيروز ابنتي مريضة، لا تستطيع الحضور، لذا حللت محلها.
تطلع نحوها السيد أمجد بتجهم: لكن يا سيدتي لن أستطيع! الوصية تنص على وجوب وجودها بنفسها لا من ينوب عنها.
قالت بلا مبالاة: ومن سيعلم؟ أخبرتك بأنني والدتها وأنوب عنها، كما أنها صغيرة السن ولن تفهم حرفًا مما سيقال فلا تهتم!
أغلق السيد أمجد الملف الذي كان يقرأ فيه الأسماء قائلًا بصوت جهوري: القوانين هي القوانين يا سيدتي. الوصية تنص على وجوب قراءتها في وجود من يتوجب وجوده، وبغياب الأنسة فيروز والتي أعلم بأنها تجاوزت السن القانوني لتكوني وكيلة عنها فأحب أن أخبرك بأنني سأؤجل تلك الجلسة لحين حضورها.
ثم نهض وهو ينظر للجميع قائلًا بسخط: أعتذر منكم سيداتي وسادتي. يجب أن أحترم نص وصية المرحوم السيد مراد، فقبل أن يكون عميلًا لدى مكتبي كان صديقي.
هز الجميع رأسهم متفهمين بينما هناك عينان تتطلعان نحوه بحقد. كانت عينا إيثار التي غاصت في مقعدها تشعر بالسخط فلأول مرة في حياتها لم تنل ما تريده، وكان ذلك يزعجها بشدة.
***

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 09 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الماضي لا يموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن