الفصل الثالث : الانهيار

28 18 4
                                    

عندما كانت أسيل وأخيها فؤاد يجولان في شوارع المدينة بحثًا عن إجابات لما حدث في الانفجار الأول، انبعث في الأفق صوت رهيب، مختلف عن أي شيء سمعوه من قبل، وكأنه أنين المدينة الممزقة، صوت انفجارات متتالية كأنها مطرقة تطرق بداخل رأسك بدون رحمة اهتزت الأرض تحت أقدامهم، وسرعان ما امتلأ الهواء بغبار وسحابة سوداء ضخمة ابتلعت سماء المدينة، لتحجب كل ضوء وكل أمل في الحياة. كان الهواء ثقيلاً برائحة الحريق والموت.

تجمدت أسيل في مكانها، وعيناها تبحثان بلهفة في الأفق عن أي إشارة قد تطمئن قلبها بأن ابنها وعائلتها بخير. لكن الخوف الذي تملكها لم يترك لها فرصة التفكير، احتبست أنفاسها، وشعرت بأنها على وشك الانهيار. في تلك اللحظة، اقترب منها فؤاد، أمسك بذراعها بقوة وحاول تهدئتها، وهو يهمس لها بعبارات الأمان: "سنعود إليهم... لن يحدث لهم شيء... فقط تمسكي بي". ولكن صوته كان مليئًا بالقلق، وكأنه يحاول إقناع نفسه قبل أن يقنعها.

في تلك اللحظات، اكتشفا أن الانفجارات الجديدة لم تضرب مكانًا واحدًا فقط، بل امتدت لتلتهم كل المواقع الحيوية في المدينة. الكهرباء والماء والاتصالات، المخابز التي كانت تفيض برائحة الخبز الدافئ، المباني المركزية التي كانت تنبض بحياة المدينة، كلها تحولت إلى أنقاض.

مضيا وسط حطام المدينة، والأصوات المحطمة تتردد حولهما. كانت الأرض مليئة بالجثث، البعض مطروح على الأرصفة، والبعض الآخر داخل سيارات مدمرة. الملامح التي كانت تعكس يوماً الأمل والأحلام اختفت، لتحل محلها نظرات فارغة وصامتة. شعرت أسيل بأن قلبها يكاد ينفجر من القلق، وخيالات فقدان ابنها تتربص بها في كل زاوية، لكنها كانت تواصل السير بجانب أخيها، تتشبث به وكأنه خيطها الوحيد للنجاة.

عندما وصلا أخيرًا إلى المنزل، وجدا العائلة بخير، ولكن لم يكن هناك وقت للراحة. المدينة كانت تعج بالصراخ والمذعورين. كان القرار ينتظرهم. الأب، الأم، والأخت الصغرى، كلهم تجمعوا في غرفة الجلوس. كان الأب صامتاً، مشغولاً بحمل مصحفه الصغير، بينما كانت الأم تداعب وجنة ابن أسيل، محاوِلةً الحفاظ على هدوءه.

بدأ النقاش يحتدم. الأخت تقول: "أين سنذهب؟ لا يوجد مكان لنا خارج هذه الجدران، هذا منزلنا ولن نتركه"، كانت كلماتها ثقيلة بالعناد والخوف من المجهول. أسيل وقفت أمامهم، نظراتها جادة ومليئة بالعزيمة: "هل سنبقى هنا ننتظر دورنا في هذه الانفجارات الغامضة؟ لا يمكننا الانتظار، يجب أن نخرج. علينا أن نحمي أنفسنا وأطفالنا". كان صوتها يرتجف لكنه مليء بالإصرار.

تدخلت الأخت من جديد، معترضة: "اين سنذهب ؟ لا يوجد هناك مكان يلجأ إليه الناس، كل شيء تدمّر". ساد الصمت للحظة، تخللته أصوات دوي الانفجارات في البعيد.

رفع الأب عينه عن المصحف، وقال بصوت هادئ وحازم: "القرار اتخذ. سنغادر المدينة. نجمع ما نستطيع حمله ونخرج الآن".

احلام تحت الركامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن