الخلود

66 4 0
                                        


في كل مرة يطفئ فيها أحدهم شمعة عيد ميلاده الثمانين، هناك أمنية خفية تهمس في الظل: "ليتني لا أهرم".
لا أحد يريد أن يموت، ولا أحد يعرف حقًا ماذا سيفعل لو لم يمت.

لطالما تخيّل البشر الخلود كأسمى جائزة كونية: لا شيخوخة، لا نهاية، لا توابيت.
لكن ما لا يخبرك به أحد أن الخلود يشبه فيلمًا طويلًا جدًا... لدرجة أنك تبدأ في كره الشخصيات، ثم كره القصة، ثم كره نفسك لأنك ما زلت تشاهد.

🧬 لماذا نرغب بالخلود؟

الخلود ليس اختراعًا حديثًا.

الملك "جلجامش" -قبل آلاف السنين- دخل الغابة يبحث عن سر الحياة الأبدية، ثم عاد ليموت مثل أي مخلوق على الأرض.
لاحقًا، دخلت الفكرة إلى الديانات، الأساطير، ثم إلى مختبرات الأحياء الجزيئية في القرن الحادي والعشرين.
الخلود صار مشروعًا، بميزانية.

شركة مثل Altos Labs (مدعومة من جيف بيزوس) تضخ ملايين الدولارات في أبحاث "إعادة برمجة الخلايا"، بهدف إيقاف أو عكس الشيخوخة.
حتى أن فريقًا من العلماء بقيادة Juan Carlos Izpisua Belmonte نجح سنة 2020 في تجديد أنسجة فئران مسنّة باستخدام تقنيات "الشباب الخلوي" — تجربة واعدة، لكنها تفتح الباب لسؤال أكبر:

"وماذا لو نجحنا؟"

هنا يتحوّل السؤال من: "كيف نمنع الموت؟" إلى "هل علينا أن نفعل ذلك أصلًا؟"

بل إن دراسة نُشرت في Journal of Aging Studies عام 2013 أظهرت أن حوالي 70% من كبار السن الذين سُئلوا عن الخلود قالوا إنهم لا يريدونه.
لماذا؟
لأن الحياة جميلة... فقط عندما تكون محدودة.
وعندما تصبح الحياة بلا نهاية، تفقد بالتدريج ما يجعلها مثيرة: الندرة.

👻 متى يبدأ الكابوس؟

لنكن واقعيين.
في البداية، فكرة أن تعيش للأبد تبدو... عظيمة. لديك الوقت لتقرأ كل الكتب، تتقن كل اللغات، تزور كل المدن، تشاهد كل مسلسلات نتفليكس (بما فيها تلك التي توقفت عن متابعتها في الحلقة 4).

لكن بعد مئة سنة، تبدأ الملاحظة الأولى:
أصدقاؤك ماتوا.
أحفاد أصدقائك ماتوا.
اللغة تغيّرت.
العملة تغيّرت.
وأسوأ شيء؟ تطبيقات الهاتف تغيّرت.

أنت ما زلت حيًّا، لكنك لا تنتمي لشيء. لا الماضي يعرفك، ولا الحاضر يعترف بك، والمستقبل يراك كشذوذ إحصائي.

تخيل أنك تعيش في حفلة موسيقية لا تنتهي. في البداية ترقص، تضحك، تسهر... لكن بعد 400 سنة من الدي جي، تصير الضوضاء تعذيبًا، والضوء صداعًا، والرقص عبثًا.
الخلود كذلك تمامًا. متعة قصيرة، تليها دهشة، ثم ملل، ثم عزلة، ثم انهيار بطيء... في عقلك.

🧠 دراسة مرعبة بعض الشيء:

في تجربة نفسية غريبة أجراها Dr. Martin Seligman (مؤسس علم النفس الإيجابي)، وُضعت فئران في بيئة لا تتغير إطلاقًا – نفس الضوء، نفس الأصوات، نفس الطعام.
في البداية تأقلمت. بعد أيام بدأت أعراض القلق. ثم، تدريجيًا، توقفت عن الحركة. ماتت فسيولوجيًا... من غياب المعنى.

لا شيء تغيّر. لا شيء انتهى.
تمامًا كما في الخلود.

🕰️ هل يصنع الموت المعنى؟

أنت لا تقدّر القهوة إلا لأنها تنتهي.
ولا تحب الأغاني إلا لأنها قصيرة.
ولا تبكي في الأفلام إلا حين يُكتب: "النهاية".

الموت، رغم قسوته، هو السبب في أننا نعيش بشغف.
لأننا نعلم أن العدّ التنازلي يعمل.
فجأة يصبح لك وقت يجب أن تستثمره، لحظات يجب أن تختارها، حب يجب أن تعيشه، قرار يجب أن تُقدم عليه الآن، لأن "الآن" تعني شيئًا.

لو كنت خالدًا، لماذا تعترف بحبك اليوم؟ ستفعل ذلك بعد 300 عام.
لماذا تنهي كتابك؟ لماذا تسامح؟ لماذا تُجرّب؟
الخلود ليس وقتًا إضافيًا...
بل تأجيلٌ دائم لكل شيء.

☠️ الخاتمة: نهاية لا تنتهي

تخيّل أن تُغلق عليك غرفة ولا تخرج منها أبدًا. لا تموت. لا تنام. لا تنسى.
كل شيء يتكرر.
كل شيء.

الخلود ليس امتيازًا. إنه حالة طبية طارئة، اسمها: "انهيار المعنى".

وربما لهذا السبب خُلق الموت. ليس عقوبة، بل هدية مغلفة بدمعة.

وفي النهاية، دعني أطرح عليك السؤال الذي لا يمكن الهروب منه:

"لو عُرض عليك أن تعيش إلى الأبد... هل توافق؟"
وإذا وافقت، هل يمكنك العيش بعد أن تدفن كل من أحببت؟ ... مرارًا؟

••••••••
اقترح موضوعاً من المواضيع التالية لتكون الفصل القادم :

- النسيان الانتقائي
- السعادة المصنعة
- أشباح الأنا

🔰أُحِبُّ العُلوم🔰حيث تعيش القصص. اكتشف الآن