بئر القذارة المعلبة

50 4 2
                                        


واتباد لم يعد منصة أدب. لم يعد حتى سوقًا. إنه اليوم أشبه بمكبّ نفايات مترف، يضع فوق القمامة أشرطة ملونة ويبيعها كأنها مجوهرات. هنا، لا يهم إن كنت كاتبًا أو قارئًا، المهم أنك ستدخل هذه المذبحة التجارية وتخرج منها إما مُستنزَف الجيب أو مُستنزَف العقل.

كانت الفكرة يومًا أن تمنح كل شخص مساحة لكتابة قصته. لكنهم حوّلوها إلى ماكينة ضخمة تطحن أي معنى وتعيد تشكيله في قوالب مربحة: قصص مبتذلة عن المثلية بلا سياق فكري، السادية والمازوخية كأنها رومانسية، العلاقات المحرمة كأنها مغامرات مثيرة، وحتى التطبيع مع الاحتلال كأنه حب مستحيل بين ضحية وجلاد. المنصة نفسها تدفع بهذا القاع إلى السطح، وتدوس كل ما يشبه الإبداع الحقيقي تحت أحذية الخوارزمية.

ثم جاءت العملات الوهمية. تلك النقاط البرتقالية التي تُباع بمال حقيقي لتشتري بها فصولًا كان من المفترض أن تكون مجانية. تفتح رواية لتجد أمامك قفلًا رقميًا يبتسم بسخرية: "ادفع لتعرف ما حدث". تدفع، لتكتشف أن الفصل مجرد إعادة تدوير لمشهد في رواية أخرى لنفس الكاتب، بنفس الشخصية التي يكررها لأنه نجح بها مرة. نفس الملامح، نفس التصرفات، نفس الجمل، وكأنك تدور في حلقة مفرغة تُسمى "سلسلة النجاح".

وحتى عندما تجد رواية مجانية، لا تتنفس الصعداء. بعد كل فصل، يقتحم الشاشة إعلان فجّ يقطع تدفق القراءة. لست أمام كتاب، بل أمام قناة تلفزيونية رخيصة تفصل المشهد الأهم لتعرض لك إعلانًا عن لعبة سخيفة أو تطبيق تافه. كل مرة تدخل فيها لتغرق في عالم القصة، يسحبك الإعلان كغريق يُرمى إلى الشاطئ بالقوة.

والمكتبة؟ وهم آخر. تحفظ رواية في قائمتك، تعود بعد أيام لتجدها اختفت لأن الكاتب حذفها أو المنصة أزالتها بلا إنذار. كأنك تضع كتبك في رف، وتكتشف أن أحدهم يدخل بيتك كل ليلة ليسرق منها ما يشاء. حتى محادثاتك الخاصة ليست ملكك، تُحذف فجأة، وكأن ذاكرتك الشخصية لا تستحق البقاء.

واتباد اليوم ليس مجتمعًا للكتّاب، بل خط إنتاج. من يكتب نصًا عميقًا أو مختلفًا يُلقى به في الظل. ومن يكتب قصة مثيرة للغرائز أو مكررة على طريقة "المنتج الناجح" يُسلَّط عليه الضوء، يوضع في الواجهة، وتُباع فصوله في مزاد العملات الوهمية.

إنه مكان يعلمك أن القارئ ليس قارئًا، بل زبونًا يجب استنزافه. وأن الكاتب ليس مبدعًا، بل موظف إنتاج هدفه ملء الحاوية بالمزيد من الفصول الجاهزة. أما الخوارزمية، فهي السيد الأعلى، لا تكافئ الموهبة ولا الفكرة، بل تكافئ الضجيج والإثارة اللحظية، حتى لو كانت على حساب العقل والأخلاق.

واتباد نجح في شيء واحد: جعل القذارة مربحة. جعل القارئ يدفع ليستهلك النفايات الأدبية، وجعل الكاتب يظن أنه نجم لأنه باع وهمًا مغلفًا. أما الحقيقة، فهي أن كل كلمة تُكتب هنا ليست إلا وقودًا لماكينة تبيعك مرتين: مرة حين تدفع لتقرأ، ومرة حين تدفع بوقتك وأعصابك في متابعة إعلاناتهم المبتذلة.

هنا، لا تكتب لتبقى، بل لتباع. لا تقرأ لتفهم، بل لتدفع. لا تحفظ كتابًا في مكتبتك، بل تحجز مكانًا لجثة نص قد تُسحب في أي لحظة. واتباد ليس منصة إبداع... إنه بئر القذارة المعلّبة، حيث كل شيء ملوّث منذ البداية، وكل شيء مهيأ ليُستغل حتى آخر قطرة

🔰أُحِبُّ العُلوم🔰حيث تعيش القصص. اكتشف الآن