ركضت وصرخت، صرخت وركضت. أشعر بأن رئتاي تحرقاني وكأن أكسجين الكون كله قد نفذ الآن.
الشمس تسابقني للمغيب والرؤية أخذت بالاضمحلال أكثر وأكثر. ابتعدت السيارة كثيراً بالكاد أسمع لمحركها صوتاً. ساقاي تؤلماني مرهقة جداً، ورئتاي تستنجد شفتاي للأكسجين.
سأنجو، سأنجو.
أضائت السيارة مصابيحها الأمامية، فأصبحت أميزها أكثر مع ظلمة الليل. الحمدلله يالله، سأصل قريباً. ثم فجأة ومن دون سابق انذار أُطفئت المصابيح، أختفت السيارة عن ناظري، لاصوت أبداً. تجمدت مكاني في عدم تصديق وأنا أتمتم "لايمكن"
أين ذهب؟ كنت على وشك الوصول!
كنت سأعود لمنزلي. أرحت بهدوء يداي من قبضة شكلتها وأنا أجري، أخذت أحدق بالأفق المظلم، بالأمل الذي ودعني.
ـ
"حسناً حسناً، أصطفوا جميعاً في خط مستقيم، عند الرقم الثلاثة تبدأون بالانطلاق، من يصل أولاً للمرمى يفوز بعشرة ريال"
"لحظة لحظة لاتبدأوا من دوني، سألبس حذائي.. قادمة قادمة"
ضحك الجميع "منى الجميع يعرف أنك ستخسرين لذا لن يشكل دخولك فارقاً"
"هاها! ظريف. سأفوز هذه المرة"
"مريم أليست هذه جملتها المعتادة في بداية كل سباق؟"
تحدثت مريم بسخرية "بقى فقط أن تعقد حاجباها في امتعاض"
بدأت مريم والصبية بمحاكاة منى عند غضبها والوالدان يبتسمون على تصرفاتهم الطفولية المعتادة وكأنهما لم يبلغا السادسة عشر الشهر الماضي.
-
مثير للسخرية، مازلت عداءة فاشلة. خسرت عشرة ريال مسبقاً، والآن سأخسر حياتي.
لحظة! لاتستطيع السيارة أن تختفي هكذا بالصحراء. نعم!نعم! مؤكد أنها توقفت لغرض ما، لأي غرض في الكون لا يهم، المهم أنها توقفت وأنني سأستطيع أن أصل إليها، سأحادث أهلي، سيعودون لأجلي ، وسأعود للمنزل.
بدأت بالركض في نفس الاتجاه الذي كنت أركض فيه مسبقاً ولكن هذه المرة من دون أي دليل أو أثر أقتفيه نحو اللاشيء، نحو الظلام الدامس كنت أركض لحياتي التي لم انته منها بعد، كلا لا أريد أن أموت ليس الآن، لم أقضِ حياتي كما أردت، كيف أموت الآن؟. وأموت هنا وحيدة؟ من دون أبي أو أمي؟ جثة في الصحراء غير معروفة الهوية هذا إن وجدني أحد. وسيكمل والدي حياتهم متأملين في عودتي بينما أنا هنا أتعفن لوحدي. كلا لن أموت الآن.
-
"إذا وجدتِ مصباح علاء الدين وخرج لك المارد ولكنه مارد نحيس، يسمح لك بأمنية واحدة فقط، ماذا ستكون أمنيتك؟"
"اوه أستاذة هذا سؤال صعب جداً، لو سألتني ما قانون التربيع العام لأجبتك سريعاً.. ولكن هذا صعب"
"لماذا؟"
"لا أعلم ماذا أريد من هذه الحياة، لا أعلم إن كانت الأمنية التي سوف أختارها هل تمنيتها من كل قلبي وفكرت بها ملياً؟ ربما أندم عليها لاحقاً؟ أنا لا أعرفني حتى الآن.. لم أكتشف نفسي بما فيه الكفاية لأطلب من مارد تحقيق أمنية واحدة لبقية حياتي"
"ولكن يجب أن تختاري لن تعثري على المارد مرة أخرى!"
"لا أعلم"
"حسناً، سنتأخر عن الحصة إن أستمرينا في هذا الموضوع" ثم قالت وهي تغلق الباب "ولكني أتوقع ورقة على مكتبي غداً بأمنياتكن"
-
هه لن تعثري على المارد مرة أخرى. مضحك. مضحك.
توقفت لثانية لأسجل ماقد رأته عيناي، لم تكن هناك سيارة واحدة بل العديد منها. لم تكن هناك خيمة واحدة بل ثلاث منهن. لم يكن هناك رجال فقط بل نساء أيضاً. لم يكن هناك حطب ونار مشتعلة بل طعام وماء. لم يكن هناك أمل واحد بل السماء قد انفرجت بالمئات من الآمال!بدأت أمشي ببطء، وأتنفس ببطء وأذرف دمعي بصمت. لا أريد أن أفزعهم ويخشون مساعدتي، ولكني أريد النجاة بشدة. أقتربت من خيمة ظننتها للنساء فقد رأيت إحداهن تدخل فيها منذ قليل. يالله القليل من الصبر فقط.. القليل.
فتحت باب الخيمة لأرى أربع نسوة تجمعن حول الشاي والمكسرات..تقدمت خطوة فالتفت الجميع إلي حاولت أن أفتح فمي وأخرج الكلمات بشكل مرتب، أردت أن أقول انقذوني، اعيدوني للحياة. بدلاً عن ذلك جلست على الأرض وسمحت لنفسي بالبكاء بصوت عالي.
لا بأس فأنا في أمان الآن.
** جلست فدوى بجانب مريم على أرضية المطبخ وضمت ساقيها إليها ووضعت رأسها عليهما ثم قالت "هل تعتقدين أن منى ستعود؟"
لم تجب مريم بل استمرت بتحديقها بالأفق
"أتظنين.." ترددت فدوى قليلاً ثم أكملت "أنها ماتت في الصحراء؟ فكما تعلمين هذا هو اليوم الثاني منذ غيابها"
انتفضت مريم واقفة فقالت "كلا!" ثم التفتت إلى فدوى بغضب وعيناها محمرتّان من كثرة البكاء "وإياكِ أن تتفوهي بحديثٍ كهذا مرة أخرى"
تركت مريم المطبخ واسرعت إلى غرفتها واغلقت الباب خلفها ثم رمت نفسها على السرير بقوة وأخذت بالبكاء.
تكورت حول نفسها تحت الغطاء وهي تهمس "أنا آسفة منى"