بقي ثلاث ساعات على الرياض.
ثلاث ساعات كأنها قرن.
يداي بدأت ترجفان ونبضات قلبي أخذت تتسارع أكثر فأكثر كلما رأيت اللوحة الخضراء على الطريق مشيرة إلى عدد المترات الي تفصلنا عن الرياض.فرح وموسى نائمان منذ نصف ساعة، فرح في المرتبة الأمامية وموسى مستلقٍ بجانبي.
أطقطق مفاصلي حينًا وتهتزّ قدمي حينًا أخر. كيف؟ كيف؟ كيف سيكون حال أهلي؟
حاولت أن أغفو وأن أستنزف الوقت بالنوم ولكن أبت جفناي الخمول رغم أني مستيقظة قبيل شروق الشمس.
رأسي مشحون بكل التساؤلات ولكن حين تحدث ياسر -الذي نسيت وجوده مؤقتًا- ازاحها جميعًا
"هل تريدين الاتصال بعائلتك؟"
"امم" ترددت "لا.. اعلم.. أيجدر بي فعل ذلك؟"
"إن كان هذا سيريحك.." نظر ياسر في المرآة إليّ ثم إلى الطريق "يبدو عليك القلق"
"اه" ضحكت ضحكة مهتزّة ومتوترة "كلا.. انا بخير"
"بالطبع استطيع ان أرى ذلك" وابتسم قليلًا
ثم أضاف بعد عدة دقائق "كم قلتِ لي المدة التي قضيتها في الصحراء؟"
"ستة أيام"
"كيف نجوتي؟"
"كما قلت لك أول مرة"
"تقصدين عندما صرختي في وجهي؟"
"نعم" عيناي مثبتةٌ في الأرض من الخجل
ضحك وقال "لم أفهم أيّ شيء مما قلتِ فقد انطلق لسانك بسرعة عجيبة"
ضحكت ضحكة عالية نوعًا ما "هذا جيد لأنه ربما كان لايجدر بي قول جميع ماقلته"
ضحك ياسر كذلك وأجاب "بخصوص ماكان يجدر بك ألا تقوليه هذا بالضبط سمعته جيدًا"
حسنًا، هل يجب الآن أن ألقي بنفسي من السيارة؟؟
سكتُّ ولم أضف شيئًا
بعد دقيقة تحدث ياسر "لم تجيبي على سؤالي؟"
"امم حسنًا أشعر بأني الآن لا أستطيع الإجابة وكأن ماحدث لي منفصل عني ولكن بنفس الوقت كأنه لم يحدث لي في حياتي سواه. هل تفهم علي؟"
"أود حقًا أن أقول نعم ولكن..."
ابتسمت وأكملت "كنا عائدين أنا وعائلتي من قرية جدايّ وفي طريق العودة رغبوا في التوقف للاستراحة وذهبت انا لأغفو تحت ظل شجرة واستيقظت ولم اجدهم...."
انطلقت وقصيت له ماحدث في ستة أيام، وبالتفصيل الممل في مواضع والاقتضاب بمواضع أخرى وكان ياسر خير مستمع لم يشعرني بأنه قد ملّ من حديثي ولم يكن حماسه مبالغًا فيه، كان وسطًا. وسطًا بحيث أنيّ أنا ومن أقص عليه لم أتملل من حديثي إليه.لا أعلم إن كان مافعله ياسر بعمدٍ ولكنه خفف من حدة توتري حتى كدت أنسى أني ذاهبة إلى عائلتي إلا عندما وصلت لنهاية حديثي.
انهيت حديثي بتنهيدة وياسر بقي صامتًا والطفلين مازالا نائمين.
عدت إلى مقعدي والشباك انظر فيه، عندها قال ياسر "كيف تشعرين؟"
أخذت نفسًا طويلًا "لا أعلم"
ولم يضف ياسر شيئًا بعدها حتى غفوت على حين غرّة. يصطدم رأسي بخفة بالشباك واستفيق لبضع ثواني ولكن سرعان ما أعود للنوم مرة أخرى بجفنين مثقليّن.احسست بحركة مستمرة وخفيفة في كتفايّ، فتحت عيناي ببطء وإذا بوجه موسى يحدق في وجهي بصمت، اغمضت عيناي وفتحتها مرارًا كي أتغلب على ثقل النوم واستعيد كامل وعيي ولكن مازال موسى يحدق بوجهي.
"ماذا؟" قلت بهمس
"انتِ جميلة" قال موسى بهدوء ثم عاد للجلوس بجانبي.
علماء الفيزياء اسمتعوا إليّ رجاءًا: إن كان هناك ماهو أسرع من البرق فهو سرعة وجنتايّ بالإحمرار.
خطر لي حينها أني لم أنظر لوجهي مطلقًا منذ ستة أيام! لا أعلم كيف أبدو ولا إن كان شعريّ أشعث مليء بالتراب أم مسرحًا بشكل عجيب، وأنا أرشح الخيار الأول بكل تأكيد.اعتدلت بجلستي ونظرت إلى بقية ركاب السيارة؛ فرح في المرتبة الأولى مستيقظة، بتسريحة شعر مكركبة وفشار في حجرها. ياسر كما هو عليه وكأنيّ لم أغف إلا ثانية.
وبالمناسبة! "كم قضيت من الوقت نائمة؟"
"ساعتان" أجاب ياسر
"ماذا؟" تقدمت من مقعدي وأصبحت ملاصقة لمقعد ياسر من الخلف وتشبثت برأس المقعد "أين نحن الآن؟"
"دخلنا الرياض للتو"
وحينها فقط انتبهت لإضاءة الرياض العارمة، ونَفَسي بدأ يصبح ثقيلًا وسريعًا.
"بأي حي تسكنين؟"
"الورود"
"نصف ساعة وسنكون هناك بإذن الله"
هذا حقيقي
هذا حقيقي
هذا حقيقي
هذا ليس حلم منى
"أتعرفين أين تسكنين بالضبط؟"
"نعم أستطيع وصف المنزل اذا اقتربنا من الحي"
"جيد"
الكلمات ثقيلة، التنفس ثقيل، ضخ الدم ثقيل. أنا انهار ببطئ.
"أتريدين الاتصال بهم الآن؟"
"لا أعلم" انفجرت باكية وكأني قنبلة موقوتة "ياسر أرجوك أخبرني هل عليّ فعل ذلك؟ انا لا اعلم"
ربما تهيأ لي ولكن رأيت عينا ياسر تلمع، ممتلئة بالدموع "لتعطيهم خبر مسبق، المفاجأة ستكون ثقيلة وانتِ على عتبة بابهم"
تأكدت من نبرة صوته إنه متأثر بالفعل.
عدت لمقعدي بكل هدوء "أنا من ستكون المفاجأة ثقيلة عليه"
اقتربنا من المنزل كيلومتر بكيلو، مترًا بمتر، خطوة بخطوة حتى وقفنا أمام باب المنزل.
فتحت الباب بيدين مرتجفتين وعندما كنت على وشك النزول اقترب موسى مني وهمس في أذني "هل يمكنني النزول للحمام؟ لا أستطيع حبسه أكثر من ذلك"