أنا في سيارة مع شاب غريب وطفلين. هل يمكن أن تأخذ رحلتي منحنى أكثر غرابة من ذلك؟
كنت في المرتبة الخلفية والطفلان في المقدمة.
أخبرني ياسر أن الرياض تبعد ٥٠٠ كيلو من حيث كنّا؛ أي خمس ساعات.
المدة طويلة جدًا وأنا لم أكل منذ شروق الشمس وهي الآن على وشك الغروب، فقررت أن أكل جميع ماتبقى من الأرغفة بنهم شديد شديد.
أخرجت الرغيف الأول وقضمت نصفه مرة واحدة ومضغته سريعًا والتهمت النصف الآخر ثم توقفت، فقد كان الطفل ينظر إلي بفضول. بلعت القضمة الثانية بدون مضغ وأحسست بقلة أدبي لذا أخرجت رغيفين وقدمته للطفل وقلت "تفضل" فالتفتت الفتاة وياسر في هذا الوقت فابتسمت وقلت للفتاة "وواحد لكِ أيضًا".
حدقت الفتاة في رغيفي باشمئزاز واضح وإن حاولت تخفيه، حسنًا يجب ان اعترف أن الرغيف ليس في أفضل حالاته إذّ أنه قد لامسه التراب في بعض الجهات وربما كانت النظرة المشمئزة لأظافري الممتلئة بالتراب على أي حال لم يقبل أيّ من الطفلين رغيفي، فابتسمت لهما وفي داخلي أكاد اقسم أني كنت سأفعل نفس الشيء لو كنت مكانهما، فبعد كل شيء أنا غريبة عنهم كذلك وذات يدين متسختين.
وعندما ارجعت يدي لأعيد الرغيف للحقيبة سحبه ياسر وقال "أنا أريده" قضم منه قضمة ثم نظر إلى الطفلين وقال "ألستما جائعين؟"
وهنا هبت الفتاة على قدميها لولا أن المساحة ضيقة مما جعلها تستقر على ركبتيها "أنا أنا أنا جااائعة! هل نستطيع التوقف عند ماكدونالدز؟؟"
ماكدونالدز. لعابي بدأ يسيل.
أردت الانطلاق مع الفتاة لولا أنّي خفت أن يرموني من السيارة لذا دعوت سرًّا أن يوافقها.
سكت ياسر لوهلة ولم يجب على الفتاة ثم قال بفمٍ محشوّ بالرغيف "أولًا يجب أن تأكلي من رغيفها! هل من الأدب ردّ الهدية؟"
"ماذا؟؟" انهارت الفتاة على الكرسي "أخاف أن أمرض إن أكلته"
"هل مرضت أنا؟" ثم اشار إلي "هل تبدو مريضة؟"
"لا" قالت بإحباط
التفت إليّ الصبي وتحدث لأول مرة "هل من الممكن أن تناوليني رغيفًا؟"
فناولته مع ابتسامة وكذلك ناولت الفتاة ثم تنحيت جانبًا خلف مقعد ياسر وهمست قريبًا من إذنه "شكرًا"
رأيت إنعكاس ابتسامة خفيفة في المرأة الأمامية.
بينما الأطفال يأكلون الرغيف ويحشوه بسرعة في أفواههم حتى ينهوه كان ياسر قد أنهى رغيفه وقال بنبرة عالية وحماسية "والآن! من يريد ماكدونالدز؟"
رفع كل من في السيارة يديهم مع صراخ، نعم وأنا معهم ولكن اكتفيت برفع يدي من دون الصراخ.
أخذ ياسر أول انعطاف عن الشارع الرئيسي ليتمكن من الوصول لأقرب الضواحي في طريقنا.
قلت محاولة تلطيف الجو وبما أن الجميع نسبيًا سعيد "امم هل أنتم إخوة؟"
قال ياسر "نعم"
"أنت ياسر، ولكنّي لم أعرف أسميهما بعد!"
"ونحن كذلك لم نعرف اسمك بعد"
"ااه منى، إنه منى! لا أعلم كيف لم أخبركم به من قبل"
"وهذه فرح وهذا موسى"
أردت السؤال أكثر عنهم حتى لانكون غرباء في نهاية الرحلة ولكن خفت أن أكون ثقيلة الظل فصمتّ.نظرت من الشباك للخارج، وأضواء الشارع فوقنا وأضواء إحدى المحافظات أمامنا. هل من الغريب أن أقول أني اشتقت لإنارة الشوارع كذلك؟
أشعر بأني في جسدٍ غير جسدي وعينين جديدتين لم تعتد على أيّ من هذا كله! حتى السيارة أردت البكاء عندما ركبتها فهي كذلك تبدو غريبةً عليّ وكأني ماعرفت في دنياي كلها سوى الصحراء والنجوم.
دخلنا المحافظة وعند أول إشارة مرور سأل ياسر من في السيارة المجاورة عن أقرب ماكدونالدز فأشار إليه بالطريق. طلب كلا من فرح وموسى وجبة طفل وطلب ياسر لي وله نفس الوجبة من دون أن يسألني. حسنًا هذا وقح بعض الشيء!
ولكن كيف ألومه؟ في النهاية أنا متطفلة، ركبت سيارته ومع أخوته والآن سيطعمني بماله وأريد أن أختار الوجبة المفضلة لدي؟ أنا من ستكون الوقحة فعلًا.
أستلم ياسر الوجبات ثم قاد بالسيارة حتى خرجنا من المحافظة وتوقفنا بعيدًا قليلًا. أخرج فرشة بنيّة اللون وفرشها بجانب السيارة وأخرج الطعام وارتجلنا جميعًا من السيارة. ثم أخرج ياسر قارورة ماء كبيرة وناداني وإخوته للغسيل فأتيت معهم طوعًا وإن كنت لا أريد أن أفارق البطاطا المقليّة ولو لثانية. وأمر إخوته بالوضوء لصلاة المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا ولم يقل لي شيئًا فبالطبع أنا لم أترك له المجال للتخمين إن كان عليّ صلاة أم لا، ولكن أنا من استغرقت الوقت الأطول بالغسيل، فتلك الأتربة المتراكمة تحت أظافري لعينة لاتخرج بسهولة وقد بدأت أُحرج وأنا أعطّل ياسر عن صلاته وطعامه فقد كان هو من يمسك لي القارورة لذلك توقفت قبل أن تنظف أظافري تمامًا فقال لي "اكملي"
قلت وانا انظر للأرض "اذهب انت للصلاة انا سأكمل بنفسي"
سكت طويلًا مما جعلني ارفع رأسي وانظر إليه وما إن فعلت حتى قال "اكملي" بهدوء، اكملت غسيلي على عجالة وذهبوا للصلاة في مقدمة الفرشة وأنا والطعام في آخرها.
أنا والطعام.
أنا والبطاطا المقلية.
أنا والبرجر.
أنا والعصير طازج.
أخرجت وجبة وفتحتها وما إن قضمت أول قضمة ومضغتها وبلعتها حتى بدأت دموعي بالسيلان وكتفيّ يرتجفان من البكاء وأنا أحاول أن أبقي بكائي صامتًا قدر المستطاع.
أشعر وأن الكون قد توقف لوهلة وأنا أتذوقها. كلا أشعر بأن الكون تلاشى. لم أعلم بأن الرغبات الجسدية قد تطغى على الرغبات النفسية، فأنا الآن وفي طريقي لوالدتي و والدي وحياتي أبكي للذّة البرجر التي في يدي.انتهى ياسر وأخوته من الصلاة والتفتوا إلى وجباتهم وإليّ وأنا أجهش بالبكاء. لم يقل لي أحد شيء حتى اكملت البرجر وأخذت رشفة من العصير ثم قال لي ياسر بكل بساطة "لذيذة أليس كذلك؟" لم يسألني لماذا أبكي أو إلى هذه الحد أنتِ مثيرة بالشفقة؟ بل وكأنه يشعر بما أشعر به. أجبته نصف باكية "لذيذة جدًا" ثم انقضيت على البطاطا المقلية.
حينها علمت أني كذلك لديّ لسان جديد وآذان جديدة وإحساس جديد وجلدٌ جديد وعقل جديد وقلب جديد.
أنا لم أعد منى، فمنى تلك التي أعرفها تركتها تحت الشجرة مستلقية لا لتغفو بضع دقائق بل لتغفو دهرًا، فما أنا الآن عليه هو شخص جديد.