المنزل، لم أعتقد يومًا انه سيكون مكان أشتاق إليه. لأنه بكل بساطة المنزل! موجود طوال الوقت، تستطيع العودة إليه متى ما أردت لهذا لانضعه في قائمة الاشتياق.
الآن سأعطي أي شيء مقابل العودة إليه. أي شيء. أي شيء.
هذا الهراء سينتهي الآن منى. لانوم، لاحشرات، لا مشاعر وانهيارات نفسية ستكون عائقًا بعد الآن.
اشرقت الشمس منذ عشر دقائق، وقفت على قدماي اخرجت بنطالي القديم.. سيتعرفون عليه أهلي بالطبع إن وجدوه! أو هذا ما كنت آمله. قطعت منه رقعة متوسطة الحجم وتركتها تحت صخرة كبيرة نوعًا ما، ثقيلة عليّ لذلك افترضت ان الرياح لن تزيحها بإذن الله.
أردت الركض ولكن الركض خيار سيء سيفقدني طاقتي بسرعة ويتطلب مني المزيد من الطعام والشراب، لأُكمل مشيًا إذًا.
أشعر بأن هذا ليس كافيًا..
جمعت بعضًا من الحصى الصغيرة وبجانب رقعة القماش صففت أولها بخط مستقيم والبقية أكملت به رأس السهم الذي يشير للإتجاه الذي سأمشي فيه.
ومشيت.
حتى ارتفعت الشمس في كبد السماء وبين كل فترة اقطع من قماش البنطال واصنع ماصنعت سابقًا.
حاولت ألا أتخيل سيناريوهات عدة لكل المواقف التي من الممكن أن أؤول لها:
- ينفذ الطعام قبل الوصول لخط السيارات
- انفذ انا من عقلانيتي وأجنّ هنا
- بمعجزة ما يظهر لي والدايلم تحدث أي من السيناريوهات السابقة ولكن حدث ماهو منطقي، منطقي جدًا لتسلسل أحداث رحلتي. ملامح جسم ما بدأ بالتكون على مدى الأفق كانت فتاة، كلا بل صبي، كلا إنهما صبي وفتاة يلعبان بالرمال.
أيعقل أن السراب يتجسد لي كهيئةِ أشخاص؟
كلا لايعقل! فبدأت بالإسراع في المشي ثم الهرولة ثم الجري
والمشهد يبدأ بالوضوح شيئًا فشيئًا. خطواتي بدأت بالتسارع، وتسارعت أفكاري قبلها.
إنها النجاة والحياة مرة أخرى يا منى إنها النجاةلكن مع كل متر اقتربه منهم هناك شيء آخر بدأ يتجلى كذلك. مكعبات معدنية ضئيلة سريعة للغاية.
أهي حقًا النجاة يالله؟
وعندما وصلت للطفلان وتبينت مما رأيت فعلًا. خارت قواي فسقطت على الأرض وبدأت بالبكاء صمتًا.
أخذ الطفلان يحدقان بيّ وماهي إلا ثانيتان حتى بدأوا بالصراخ وانطلقوا مبتعدين عني إلى سيارة تقف جانبًا لم ألحظها مسبقًا.
حاولت أن أجمع شتات نفسي وعقلي وجسدي قبلهم، ولكن لم أستطع. لا أستطيع تهدئة نبضات قلبي ولا تتظيم تنفسي الذي بدأ بالتحول إلى شهيق.
خريت على الأرض ساجدة باتجاهٍ غير القبلة ومن غير طهارة فتساقطت دموعي لترطب التراب الذي تحت وجهي وقلت "الحمد والشكر لك يالله" فقط. فقط. فقط.
كان في صدري معلقات أردت أن ادعوا الله بها ولكن هذا وحده ماخرج من شفتاي.
حينها اقترب مني أحدهم فرفعت من السجود بعينين محمرّتين ووجنتين مبتلتين وابتسامة حزينة.
وقف شاب مقابلي وأمام قرص الشمس مما جعله يكتسي بالسواد فلا أكاد أستوضح ملامحه وقال "ماذا تريدين؟"
فنظرت له بابتسامة -أشعر بأنها حمقاء جدًا- بدون أن أقول شيئًا. فكيف أقول وماذا أقول؟ فلا شيء يقال بعد الآن سوى الحمدلله
طّل ظل صغير من وراء الشاب فرأيت الفتاة التي كانت تلعب مع الصبي سابقًا "هل أنتِ هنا لتأكلينا؟"
فانفجرت ضاحكة ضحكًا حقيقي هذه المرة، حقيقيّ فعلًا أكثر مما عشت في أيامي الست فذاك يبدو أنه من ضرب الخيال ووحي القصص. رؤيتهم تجعل ماحدث غير حقيقي، تشعرني بأنني كنت في حلم والآن قد استيقظت.
"لا، أنا لا أكل الاطفال" وقفت على قدماي و وجهت حديثي الآن للشاب وأنا أشير إلى المكعبات المعدنية وقلت بأنفاسٍ متقطعة "هل هذا.. فعلًا.. طريق معبّد.. حقيقي.. يعود بي إلى الرياض؟"
تردد الشاب قبل أن يتكلم ثم قال "نعم"
فأغمضت عيناي وفتحت ذراعاي للأفق وصرخت. نعم صرخت كالمجانين، صرخت كالأطفال، وصرخت كمنى، منى الجديدة.
ثم انتبهت لبكاء الطفلين مجددًا، يبدو أني اخفتهما بصراخي فتحول صراخي ضحكًا مجددًا وهنا استطيع أن أقول بكل ثقة أنهم ايقنوا بأني قد جننت.
نظرت للشاب الآن وقد اتضحت ملامحه ويبدو في أوائل العشرينيات من عمره، لا شيء مميز سوى أنه ثاني شخص أتحدث معه منذ ستة أيام.
اخذت نفسًا عميقًا وقلت بجدية الآن "اعتذر ولكن مامررت به في الإيام الماضية كاد أن يفقدني عقلي"
"هل أنتِ تائهة؟"
"كنت" ثم ابتسمت للطفلان "ولكن بفضل الله ثم هذان الملاكان لم أعد تائهة بعد الآن" وسحبتهما من ذراعيهما وضممتها لصدري.
انفجرت الطفلة بالبكاء بأعلى صوت وهي تقول "اتركيني!! ياسر انقذني!!"
أما الصبي فلم يمانع أبدًا بل اخذ ينظر لوجهي طويلًا.
سحب ياسر -الشاب مسبقًا- كلاهما مني وقال "هل فقدتي عقلك؟"
"كلا! والآن إن تكرمت هل يمكنك إخباري إلى أين وجهتك؟"
"ولِمَ أخبرك؟"
"حتى تساعدني لأعود لعائلتي"
"ولِمَ أساعدك؟"
بلعت ريقي مرتين "ربما لم تعي ماقلت مسبقًا، لقد ضعت في الصحراء ومنذ ستة أيام وانا ابحث عن مخرج وها هو ذا" واشرت للطريق
"وكيف ضعتِ في الصحراء؟"
"لقد نسوني أهلي هنا"
"نسوك أم تخلصوا منك؟" ثم قال بنبرة خافتة للطفلان "وبرأيي لديهم سبب وجيه لفعل ذلك"
انفجرت وقلت "هل تظن أني لم اسأل نفسي هذا السؤال ملايين المرات؟؟؟ قلت لهم بأني سأغفو بضع دقائق تحت الشجرة وعندما استيقظت لم أجد أيّ منهم" بدأت دموعي بالتجمع في مقلتي "بحثت وبكيت طويلًا وانتظرتهم كثيرًا ولكن لم يعودوا وعندما قررت أن أخذ بزمام أمري وذهبت اتبع أول سيارة رأيتها حتى أعود، هل تعلم ماذا حدث؟؟" لم أكن انتظر اجابته وأكملت "تخلصوا مني وطردوني ظنًا بأني اتيت لأسرقههم ولكن هذا لم يكن كافيًا وفي اليوم التالي ماذا يحدث؟ الدورة الشهرية" ااه ربما لم يجدر بي قول ذلك ولكن قد فات الأوان "وها أنا ذا من ثلاث أيام أمشي بمفردي متأملة بالنجاة والعودة لحضن أمي، لتقول لي ماذا لو أنهم أرادوا التخلص مني؟" ارتفع صدري وهبط من الغضب وهربت دمعتان من عيناينظر الشاب للصبي ثم للفتاة وقد علت على وجوههم الحيرة وربما القليل من الشفقة ثم نظر إلي فقال "الرياض وجهتي"